الخميس 2019/12/19

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

فادي طفيلي لـ"المدن": تهميش الشعر فرصتُه كي يتحرر

الخميس 2019/12/19
فادي طفيلي لـ"المدن": تهميش الشعر فرصتُه كي يتحرر
الطبيعة والشعر صديقان قديمان جدًّا
increase حجم الخط decrease
يواظب الشاعر والكاتب، فادي طفيلي، على نشر شعره وسرده، وها هو اليوم يصدر مجموعته الشعرية الجديدة "شارع الخامسة صباحاً" عن "دار الجديد"، على أن يوقعها في 22 الشهر الجاري
عن شعره، ومجموعته، وتجربته على العموم، هنا، مقابلة لـ"المدن" مع طفيلي.

- منذ أكثر من عقد والشعر يتعرّض للإقصاء، وأنت، كقلّة، لا تزال تؤمن به، فهل تكتبه لردّه إلى موقعه القديم أو لتحويل منفاه إلى محلّ جديد؟

* أنا أرى في هذا الإقصاء حافزًا شديدًا للخوض في الكتابة الشعريّة من دون حسابات، وعاملًا تثويريًّا للمنطق الشعري بحدّ ذاته، كما للمنطلقات والمقاربات التي يعتمدها من يصرّ على المضي في هذا الطريق الكتابي الشاق، الذي لا حدود له ولا خطوط ولا خرائط ولا مكاسب ومحطّات. الإقصاء يُثوِّر، كما نعلمُ ونشهدُ ونختبرُ، كلّ يوم. والتهميش هو فرصة الشعر لكي يتحرر، وفرصة لفتح طرق الأسرارِ ومسالك الطُفّارِ للخارجين على التيّار السائد والأنساق القائمة على نظم العلائق العامّة والخدمات وبيانات السوق وبورصات التجارة وبرامج الترويج. وفي هذا برأيي ما يمكن له أن يُنقذ النتاج والنصّ الشعري من "بازار" الزيف والرياء والابتسامات الكاذبة والمصافحات المسمومة التي يتحيط بنا. كما قد يساهم الأمر في استدراج الشعر إلى وجهات أكثر نضارة تحكمها مظاهر الطبيعة وأشعة الشمس وأطياف العتم وتآليف الغيوم والمطر والرياح والظلال. وهذا يمكنه أن يُعيد تصحيح علاقتنا لا باللغة والمشاعر والأفكار وحسب، بل أيضًا بالمكان وبأحيائه، فنعيد وصل المدينة والفضاءات المُعمَّرة بالأطراف والخلاءات والأرياف والمساحات المُهملة. فنخرج بذاك من تضخّمات فقاعة العيش الهشّة وأضوائها الخُلّبيّة التي تحكم نظرتنا في الأشياء، إلى فضاءات الحياة الحقيقيّة ومسالكها المتشعّبة التي تفرط المراكز والثنائيّات وتُبعثر مظاهر التسلّط والطغيان.

وفي الإقصاء الذي تعرّض ويتعرّض له نوع الشعر، من قبل سلطات النشر والترويج والإتّجار الثقافي، ثمّة ما ساهم في إيضاح العديد من المظاهر الشكليّة السلبيّة التي كانت سائدة في مسرح الشعر. فقد كشف ذلك الإقصاء ظواهر "بطريركيّة" عديدة وعرَّاها، كما أنهى ظواهر "نجوم" غير مُستحقّين وأخمدها، وساهم في فتح الكتابة الشعريّة على أنواع كتابيّة وإبداعيّة أخرى، كالقصّة القصيرة والقصّة القصيرة جدًّا، مثلًا، وعلى سرديّات المرئي والمسموع وغيرها. فما عاد الشعر يتغذي من نفسه ويدور حول ذاته فقط. من هنا فإنّ ما أحلّه ذاك الإقصاء يفترض تجاوز الموقع القديم للشعر والسير قُدُمًا بلا وجلٍ في مسارات المنفى وفي المساحات الجديدة والحقول المفتوحة والهوامش المتفجّرة والفضاءات الناشئة واستكشاف ما يمكن للشعر أن يفضي إليه.

- في مجموعتك الجديدة، تتوجّه، ومن الإهداء، إلى فادي أبو خليل، الذي يمثّل في المتخيل الثقافي أسطورة الشاعر المتلاشي من المدينة، من عيشها، من مشهدها، لماذا اخترت الحديث معه؟

* أشعر منذ فترةٍ أن ما كنت أحياه أنا وفادي وما كنّا نتحدّث فيه يوميًّا على مدى أعوام متواصلة، أثّر على نحوٍ عميق في علاقتي الراهنة ببيروت ولبنان والمعارف والأصدقاء، كما أثّر في نطاق يمتد إلى حدود أبعد، فأستحضره دائمًا أينما كنت وأستعيد محادثاتنا الليليّة في الغالب ومشاهد رحلاتنا الطويلة بلا هدف في الطرق اللبنانيّة، في الساحل والجبال بين المناطق، وكأنّنا في مركبة فضائيّة جاء بها من كوكب الستينات ودعاني للإنضمام إليها. وينتابني شعور يوميّ برغبة استئناف أحاديثنا تلك والتوقّف عندها. إلّا أنّني، وفي الوقت نفسه، أنحني أمام القرار الذي اتخذه فادي وأقدّره وأفهمه كثيرًا، فلا أحاول التشويش عليه والاقتراب من تخومه، وأرى أنّ تلاشيه من المدينة ومن مشاهدها المباشرة وعيشها الممجوج، يشكّل وبطريقة ما استئنافٌ لعلاقتنا التي لا يمكنني تأطيرها في حدود واضحة أو جامدة.

اختياري للحديث معه يمثّل إلحاحًا يعتريني لاستئناف علاقتي به وتجديدها، وذاك ضربٌ من ضروب الحديث مع الذات أيضًا. والأمران، أي الحديث معه "هو"، ومع الذات المنعكسة في كيانه، على أهميّتهما، لا يمكن حصولهما إلّا عبر حالة بهذا العمق والشفافيّة كالتي يمثّلها فادي. فالأشخاص الذين يمكنك استحضارهم طيفيًّا لاستئناف علاقة بهم أو حديثٍ معهم، ينبغي أن يكونوا قد حفروا عميقًا ملامحهم وحركاتهم وأنفاسهم في صفحة الفضاء الماثلة أمامك. كما تُمثّل شفافيّة الآخر شرطًا شارطًا لانعكاس ذاتك عليه.

- غالبًا ما تدور قصائدك، ومن عنوان مجموعتها، مكانيًّا، أي أن رجاء شاعريتك هو حيّ، شارع، مبنى إلخ. كأنّ هذه الشاعريّة، من ناحية، تشتغل من دونك، ومن ناحية ثانية، تشتغل جغرافيًّا، هل المكان شِعري بالضرورة، ودور الشاعر هو أن يكون وصّافه فقط؟

* في تحصيليّ العلميّ المدرسي كنت دائمًا أنحاز إلى الفيزياء والهندسة مقابل التفاضل والتكامل. المسألة ليست مسألة مكانٍ وحسب، بل أيضًا مسألة مواد وشكل وملمسٍ ومشهد وتضاريس. والنصوص التي تمسّني وتخاطب ذائقتي وتتفاعل معها هي دائمًا نصوص خائضة في المواد والتضاريس. يخطر في بالي الآن تلقائيًّا بريمو ليفي وجدوله الدوري (Primo Levi, The Periodic Table ) ومداخله البديعة للكلام عن الأشخاص والأحاسيس والنفس من خلال ملاحظات بالغة الإيحاء تتعلّق بمواد الكيمياء وتفاعلاتها. تعوزني على الدوام أرضٌ ومسالكٌ ودروبٌ وموادٌ للغةِ والكتابة. لا يمكنني السير في فراغ، ولا تستهويني اللغة الفراغيّة. الكتابة بحسبي تحتاج لذريعة تنعقد أواصرها من علاقة أحياء بمكان حياتهم. ثمّ أنّ الأمر يتعلّق، في الأساس، بتحصيلي الهندسي واهتماماتي المدينيّة-المكانيّة المرتبطة به. وأنا كتبت نصوصي الشعريّة الأولى المنشورة في خضمّ تحصيلي ذاك. فرجاءات الشاعريّة المتجسّدة في حيّ أو مبنًى أو شارع، هي بالنسبة إلي، كائنات فاعلة في صيرورة القصيدة وحقل النصّ. ولا أعرف إن كانت هذه الشاعريّة تشتغل من دوني، لكنّي أوافق على اشتغالها الجغرافيّ وانغماسها بالمكان، والذي هو انغماس يتطلّب وقتًا وتجربة ومعايشة حقيقة يوميّة، لا مُجرّد عبور. لهذا فإن الوصف الذي تتحدّث عنه إن وجد فهو أقرب إلى توقيع الخرائط وتحديد العلامات.

- وفي قصائدك أيضاً، ثمّة طبيعة تزول وتولد، كيف يمكن للشعر أن يكون بيئيًّا؟

* الطبيعة والشعر صديقان قديمان جدًّا وعلاقتهما الوطيدة تعود إلى زمن سابقٍ بكثير لتأسيس الوعي البيئي على يد الجغرافي وعالم الطبيعة والمستكشف البروسي في القرن التاسع عشر ألكسندر فون هومبولت (Alexander von Humboldt). الأشعار الرعويّة القديمة كلّها تدور في الطبيعة، وكذا هو الحال بالنسبة لأشعار الجاهليين العرب الحافلة بالخيول والرمال والمفارق والهضاب والواحات والرياح وأصوات العناصر والمخلوقات. فالمسألة هنا ليست مسألة دعاوى بيئيّة تعليميّة وإرشاديّة وتعبويّة. بل هي خوض في مسارح الحياة وأهواء الأحياء ومشاعرهم.

- الحرب حاضرة في مجموعتك، وانتماؤك إلى الحزب القومي أيضًا، ألم ينتهِ مفعولهما فيك بعد؟

* هذه على الأرجح إصابات ورضوض عميقة في النفس من الصعب تجاوز مفاعيلها في حياة واحدة. وهي ربّما تغيب في نصّ، أو في طرحٍ، أو مشروع، إلّا أن تصفية الحساب معها تبقى صيرورة مستمرّة وجزءًا من الحياة ذاتها. شطرٌ كبير من العلاقة مع فادي أبو خليل طوال التسعينات قام على معضلة العيش في ظلّ حرب سالفة لن تعود، لكنّها حاضرة بيننا وماثلة أمام أعيننا ونابضة في مشاعرنا. حرب غائبة، لكنّها غير منتهيّة. ميّتة لكنّها لم تحظَ بجنّازٍ ومراسم دفن وحداد. وبخصوص مروري العطر في الحزب القومي، فإنّ ما كتبته عنه إلى اليوم لا يربو عن كونه لمحات قصيرة لما يمكن أن أكتبه يومًا. فتلك تجربة فظّة من ناحية نشأتي، كونها بدأت من عمر حسّاس ودقيق نظرًا لقوميّة الوالد العتيقة والصوفيّة، ومرّت في توتّرات المراهقة ثمّ انحلّت من تلقائها وتهافتت دفعة واحدة خلال فصلي الأوّل في الجامعة. لا أظن أن مفاعيل هكذا أمور قابلة للامّحاء.

- أنت من جيل شبّ في التسعينات، وغالباً ما تقرظها من جهة أنّها كانت بمثابة إقبال على عيش ثقافي حيّ للغاية، لكنه سرعان ما انتهى، كيف تصف هذه المرحلة؟

* هذه حقبة مفصليّة ومحطّة حاسمة في حياتي. فإلى إيفوريا الخروج من الحرب، تلك الإيفوريا العامّة التي تُرجمت حفلةً مفتوحة وسهرًا يوميًّا في بيروت وانفتاح مناطق ورحلات استكشاف لبنانيّة، فإن ذاك زامنه على الصعيد الشخصي دخولي الجامعة وسيّارتي الأولى وبداية استقلالي الاقتصادي وانخراطي في جوّ كتابيّ ونقاشي مُثابر وإحساس غريب عجيب وقويّ، ربّما مصدره تلك الإيفوريا، ومفاده استحالة العودة إلى الحرب. وهذه الأمور جميعها، على الصعيدين الشخصي والعام، كان لها انعكاسًا مؤثّرًا من الناحية الثقافيّة. وأنا أقصد بالثقافة هنا "العيش الثقافي"، أو ثقافة العيش، والمساجلة، والنقد، والمراجعة، والمعارضة، والرفض. وتلك كلّها في التسعينات كانت جديدة بالمعنى السلمي، على الأقل بالنسبة إلي وإلى مَن هم من جيلي. فكنّا نخوضها على نحوٍ محموم وصاخب وغير مهادن، حيث ساهم ملحق "النهار" آنذاك، بنهجه غير المساوم في مواجهة الوصاية السوريّة الأسديّة ومعارضة النيوليبراليّة الحريريّة، بإعلاء أصواتنا وبتدعيم ثقتنا بأنفسنا..

كما أنّني في تلك الفترة تعرّفت إلى شخصيّات بالغة الأثر في ذائقتي الشعريّة وبنيتي الإنسانيّة- الثقافيّة، مثل بسّام حجّار، والذي زاملته في أواخر التسعينات بملحق "نوافذ" في جريدة "المستقبل" على مدى أكثر من عقد، مع حسن داوود ويوسف بزّي (وشوقي الدويهي، لمرحلة قصيرة). والحقّ أن هذا الملحق مثّل مختبرًا كتابيًّا حقيقيًّا تأثّر بما نشأ في الأدب اللبناني منذ منتصف الثمانينات وطوال التسعينات من نزعات مقاربة المكان ورصد مظاهر العيش وتحوّلات الاجتماع والعمران.

- أنهي بهذا الاستفهام: ماذا يحصل عند الخامسة صباحًا؟

* يحصل التقاءٌ فاتن بين يد الضوء الصاعدة ببطء نحو غرّة الصبح، وبين أطراف شعر الليل المتواري في الأمس. يحصل ذاك الاختلاط اللذيذ والخفي في أحاسيس الجسد العابر بين النوم والصحو، بين الأحلام واليقظة. إنّها لحظةُ تداخلٍ آسرة بين البداية والنهاية.               
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها