الأربعاء 2019/12/18

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

نوري الجراح لـ"المدن": التراجيديا السورية، في نظري تراجيديا كونية

الأربعاء 2019/12/18
نوري الجراح لـ"المدن": التراجيديا السورية، في نظري تراجيديا كونية
بلى.. ثمة شِعر أربك النظام السوري!
increase حجم الخط decrease
أصدر الشاعر السوري، المقيم في لندن، نوري الجراح، مجموعته الجديدة بعنوان "لا حرب في طروادة" عن منشورات المتوسط - إيطاليا، ويأتي بعد تجربة طويلة مع الشعر بدأت في بداية الثمانينات، وأصدر خلالها العديد من المجموعات الشعرية. وفي كتابه الجديد، بدا مسكوناً بدمشق والمسألة السورية. فبحسب كلمة الناشر يستحضر "ذلك المناخ السحري للحارات الدمشقية ومنعطفاتها الضيّقة والظّليلة على تخوم بوابة "معبد جوبيتير" و"المِسْكيّة" وقوس "باب الشمس" شرقي المدينة، أو طفولة حيّ المهاجرين الشاهقة التي تنحدر إلى العالم كلّه". عن الكتاب وكتب أخرى، وعن المسألة السورية، كان هذا الحوار..

- لماذا العودة إلى الميثولوجيا اليونانية الآن: هوميروس وطروادة؟

* دعني، بداية، أعترف بأن ميولي المبكرة في قراءة الشعر المسرحي والأساطير القديمة والمسرحيات والمحاورات، أكانت تلك التي ترجمت إلى العربية عبر اليونانية واللاتينية، أو التي نقلت من اللغات المسمارية والأوغاريتية والهيروغليفية ولغات أخرى قديمة، إنما لعبت دوراً حاسماً ليس في تشكيل ذائقتي وحسب، وإنما في بناء تصوراتي عن الشعر والفن بصورة عامة.

ما لم يكن في اهتمام القراء من جيلي من نصوص قديمة، كان مصدر شغف بلغ بي حد الولع بكل ما هو قديم مما يدخل في باب الأدب. ولمجرد أن النص كتب قبل قرون، كان شيئاً مذهلا لي. لكأنني، عبر سفري مع تلك النصوص واتصالي من خلالها بعوالم أخرى وبشر آخرين عاشوا في أزمنة سحيقة كنت أضيف إلى حياتي حيوات أخرى.

شِعري لم يقتصر على استلهام، أو استدعاء، النماذج الميثولوجية اليونانية، ففي شعري إحالات ومرجعيات ميثولوجية ودينية متعددة المصادر، آشورية وفرعونية وقرطاجية وآرامية وعربية قديمة. وهناك إشارات توراتية ومسيحية وإسلامية. في السنوات الأخيرة، ولاعتبارات تتصل بخصوصية الأوديسة السورية، برزت مصادري الهيلينية، والإغريقية أكثر. وأحب أن ألفت النظر هنا إلى الأثر الطاغي لفن المسرح في شِعري، وخصوصاً المسرح الإغريقي، وولعي بحضور الجوقة، والرسول، والأقنعة في هذا المسرح. في حين يشغل المسرح الشكسبيري حيزاً مهماً في المصادر الملهمة لشعري.

والآن أتساءل ما السر في ذلك الشغف بالسفر في رحلات متواصلة مع أخيلة وحيوات زائرة من الماضي عبر قراءة نصوص كتبت في أزمنة سحيقة؟

ما من جواب شاف. لأن ذلك الشغف لم يكن مجرد نوع فضول معرفي. كان أكثر من ذلك بكثير. شيء كان له قوة السحر، وقوة الرغبة في السفر عبر الزمن.

لقد اكتشفت في وقت لاحق أنني لم أعتبر نفسي يوماً مواطناً مقيما في مدينة محددة. كل شيء فيّ كان متمرداً على هذه الفكرة البليدة. كنت أعتبر نفسي كائناً في كون، وأريد أن أتحرك خارج كل الاشتراطات. شيء يشبه أن تكون مالك هذا الكوكب المدهش الذي لم تورثك إياه لا العلوم ولا الديانات، ولكن أورثتك إياه الأساطير القديمة. لكأنك استيقظت من حلم ووجدته ووجدت نفسك. هل يمكن اختراق الوجود وإدراك الكينونة بعيداً عن أخيلة الشعر وعن سحر اللحظة الشعرية؟

لعل ما يعتبر اليوم ميثولوجيا يونانية هو، بالتأكيد، أكثر من يوناني، ليس فقط لأن له أصولاً ومرجعيات قديمة افريقية ومصرية وكنعانية وآرامية (كما فصل في ذلك كتاب "أثينا السوداء" لمارتن برنال الذي درس الجذور الأفريقية والأسيوية للحضارات الكلاسيكية ( Black Athena: The Afroasiatic Roots of Classical Civilization)، ولكن، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى هذه الميثولوجيا من منظور هيليني. فالهيلينية، جغرافياً وثقافياً، شملت سوريا، بل إن سوريا القديمة كانت طرفاً فاعلاً في تأسيس الهيلينية، وبالتالي فإن جزءاً أساسياً مكوناً من تاريخ سوريا التجاري والعسكري والأدبي والفكري والفني وكذلك الديني، مرتبط حتماً بهذه الهيلينية، وبتفاعل الأقوام المختلفة في إطار الرابطة الهيلينية. بل إن أرباباً أساسيين في البانثيون الإغريقي، كانوا سوريين، مثل بوصيدون إله البحر، وهو يوصف بأنه حامي صيدا، وباخوس إله الخمرة وهو إله سوري حمل اسم ديونيسوس، إلى جانب أن تأسيس المدن الإغريقية الأولى في الجزر اليونانية تم بخبرات وهجرات لأقوام سورية متعاقبة، ناهيك عن أن الأبجدية اليونانية إنما حملها إلى اليونان (برواية الإغريق) الأمير قدموس ابن أكينور الملك السوري على مملكة صور. والذي أسس عدداً من المدن الأولى في جزر اليونان حسب الرواية نفسها.

والرابطة الهيلينية هي ما سمح بظهور عباقرة أدبيين، مثل لوقيانوس السميساطي السوري المولود على الفرات الأعلى، والذي كتب باليونانية أدبا خالداً، وتعتبر أعماله شواهد كبرى قرت في الذائقة الأدبية عبر العصور ووصلت إلى أزمنتنا الحديثة. والواقع أن الشعر لم ينفك، عبر الأزمنة المختلفة، متصلاً بالأسطورة والسحر وعوالم الماوراء. فهو يتحدر منها ويرقى، مع بعض الأعمال الأدبية الكبرى، قديماً وحديثاً، إلى أن يكون مولداً لها. والأمثلة حاضرة في الأذهان.

ولعل ما وسع في مفهومي لهويتي كشاعر يتحدر من مدينة عريقة هي دمشق، هو هذا الولع الثقافي العابر للأزمنة والأمكنة معاً، وهو ما ساعدني على اكتشاف انتمائي المتوسطي غير المنفصم عن انتمائي إلى اللغة العربية، وذلك من خلال قراءاتي عن الدور الاستثنائي الذي لعبته دمشق وأخواتها من المدن السورية (بالمفهوم الجغرافي الذي يشمل سائر المدن الكبرى في بلاد الشام) في التاريخ الاقتصادي والثقافي والسياسي لحوض المتوسط. إن في عصور ما قبل المسيحية واليهودية أو مع ظهور الإسلام، وما رافق ذلك من تفاعل حمل وجوهاً عديدة وعرف أطواراً متقلبة بين الضفة الشرقية وبقية ضفاف البحيرة، لم يكن العنف أبرزها.

عندما أسافر اليوم في المدن والجزر المتوسطية ذات الأعلام والهويات المختلفة، ثمة شيء أشعر به بقوة من خلال تفاصيل صغيرة وكبيرة، أسميه "المزاج المتوسطي". ويتجلى في طرائق التعبير عن الذات، في الانتباهات التي ترتسم في الوجوه، في لغة العيون وهي تستقبل وترسل، هي لغة سبقت كل اللغات، وفي المتداول اليومي من منظومة الرموز والإشارات، وفي شتى التصرفات الدارجة، وصولاً إلى المائدة، وما أدراك ما للمائدة، عبر العصور، من دور هو عملياً أقوى من كل الأدوار بما فيها دور الديانات والأيديولوجيات في تكوين الإنسان بميوله ونزوعه وتصرفاته وأخيلته.

قبل هذا وبعده هناك تلك السماء عميقة الزرقة الممتدة فوق تلك البحيرة الساحرة التي نسميها المتوسط. ثمة كائن متوسطي يشترك بقوة في ما يميزه حضارياً، من باب الاختلاف في المزاج وليس ابداً من باب التمييز العرقي، عن ساكنة آخرين في جهات أخرى من الأرض.

- في ضوء هذا التصور الذي تطرحه، لارتباط الشعر بالميثولوجيا، والشاعر بالمكان، كيف تبدو لك الكتابة الشعرية العربية الراهنة؟

* بداية دعني أوضح أنني، لا أتخيل أن تكون طرائقي في الكتابة الشعرية دليلاً إلى قراءة شعر الآخرين، ولا مرجعاً معيارياً للحكم على القيمة الجمالية لما أقرأ.

لكن ذائقتي كقارئ، ينظر إلى الفروق والاختلافات والخصوصيات بوصفها ثراء في الشعر، وكذلك في غيره من الفنون.. هي المرجع.

لا خلاف بيننا على حقيقة أن هناك في الثقافة العربية شعرية جديدة تبلورت ملامحها في الآثار البديعة التي ظهرت خلال الربع الأخير من القرن العشرين وصولاً إلى اللحظة الحاضرة، وقد حفلت بأسماء وتجارب مغامرة ركزت لها حضورا لافتاً في ديوان الشعر العربي.

على أن هذه الشعرية دخلت في طور من القلق الشديد خلال العقدين الأخيرين. ولعلها تشهد، اليوم، مع بعض أبرز تجاربها، نوعاً مقلقاً من النمطية المستجدة، بعد عقود من الشغف بالتجريب والتجديد. ولا شك عندي أن البحث في أسباب ذلك سيبقى متعذراً قبل ظهور حركة نقدية جديدة لا تقدّس المنجز ولا تتعالى عليه.

ولو كنت سأحتكم إلى قراءتي الشخصية لحال الشعر العربي في العقد الأخير، فإنني أرى أن ما يظهر في مدوّنات شعراء ينتمون إلى جغرافيات وأجيال مختلفة، من آثار شعرية إنما يشترك في عدم اكتراثه بأهمية تجديد أسئلته، فهو غالباً ما يراوح في الحدود، ولم يعد يتجرأ عليها كما كان يحاول من قبل. وما يقلقني شخصياً إزاء شعراء أقدّر تجاربهم هو شعوري بأن نصوصهم ابتعدت عن فكرة اللغز، وباتت تضرب في أرض المعلوم، وكأنها اطمأنّت إلى عاداتها، وقد آنست عادياتها، وباتت تشكك على نحو وغيره بضرورة الميتافيزيق للغة الشعر، فلم يعد أصحابها يعتقدون بأهمية أن ينعكس هذا البُعد في الشعر. ويمكن أن نلمس ذلك من خلال موقف الذات الشعرية من أسئلتها، وطبيعة تشاكلها مع هذه الأسئلة. ولعل نصوصاً كثيرة باتت، اليوم، تفتقر إلى موقف فلسفي من اللغة والوجود. عندي أن شعراً كهذا لن يشفع له ارتباطه بأزياء العصر، مهما بدت لغته برّاقة ومغرية. ولكم ذهبت رياح الزمن وأعاصيره بأسماء وأعمال كانت تبدو مقيمة في عصرها كالطود الراسخ، وقد حجزت لنفسها مقعد الخلود. فما بالك بكتابة تنشد الشعر على قلق ولكن نادراً ما تطاله؟!

أخشى ما يخشاه المولع بالشعر، وأنا واحد من هؤلاء، وأعتبر نفسي قارئاً مواظباً، أن يكون سرّ الشعر قد افتضح تماماً، وافتضح معه كيان القصيدة بوصفها لغزاً لغوياً وتخيلياً لا بد أن يصدر عن موهبة خلاقة، بحيث تحولت كتابة الشعر إلى حدث لا يحتاج موهبة فريدة، شيء ممكن لأي أحد في أي وقت بعيداً من معيار الموهبة والثقافة العميقة التي يتطلبها ظهور شاعر. ففي ظل غياب حملة المصابيح من النقاد، وعدم وجود أي نوع من القراءة النقدية العميقة والذكية للشعر، إلى جانب غموض الاتفاق بين الشعراء على المعيار الذي يصنع القيمة الشعرية، وما يبدو من ارتباك تصورات جلّ الشعراء الموهوبين بإزاء صنيعهم الشعري، بل وأحياناً إزاء الوعي ببنية القصيدة ومقوّماتها وإمكاناتها الجمالية، أضف إلى ذلك تخبّط المواهب الشعرية الطالعة في ظل عتمة القراءة. في وضع غريب كهذا، تبدو كل كتابة، لها شكل الشعر، شعراً، ولا يبدو ممكناً بعد ذلك أن يجادل شاعر شاعراً في قصيدته، فالشعر كما يعلن الشعراء هو "الحرية القصوى" و"كلنا شعراء"، نجلس سواسية في الصفوف، فلا أحد يفضل أحداً!

ما يشغلني، باستمرار، هو ذلك السؤال متعدد الأوجه عن طبيعة علاقة الشاعر باللغة، وعن مفهوم القصيدة بالنسبة إلى الشاعر. كيف يكتشف الشاعر لغته، وكيف يبني قصيدته؟ وهل القصيدة ككيان لغوي هي ثمرة عراك خاص للشاعر مع اللغة، وهل يؤتى بالقصيدة عبر تجربة هي بمثابة مغامرة كيانية خالقة للغتها في كيان شعري خاص، أم هي ثمرة تثاقف لغوي وبنائي أو هي صدى لتناص لغوي وتخييلي عمومي ومباح؟

بمعنى آخر هل لغة الشاعر ثمرة عراك خاص له مع اللغة، أم ثمرة اصطياد لتراكيب سبق إليها شعراء آخرون أصبنا ولعاً بطرائقهم ولغاتهم وأخيلتهم الشعرية، فاعتبرنا أنفسنا شركاء لهم في كشوفهم اللغوية والبنائية نقتسمها معهم، بلا حرج، وندرج عليها بوصفها آثاراً ننتمي إليها في اختيارنا للغة الشعر، نازعين عنها خصوصيتها الصادرة عن تجربة كيانية من نوع خاص ترتبط بمغامرة شاعر. وقد أسلمنا انفسنا إلى كسل يعفينا من مشاق المغامرة الشخصية مع اللغة.

لا عجب، إذن، أن تكون الفوضى في ظل حال كهذه، سيدة الموقف، فمدينة الشعر العربي تكاد تكون اليوم بلا أسوار ولا أبواب.

- أوَليست هذه صورة كئيبة؟

* بلى، إنما أرجو أن لا يتبادر إلى ذهن أحد من الشعراء وقرائهم أنني أطلق التعميم في ذلك، أو أنني أفكر بطريقة تحاول أن تحدّ من حرية الشاعر ومن جموح المغامرة الشعرية، فهذان، بداهة، هما ديدن الشاعر والشعر، لا سيما في العصور الحديثة، ولا أجادل فيهما، لكن حديثي، هنا، هو بصدد طبيعة مقلقة لعلاقة الشاعر باللغة وعلاقة الشعر بكينونة الشاعر.

حال شعرية عربية متخبّطة، أتمنى أن أكون مخطئاً إذ أصفها بأنها حال تحفل بالكتابة ويندر فيها الشعر حتى بالمفهوم المتعارف عليه بين شعراء اليوم. إلى جانب غموض المعيار.

من طبع الشعر، ما لم أكن مبالغاً، ومن بداهات أفعاله، أنه يحطم الحواجز ويكسر الجدران المتعالية، لكن نهر الشعر لا يجري إلا لأن له ضفافاً تحيط بتدفقه واندفاعاته. وهذه الضفاف، في فن الشعر، تبدو اليوم ضبابية، غامضة وملتبسة، خصوصاً مع شيوع ذلك التسليم شبه الكلي من قبل الشعراء، بالنثر وسيطاً نهائياً لتوليد الشعرية، وشيوع تلك القداسة في الانتماء إلى ما بات "عقيدة" اسمها قصيدة النثر، بعيداً عن كل شكّ!

وعليه فإنني ضد الشائع الساري من صور نمطية للشعر تؤطره في صيغ وأشكال مقدسة قديمة أو حديثة، بينما هو بمثابة "صف كلام" يفتقر إلى لغز الشعر.


- هل الشعر بحاجة إلى استحضار الرموز والاستعارات القديمة ليكون أكثر وهجاً؟

الشعر لا يتنفس ولا يحيا إلا في الرموز والاستعارات، وعندي أن ليس ثمة في مادة الشعر الأولى، قديم أو جديد، بعيداً من الجوهر، والشعر لا يعترف بالأزمنة، فـ"البعد والقرب واحد" لا جدران ولا حواجز بين ما نسميه الماضي أو الحاضر أو المستقبل، هناك فقط المسافات والعلامات في كينونة متصلة مشعة بالجمال. والشعر يجمح كحصان كوني فوق الحواجز والحدود والتواريخ، الشعر كائن عصري وعابر للزمن.

في لحظة الكتابة، وهي لحظة كيانية، لكونها لحظة اتصال استثنائي للكائن المنصت إلى وجوده عبر الصور والرموز وموسيقى الكون والكلمات، ثمة حدث يفتح الزمن الصغير للشاعر على الزمن الكبير للكون، الزمن كله ملعب الشاعر، الزمن قبل أن يقسمه المؤرخون إلى أزمنة وأمكنة وهويات، ليكون الكون مرئياً ومتخيلاً بالنسبة على الشاعر بكل ما يتحرك فيه وقد اعتمل وتفجر وتلامح وصارت له صورة، هذا الكون، بجباله وبحاره وأنهاره وصحاراه وبلغاته وهوياته، بآلهته وأبطاله وضحاياه، وبإنسانه هذا الكائن الفريد المولع بالجمال هو ورشة عمل الشاعر وكينونته العابرة للزمن.

- تعتبر قصيدة "كوة للموت" لباول تسيلان، أبلغ نص شعري كتب عن ضحايا أوشفيتز والهولوكوست النازي إبان الحرب العالمية الثانية. وكانت القصيدة، بصورة ما، رداً على مقولة أدورنو: "لا شعر بعد أوشفيتز"، هل يمكن كتابة الشعر بعد المأساة السورية؟

* ثمة في التاريخ وقائع مأساوية تذهل عصرها، تصدم بفواجعها الأرواح وتربك العقول، وتجعل الكائنات مشلولة الإرادة وعاجزة عن التفكير، الواقعة المأساوية أقوى من كل قدرة على التعبير عنها. بل إن خبرات اللغة نثراً وشعراً سوف تبدو فقيرة، تماماً، أمام البلاغة الصادمة للواقعة المأساوية.

الامتحان الأخطر للشاعر في زمن المأساة هو في مدى قدرته على خوض نزال شرس ومرير مع لغته وطرائقه الفنية لأجل اجتراح لغة يمكن لبلاغتها الانتصار على بلاغة المأساة. (هل هذا ممكن؟) في مثل هذه المنازلة مع الذات لا بد للشاعر أن يجد اللغة التي تمكنه من كتابة ملحمته الشخصية، لا أن يُقبل على صنيعه الشعري بوصفه تسجيلاً ملحمياً لمأساة شعب في سطور شعرية، تكرر، ولو بلغة معاصرة، لغة الملاحم القديمة. أظن أن لا قيمة لمثل هذا السير على خطى الشعراء القدامى في كتابة حديثة، مهما قيض لشاعرها من موهبة، ومهما قيض لها من القوة الشعرية المتفوقة.

إذا استطاع الشاعر أن ينتصر على ذاته في مثل هذه المعركة مع اللغة، فإن كل وقت بعد ذلك سيكون صالحاً لكتابة قصيدة تتفوق على زمنها وتنافس ببلاغتها الجديدة بلاغة الواقعة المأساوية.

ورغم هذا الاشتراط، أنا مؤمن بأن الشعراء سيكتبون اليوم وغدا شعراً يعتد به، إن في ظلال المأساة وبفعل الطاقة الشعورية المهولة التي بثتها في زمننا وأجيالنا الطالعة، أو بفعل الجرح الاخلاقي، الذي تسببت به لعصرنا كله الجريمة الجماعية المتروكة بلا عقاب.

- يعرّف هولدرلين الشعرَ بأنه "تحويل العالم إلى كلمات"، المأساة أو الهولوكوست كما تسميها، هل يمكن أن تتحول إلى كلمات، هل يمكن لجملة أن تصوّر الكمّ الهائل من الوحشية؟

* للأسف، ثمة مستحيلات كثيرة وقعت خلال العقد الأخير، وهو عقد يمكننا أن نسميه بامتياز عقد التراجيديا السورية. فبأي كلمات يمكن للشاعر أن يصف المستحيل؟

لا بد من لغة جديدة، كما أشرت من قبل. ومن وظائف الشعراء اختراع اللغة وابتكار الطريقة.

وبمناسبة التطرق إلى التراجيديا السورية، وهي في نظري تراجيديا كونية. ليس في وسعي أن اتهم البشر جميعهم بانعدام الضمير، لكن علاقات القوة والضعف ومشروعات الهيمنة على المجتمعات بوصفها اسطبلات لجموع مستهلكة وأسواقاً للاستهلاك، جعلت العالم بأسره عاجزاً عن وقف هذه الجريمة وأي جريمة أخرى في العالم، عاجزاً عن منع القتلة من ارتكاب المزيد من الآثام. لقد ارتكبت الجرائم الجماعية المريعة في سوريا على الهواء مباشرة وبأبشع الطرق التي عرفتها أزمنة التوحش. كانت شبكة الانترنت والتلفزات تنقل وقائع عمليات الإبادة (وهي ما تزال تفعل)، بينما المتفرجون حائرون في تفسير ما يجري.

يا للهول كيف تحول "الضمير العالمي" إلى جملة لغوية مجردة من أي معنى، ولا تثير لدى سامعها سوى السخرية، والشعور بالغثيان.

ولكن كيف تحول العالم مرة واحدة إلى أصم، أبكم، وأعمى بإزاء الهولوكست السوري، وهو عالم أمكنه أن يترقى حقوقياً إلى درجة رفيعة من "الرفق بالحيوان"؟ هذه جملة أخرى مثيرة للسخرية. خصوصاً عندما يُقتل الأطفال بالقنابل الذكية ولا يحتاج ذووهم إلى البحث عن أشلائهم فقد دفنوا قبلهم تحت الأنقاض.

المسألة إذن لا علاقة لها بالضمير وما شابه، ولا بالدساتير والأعراف والمفاهيم الإنسانية، فهذه بريئة وعاجزة. بل بشيء آخر، مختلف تماماً، هو ميزان القوة في العالم، باستراتيجيات الدول الكبرى واقتصاداتها وبمصالح الشركات والبنوك والأسواق الجشعة، والتي بموجبها تتحدد مصائر الجغرافيات والأوطان والبشر، وكذلك سلوك السلط المحلية الدائرة في فلك القوى المهيمنة في العالم، وما ترسخه هذه السلط التابعة من أساليب الحضور والغياب في عالم باتت له صورتان متقابلتان: (الإنسان المتوحش) و(الضحية الغافلة). فالإنسان البريء في ظل تكنولوجيا الأسلحة الذكية مجرد خيال افتراضي يتحرك من بعيد في شاشة تجعل كل شيء في الوجود افتراضياً، ولا يثير مصيره المؤلم أي شعور خاص.

لكن الشعراء يتحدون أنفسهم، ويتحدون العالم إذ يكتبون قصائدهم بكلمات تشتعل. في أزمنة الرعب، قصائد الشعراء هي خيط الأمل، والضوء المقاتل في قلب الظلام.

نعم، يمكن أن يكتب الشعراء قصائدهم بأثر من الهولوكوست الأممي، والمحرقة الإيرانية/ الروسية في سوريا؟ على أن السؤال الجوهري بالنسبة إلى الشاعر، هو أولاً وأخيراً: بأي لغة أكتب القصيدة أمام هول الجريمة؟

تقول "مَا أَبْعَدَ الطَّرِيقُ إِلَى دِمَشْق". متى زرت دمشق آخر مرة؟

* يوم خرجت منها في شتاء 1981 متجهاً إلى بيروت، وفي جعبتي قميص وسروال وكتاب. في ذلك اليوم لمحت في وجه أمي نظرة معاتبة، فقلت لها: أسبوع أو اثنان وأعود. لكن عينيها قالتا لي شيئاً آخر.. لقد أبلغتاني بما حدّثها به قلبها، عن مصيري الذي أنا فيه اليوم.

- هل التقيت بها مرة أخرى بعد ذلك؟

* نعم، التقيتها. كان ذلك في مدينة على تخوم الصحراء، في أرض محايدة، كان وقتا قصيراً، شعرت بالذنب وهي تعانقني بعد ربع قرن من الغياب، وكان عناقها لي وداعاً أخيراً. لم تكن تشبه أمي التي عرفتها قبل أن أغادر دمشق. كانت شخصاً آخر تماماً. شخص جاء من الغياب، وسرعان ما سيعود من حيث أتى. كان لقاء غريباً، وقاسياً!

- كتبت الديوان خلال تنقلك بين المدن والعواصم، ماذا لو كتبته في دمشق، هل ستتغير لغته؟ هل تكتب انطلاقاً من كونك في المنفى؟ أم أن الشعر لغة واحدة في كل مكان؟

* الشعر في الجوهر منه، لغة الشاعر وطريقته في تعريف ذاته في العالم، والشعر لغات شتى. لغات في لغة، وأحوال في حال، والشعر أمزجة وانتباهات تتبدل بالضرورة وفق اختلاف التجارب وتبدل الأحوال. لا كينونة للشاعر خارج لغته التي هي لغة متبدلة بالضرورة، وعلى رغم اختلاف المدن التي يمكن للشاعر أن يحل فيها ويرحل عنها، إلا أن بيت الشاعر في آخر الأمر هو قصيدته.

أشعر حقيقة أن العالم وطني، لكن هذا الانتماء محكوم بمصادفات وضرورات لم تكن غالبا من اختياري. بهذا المعنى لا وطن نهائيا لي سوى قصيدتي فهي بيتي الذي اخترت.

عندما أعود إلى قصائدي التي كتبت في دمشق مثلا أكتشف فيها السمات والملامح الأولى لصوتي ولغتي وخيالي الشعري. بدهي أن كل شيء اختلف في ما بعد، في القصائد التي كتبت في مدن أخرى.

لكن في مرات أخرى شيء ما، مازلت لا أجد له تعريفا دقيقاً، يجعلني أشعر أن شخصاً آخر كتب تلك القصائد القديمة. أهو شعور بأن الذي كتب تلك قصائد إنما هو شخص غاب في ذلك المكان، شخص عندما غادرت دمشق تركته هناك لأكون شخصاً آخر في مدن أخرى؟ وبين أناس آخرين غير أؤلئك الذي أسسوا عالمي الأول في دمشق؟ أيا يكن الجواب، عن هذه الحيرة، فإن الشعر يتغير مع كل قراءة جديدة له، فكيف به عندما يُكتب في أمكنة وأزمنة وأحوال مختلفة؟

مع كل مكان جديد يطرقه الشاعر هناك اناس جدد وخبرات جديدة. والشعراء أنفسهم يختلفون في ما بينهم كما تختلف الأمكنة. فلكل شاعر أصول ومرجعية وثقافة ومزاج مختلفة، وبالتالي فإن العلاقة بالمكان واللغة والناس تبقى رهينة الطبيعة الخاصة بالشاعر. بالنسبة لي لا يمكنني أن استبعد من مزاجي الشخصي وطبيعتي النفسية ذلك الشعور الطاحن بالاغتراب الوجودي الملازم لي. شيء أقوى في أثره من المكان والزمان والقدر الشخصي وطبائع الناس المحيطين بي.

في فصل بعنوان "المكان الدمشقي رمزا وأيقونة" من كتاب "القصيدة المعلقة..." لمفيد نجم، حاول الناقد وضع تجربتك أمام محنة المكان واغترابه، إذ يتبدى المكان الدمشقي بوصفه حضوراً عميقاً، مقابل لعبة الغياب التي تعيشها، وهذا التضاد ما بين الحضور والغياب ينعكس في رمزية المكان، وفي دالته في البنية الشعرية، كيف عشت المكان الدمشقي والمكان اللندني والغربي؟

* لعل قصيدتي أبلغ مني في الإجابة عن هذا السؤال المركَّب. بعد أربعين عاماً في المنفى، لا أستطيع أن أتجنب ذلك الشعور بأن لي وطنان. لا أشعر بأي تناقض في الأمر. ليس ثمة في هويتي كبريطاني ما يزعزع هويتي كسوري، وكابن للثقافة العربية التي هي مزيج بديع من لقاء ثقافات عريقة. أعيش في لندن منذ أكثر من ثلاثة عقود متصلة، عندما يطول غيابي عنها أسبوعاً يدب فيّ قلق يشبه المرض ولا يشفيني بعد ذلك سوى تنسم هوائها البارد، مجدداً. هل هذا ضرب من حنين المواطن إلى وطن؟ أم هو حنين الكائن إلى مكان وقد تحول إلى ضرب من العادة الأسرة؟ أم هو شيء آخر؟ أيا يكن الجواب، فثمة هنا فخ، واستئناس، وبالتالي حدود لفكرة الحرية، بل ولفكرة الانتماء إلى الكوكب كله بالنسبة إلى ذلك الشاعر الشاب الذي كنت في دمشق. أذكر أنني كتبت مفكرتي "أيُّ سخفٍ أن تحيا وتموتَ في المكان ذاتِه".

عشت المكانين الدمشقي واللندني كل بشغف خاص. دمشق كانت، وما تزال بالنسبة لي مكاناً عصيا على التعريف، مدينة بوجوه متعددة. (شخص آخر في مكان آخر سيقول الشيء نفسه عن مدينته). ولا مشكلة في هذا، فكل المدن لها أبناء وعشاق. لذلك أستطيع أن أحب مدينتين من دون أن أشعر بفكرة الخيانة لمدينة أولى كما لو كانت حبيبة أولى. ثمة شعراء لديهم تعلق نوستالجي نحو مدنهم. ليس لدي هذا الضرب من الحنين إلى مدينة. ثمة شيء آخر لا علاقة له بالحنين يجعل لدمشق في ذاكرتي وخيالي، قبل وجداني وعاطفتي، قوة الحقيقة الشعرية.

قلت عن دمشق خلال زيارتك إلى المغرب: "مدينة أزمنة متعاقبة. وقد تعايشت آثار تلك الأزمنة في الصور التي رأيتها وملأت بصري وبصيرتي وحواسي. دمشق الآرامية، دمشق الرومانية، دمشق التي تركت أثارها في معالم خالدة. دمشق التي عرفت الكثير من الغزاة والأحداث الغابرة في كتب التاريخ والكتب الأسطورية. إذ أن هنالك تاريخاً أسطورياً لدمشق"... كل الوهج اللندني كأنه لم يؤثر في حياتك ولم تعشه؟

* أبدأ من السطر الأخير في السؤال، وأسأل بدوري: هل هذا استنتاج شخصي من تصريح صحافي أم حصيلة قراءة متأنية لأعمالي الشعرية؟ باستثناء كتاب واحد لي هو "الصبي"، وجزء من كتابي المزدوج "مجاراة الصوت" و"رجل تذكاري"، فإن بقية شعري المكتوب في لندن ما بين 1986 وحتى اليوم يقول شيئاً آخر.

ثمة احتفاء بالمكان اللندني، وثمة مغامرات للمخيلة مع هذا المكان الذي شغفت به. انت لن تعثر أبداً على ذلك النزوع السياحي الذي يصطاد بعض الشعراء الذين يحتفون في شعرهم بالمدن، بل إنك لن تجد وصفاً لها مهما كان متحرراً من تلك النزعة. بل إن ديواني "طريق دمشق" مثلاً هو ديوان حياة لندنية. أما ديواني "حدائق هاملت" فهو عمل مكرس لتلك الرؤى والمشاعر والأصوات والخيالات القاسية في المكان اللندني، بينما يمكنك أن تقع في ديوانَي "مجاراة الصوت" و"كأس سوداء"، على تلك العوالم الدستوبية للكائن المتشظي في المدن الكبرى، وفي ديواني "صعود إبريل" هناك عوالم البحث عن الآخر عبر الحلم وتداعيات اللاوعي الحر. قصائدي لها جغرافيات، أقصد أن الخبرات التي تقف وراء هذه القصائد هي خبرات في أمكنة تستدعي، عبر البناء الشعري، أمكنة تتخيلها وتنشئها، فلا عمارة للقصيدة من دون تلك الجغرافيات التي تبنيها المخيلة بواسطة لغة الشعر. هذه مجرد إشارات ولن أستطرد فليس من المناسب للشاعر أن يضيف إلى وظيفته وظيفة الناقد.



يقول عابد إسماعيل: "تعكس قصيدة الشاعر نوري الجرّاح تاريخاً مصوراً لتطور القصيدة الجديدة في سوريا التي نهضت على أنقاض حساسية جيل الرواد الكلاسيكية، منتقلة من ضفة إلى أخرى، التي تمثلت في طورين جماليين رئيسيين، عبّرت عنهما شفوية الماغوط الرومانطيقية، وبلاغة أدونيس الميتافيزيقية، لكن تلك القصيدة سرعان ما أعلنت عصياناً مبكراً على نفسها، وعلى هاتين المرجعيتين تحديداً.. لتنحو القصيدة في اتجاه آخر تجلّى في صراع محتدم بين نمطين شعريين يمثلان امتداداً للنموذجين السابقين، أحدهما يمجّد جماليات قصيدة الرؤيا، ويدور في فلك البلاغة الكلاسيكية، وآخر يحتفل بالمرئيات، ويستعيد جماليات السرد الشعري، عبر لملمة المهمل والمنسي في التجربة الشخصية (الحياة، 1 يونيو/ حزيران 2008). هل تجد نفسك في هذا التقييم؟

* ما رأيك أنت؟ هل علي أن أستجيب، أم أن أخالف هذه القراءة لقصيدتي؟ لا أظن أن من الحصافة بمكان بالنسبة إلى شاعر أن يقبل أو يرفض الانطباعات الخاصة بالنقاد وقراء الشعر عن شعره. ما لم يكن في القراءة المقصودة شيئاً ما مخلاً بطريقة فادحة. ولا أرى في هذا المقتطف من مقال عابد إسماعيل شيئاً من هذا. بل لعل في قراءته بعض الوجاهة. فقصيدتي، فعلاً، لا تدين بأي حال للمرجعيتين المشار إليهما. فلم يكن لشعر أدونيس ولا لتصوراته عن الشعر أي أثر يذكر في تكويني الشعري، وديوانه لم يكن يحتل مكانة بارزة في مكتبتي الشعرية، وكذا هو الحال بالنسبة إلى ديوان الماغوط على اختلاف التجربتين، وبالتالي لم يشكل منجز أي منهما نموذجاً شعرياً مغرياً أو نصاً أعلى بالنسبة للشاعر الشاب الذي كنتُ. لكن إسمح لي بأن أضيف أنني أكن قدراً من التعاطف مع الحرارة التي تميز شعر الماغوط، مقابل اكشافي المبكر تلك البرودة في شعر أدونيس. هناك من يمتدح تلك الخصلة في شعر صاحب "أغاني مهيار الدمشقي"، على أن الحرارة التي في شعر الماغوط لا تشفع لهذا الشعر بساطته المفرطة، وعادية الكلام وقد تأتى لشاعره في صيغ وتراكيب مباشرة لم تكن دائماً مدهشة بالمفارقات التي ولع بها شعر الماغوط، بل وتبلغ في مرات كثيرة حدود اللغو. على أن تلك البساطة الماغوطية هي ما جعل للشاعر معجبين بشعره في أوساط الشعراء الشباب ومتأثرين، واأياناً مقلدين لهذا الشعر الصادر غالبا عن قاموس ضئيل. أشير هنا إلى تجارب رياض الصالح الحسين، وعادل محمود، ونزيه ابو عفش وبركات لطيف، على سبيل المثال لا الحصر طبعاً. فعلى رغم الاختلافات البينة بين هؤلاء الشعراء، إلى أن لهجة الماغوط، وطبيعة علاقته باللغة لاسيما تلك المباشرة، فضلا عن بروز المفارقة كتقنية طاغية على التعبير الشعري، إنما هي حاضرة في شعرهم.

بالمقابل هناك ثراء القاموس اللغوي لأدونيس رغم زوال سحر لغته في نظر الشعراء اللاحقين.

مرة كتب عباس بيضون مقالة نقدية تحت عنوان "السلالة الماغوطية".. أستعيد العنوان فقط من دون أن أخوض في المقالة، لأقول أن عدداً من الشعراء تورطوا عندما اعتبروا نص الماغوط، مثلما اعتبر غيرهم نص أدونيس، نموذجا شعرياً. الماغوط وأدونيس لهما مكانتهما في التاريخ الشعري الحديث، لكن أياً منهما لا يصلح - ولا غيرهما - لأن يكون نموذجاً يحتذى. فالشاعر، بداهة، تجربة كيانية، ورحلة فريدة لكائن فريد يمكن أن تغني الحياة الشعرية بالاسئلة والأفكار والرؤى والإشارات ولكن لا ينبغي لها أن تصبح صيغة وطريقة.

المدينة والغزاة

من يقرأ بعض قصائدك في ديوان "نهر على صليب"، يشعر وكأن روحية بدر شاكر السياب وعذاباته تحضر في روحيه نوري الجراح وحديثه عن عذابات دمشق وشعبها؟

* أقدّر بصورة خاصة شعرية بدر شاكر السياب والطبيعة الحميمة لعلاقة جانب من سيرته الشخصية بشعره، وعلاقة شعره بالأمكنة، كما هو الأمر بالنسبة إلى قصيدته المؤثرة "النهر والموت". أو "أنشودة المطر". بخلاف ذلك ليس في وسعي الخوض في مقارنات من أي نوع لشعري مع شعر شاعر آخر.

إنما دعني أقول إن قصائد هذا الديوان التي كتبت خلال ذروة الموت البحري السوري، وفي زمن الخروج الجماعي الكبير للسوريين هرباً من بلد تحولت إلى مسلخ بشري، وأرض للعذابات المستحيلة، وهي قصائد كتبت في الفترة التي تلت الفترة التي كتبت فيها قصائد "قارب إلى ليسبوس". أقول ربما إن نبرة الرثاء في القصائد الأربع التي شكلت الديوان، كانت مشبعة بغنائية أسيانة، قد تكون هي ما يحمل على تشكيل انطباع يستدعي السياب الذي كتب في شطر من حياته الشعرية قصائد درامية مزجت بين الفاجع والغناء، وبشيء من طبيعة كربلائية.

لكن ما يمكن أن أضيفه، كفارق، هنا، أن قصائدي ليس فيها من لوم الذات ما فيها من الغضب واللوم الموجه نحو عالم أدار ظهره للسوريين بوصفهم أشقاء في الإنسانية.

ولعل لحظة الخروج الجماعي من الجغرافيا، بما يذكر بمسيرات الآلام الكبرى في التاريخ، لأمة مزقتها الأمم، لا تقبل بأي نوع من التقهقر بالذات نحو دواخلها الغائرة، وإنما، ولعل هذا ماثل في قصائدي، تستدعي طاقة المقاومة، وبأس المنازلة الروحية والجمالية مع القدر المأساوي. هناك في قصائد "نهر على صليب" خرير مياه شامية لنهر معلق على صليب الأمم. وعلى رغم ما تستدعيه القصائد من البيئة الشامية من مرئيات وأصوات وألوان، وعلى رغم النبرة الملحمية المتعالية على اللحظة الواقعية الجارحة، ثمة في هذه القصائد إدانة فكرية وجمالية وأخلاقية للعالم كله على جريمته المريعة. لذلك احتشدت على ضفاف قصيدتي "الخروج من شرق المتوسط" أمم المتوسط، وقد دفنت رؤوسها في جرار عملاقة، أمام مشهد الموكب السوري وهو يعبر المتوسط، بأبطاله الصرعى وأحيائه الخارجين من الموت.

فالسوري في هذا المشهد الملحمي هو الكائن الكوني ومأساته هي المأساة الكونية، لم يستسلم، بل إنه أخذ يواصل رغم الفاجعة شق اليابسة والبحر معا في خروج تراجيدي من شرق المتوسط عبر مسارات متعددة بحثاً عن مكان آخر، ليشيد مرة أخرى كما شاد إيناس الطروادي روما على الطرف الآخر من ضفاف المتوسط، بعد توديع طروادة التي سقطت في قبضة الغزاة.

المسار السوري سوف يعيد بناء الملحمة القديمة في صور معاصرة لها، فما بعد طروادة السورية حتى هوميروس سوف يعتذر لأبطاله الصرعى في كتابي الشعري اللاحق "لا حرب في طروادة". وسيعيد ابطال الشاعر المعاصر تصوير ملحمتهم في ما أطلق عليه جغرافيو العرب "بحر الروم"، ثمة مطابقة جغرافية مذهلة بين القدر السوري والقدر الطروادي. هو ما أعطى القصيدة صوتها وصورتها، ومسارها النهائي.

لكن "نهر على صليب" هو أيضا كتاب لمن تشبث بالأرض من السوريين، وآثر النزف والمقاومة، وإن بصمت، على الخروج. إنها حكاية لتروى بألف لسان. أما دمشق مدينة طفولتي فهي عندي مدينة الأبدية التي كلما اغتصبها غاز ليتشبه بالأبد طردته من التاريخ.

الشعراء والطغيان

- في زمانه كان محمود درويش صوت القضية الفلسطينية، واستطاع كلامه أن يربك عدوه، في سوريا ألا تلاحظ غياب الصوت الشعري، بل إن بعض الأصوات المهمة ارتأت تكون مع الطغيان؟

* لا أوافق على مضمون السؤال كله ويبدو أن جانباً منه صادر عن خلل موروث في القراءة العربية الشائعة للشعر السوري. لا سيما أن حركة النقد الشعري العربية لم تواكب على نحو جاد تطور القصيدة الحديثة في سوريا، كما لم يجدث ايضا مع جغرافيات شعرية عربية أخرى.

لكن من قرر أن ليس هناك شعر ولا شاعر أربك النظام السوري، وهو نظام طالما اضطهد الشعراء نفياً واعتقالاً وتعذيباً ورمياً بالرصاص، وقد افتتح مشروعه الإرهابي بحق الشعراء بمحاولة اغتيال قامة شعرية بارزة هي بدوي الجبل. لماذا يقدم نظام على افعال كهذه إن لم يكن يخشى الشعر؟

هذا كان قبل الثورة، وكان يحدث بصمت إعلامي مريب وتواطؤ ثقافي عربي لا نريد أن نفتح ملفه الآن، ولكن عندما كنا في المنافي كان شعراء عرب مرموقون يحجون إلى دمشق المحرمة علينا نحن الشعراء السوريين الرافضين للاستبداد والموزعين منذ اربعين عاماً على المعتقلات والمنافي.

وسوف آتيك بمثال مذهل على ذعر منظومة الاستبداد السوري من الشعر. فقد قامت وزارة التربية السورية في 2017 بإتلاف كتاب مدرسي في الموسيقى، للصف الأول الابتدائي، لوجود قصيدة فيه عن طريق الخطأ لشاعر سوري معارض هو ياسر الأطرش. وقد نفذت القرار لجنة من 12 عضواً برئاسة وزير التربية. هل بقي ذعر من الشعر أكثر من هذا؟

أكتفي هنا بهذا المثال. واذهب إلى فكرة عدو الشعب بل إن تعريف العدو في سوريا يبدو أمراً عسيراً، رغم وقوف قاتل السوريين أمام جبل الضحايا بيدين غارقتين بدمائهم وابتسامة بهيمية تظهر في لقطة السيلفي. وعندما اعترف العالم أن إبادة بالغاز وقعت في غوطة دمشق وأن ألفاً و500 ضحية، جلهم من الأطفال قد ناموا ولن يستيقظوا أبداً، شكّل العالم لِجانَ ليؤجل تسمية الفاعل.

فمن القاتل في سوريا؟ السفاح الذي حصد الأرواح أم صمت الأمم؟

أما كتبة الشعر الذين وقفوا مع الطاغية والطغيان وامتدحوا أفعاله، أو صمتوا عنه، أو تجنبوا تسميته، من علي أحمد سعيد (أدونيس) الذي اعتبر الأسد رئيساً منتخباً وما برح يتجول في العالم ويتجنى على السوريين وانتفاضتهم العظيمة لأجل الحرية والكرامة، بوصفه لها بأنها انتفاضة رجعية... إلى نزيه أبو عفش الذي عبّر عن ولعه بأحذية الطغاة والمحتلين الروس، مروراً بحفنة من الرعاع الصغار الذين تشبهوا بالشعراء، هؤلاء مجتمعون كتبوا أنفسهم بأنفسهم في كتاب العار.

فهل هؤلاء هم الشعراء، كل الشعراء؟ إن نظرة على المشهد الشعري العربي اليوم لا بد أن تضع شعراء سوريا الأحرار في موقع بارز. هناك شعر سوري لا شبهة عندي أبدا في قيمته الفنية العالية.

التصالح مع النظام

- هل يمكن أن تتصالح مع النظام السوري؟

* أنت تتحدث عن نظام سوري، وهو نظام عالمي للجريمة لا يمكن إصلاحه، ولا التعايش معه، وليس من الواقعي مجرد التفكير في التعاطي مع منظومة إجرامية فاشية وقفت ضدها منذ أواخر السبعينات. هل يمكن للحنجرة أن تتصالح مع السكين؟ إذن لا صلح ولا اعتراف بنظام الموت في سوريا ولا بما يدبره للنظام حماته الروس والإيرانيون وسواهم من الحماة. سأقاتل هذا النظام الفاجر بقصيدتي حتى النفس الأخير. ولو مت ولم أتمكن من أن أرى انتصار الحنجرة على السكين، فحسبي أنني عشت حراً في منفى اخترته بنفسي، لأحمي عقلي من الجنون وفؤادي من الهلاك.

المكان الوحيد لهذا النظام الذي دمر شعبي هو قفص المحكمة. وهو ما تسعى اليوم إليه بمنتهى الجدية نخبة ممتازة من الحقوقيين والناشطين السوريبين. ولا جدال عندي في أهمية عملها. العدالة ستتحقق أخيراً. ليس ثمة ما يجعلني أفقد الأمل. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها