الأحد 2019/12/15

آخر تحديث: 19:58 (بيروت)

الحريري في المصيدة...

الأحد 2019/12/15
الحريري في المصيدة...
سمير الخطيب وسعد الحريري
increase حجم الخط decrease
حين أعلن سعد الحريري أنّ الحكومة العتيدة يجب أن يؤلّفها سواه، لم يصدّقه أحد. لقد أثبتت الأحداث التي تلت، وكيف تمّ حرق المرشّحين الواحد تلو الآخر، أنّ الرجل طامع في العودة إلى السراي. قليل أن يقال عنه إنّه كان يناور. فكلامه لم يكن شفهيّاً، بل مكتوباً ومسجّلاً. لقد كان الرجل يكذب، بكلّ بساطة، وذلك في أخطر مرحلة يشهدها لبنان في تاريخه الحديث.

مشكلة سعد الحريري هي أنّ خصومه هم أعلم الناس بخفايا قلبه وبشهوة السلطة لديه. هذا كان منطلقهم كي يحشروه في الزاوية ويزجّوه في المصيدة وكأنّه فأر. خصمه التقليديّ جبران باسيل يعلن انسحاب حزبه من تركيبة الحكومة العتيدة: إمّا أن ينسحب الحريري ويترك حكومة الاختصاصيّين تتشكّل من دونه أو يتلقّف كرة النار وحيداً. باسيل يعرف جيّداً أنّ الحريري ليس لديه خطّة يواجه بها الانهيار الاقتصاديّ سوى التسوّل. ويعرف أنّ الدول التي شاركت في مؤتمر التسول المدعو «سيدر» لن تدفع بسهولة. الحريري سيكون إذاً أمام مهمّة شبه مستحيلة. فليخض المستحيل وحيداً وليفشل وحيداً، هذا إذا تمكّن من تشكيل الحكومة. أمّا السيّد حسن نصر الله، فقد كان أكثر وضوحاً مع الشيخ سعد حين أعلن أنّ عمليّة تأليف الحكومة ستكون معقّدة وطويلة. فالتكليف لا يعني التأليف. وحزب الله قادر أن يحوّل هذه العمليّة إلى جحيم الحريري بإصراره على حكومة مختلطة من سياسيّين وتكنوقراط. والحقّ أنّ العنف المتزايد الذي تعرّض له المنتفضون في شوارع بيروت في الأيّام الماضية إن هو إلاّ محاولة من جانب حزب الله ومن يغطّيهم من الفاسدين ليفهم الجميع أنّه ما زال يقبض على خيوط اللعبة.

ذات يوم، أعلن سعد الحريري أنّه في كلّ مرّة يقف أمام قرار مصيريّ، يطرح على نفسه السؤال: لو كان رفيق الحريري هنا، ما هو الموقف الذي كان سيتّخذه؟ مشكلة علاقة المجتمع اللبنانيّ بوالد الشيخ سعد تكمن في التباسها، وفي أنّ أسطرة الاستشهاد تجعل الذاكرة قصيرة المدى. فرفيق الحريري، شهيد التحرّر من الوصاية، تحيق به أيضاً ظلال تمتدّ من مصادرة وسط بيروت وتسوية مئات المباني التاريخيّة بالأرض وجرف الآثار الفينيقيّة والرومانيّة والبيزنطيّة إلى إغراق لبنان بالديون وإدخاله متاهة الفساد الفاجر. هل فكّر الشيخ سعد في أنّ الأجوبة الخاطئة التي كان أحياناً يتوصّل إليها ربّما يكون سببها أنّه كان يطرح السؤال الخاطئ؟ أما حان الوقت أن «يقتل أباه»، على حدّ تعبير فرويد، ويسأل، ليس كيف كان رفيق الحريري سيتصرّف، بل ماذا يمليه الضمير وماذا تمليه الأخلاق الآن؟ السياسيّ الكبير هو الذي يغلّب مصلحة بلده على مصالحه الشخصيّة. في ظلّ الانهيار الذي يعيشه لبنان تكاد هذه القاعدة تصبح هي المعيار الوحيد لفرز الخيط الأبيض من الخيط الأسود في السياسة. اليوم هناك من يتربّص بالشيخ سعد. الذين يتمسّكون به قرّروا أن يعيدوه إلى السلطة بشروطهم. والذين انسحبوا أرادوا له أن يتلقّف كرة النار وحيداً لأنًهم يتوقّعون أن يفشل. هو فعلاً كالفأر في المصيدة. هل من حلّ؟

يوم أعلن استقالة الحكومة، قال سعد الحريري كلمةً مؤثّرة: «المناصب تذهب وتجيء». هل فكّر يومها بأنّ المناصب ربّما تذهب ولا تجيء، وأنّه ليس من الضروريّ أن تعود المناصب حتّى يخدم الإنسان بلده؟ فهذه الخدمة تكون أحياناً أكثر فاعليّة عندما يتخلّى المرء عن المنصب. أما حان الوقت ليضع الشيخ سعد شهوة السلطة جانباً، ويعيد لموقفه العلنيّ بعض الصدقيّة عبر رفضه التكليف، ولا سيّما حيال كلّ العنف الذي تعرّض له المتظاهرون البارحة أمام أبواب المجلس النيابيّ، مجلس ممثّلي الشعب، مجلسهم. أما حان الوقت ليعبّئ الحريري كلّ حلفائه في سبيل قيام حكومة اختصاصيّين من خارج الطقم السياسيّ تتولّى إنقاذ البلد، أو ما تبقّى منه، مستفيداً من عزوف بعض خصومه المعلن عن المشاركة في الحكومة العتيدة. إنّ قراراً من هذا النوع قد يتيح للانتفاضة الشعبيّة أن تسجّل أهمّ انتصاراتها حتّى الآن، وذلك بفضل موقف استثنائيّ يتّخذه سعد الحريري، ربّما للمرّة الأولى في حياته.

هل أحلم؟ كيف يسلّم الشيخ سعد رأسه لحكومة من نظاف الكفّ غايتها محاربة منظومة الفساد التي هو وحلفاؤه جزء منها؟ لعلّي أخترع سيناريوهات تليق بجيل من رجال الدولة انقرض من زمان. لكن ما يبدو واضحاً اليوم هو أنّ سعد الحريري، إذا كُلّف غداً وقبل تكليفه، سيدخل في متاهة تودي به في آخر المطاف إلى نهاية مستقبله السياسيّ فيما البلد ما زال يعوم على برك من الفساد وصلت رائحتها الكريهة إلى عباب السماء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها