الأحد 2019/12/15

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

"المُضحكات المُبكيات": مصر الكاريكاتير.. والحبر السرّي للمعارضة المنحسرة

الأحد 2019/12/15
increase حجم الخط decrease
رغم انتفاء إمكانية محاسبته بشروط البحث العلمي ومناهجه وأدواته، فإن الفن يبدو حامل رسالة عظيمة بالغة الأثر في ميدان التوثيق والتأريخ للأحداث وللبشر على السواء. وسرّ تميزه وتفرده أنه يتجاوز كونه وعاء اعتياديًّا للمعلومات، كالأطروحة الجامعية مثلًا أو الدراسة المنشورة في كتاب أو المقال الصحافي، ليقدم ذاته على نحو مختلف، بحسب فضاءات التخييل وأبجديات التعبير وآلياته، التي ينتهجها هذا الفن.

عبقرية الفن في فراغاته وثقوبه التي يتركها ليستشفها المتلقي ويعمل على ملئها بذائقته ومدركاته التي يحفزها التشويق وإطلاق الإشارات والومضات والإحالات الترميزية والدلالات الناقصة. وبالتوازي مع هذه اللغة الانشطارية الكاشفة، فوق التوصيلية، فإن مجال فاعلية الفن هو ما تحت الأسطح العازلة من حقيقة عارية، وما خلف القشور من جوهر، وما في الطبقات العميقة من معانٍ وملموسات ومحسوسات. فالخطاب الفني هو خطاب اقتناص ماهيات، وكشف للذات أمام مرآة صادمة صادقة لا تعرف المواربة ولا المراوغة، وهو خطاب منمنمات صغيرة متجاورة، لكن تجميعها في الضمير يقود إلى الرؤية الشاملة للواقع، والشهادة الموثوقة على العصر.

"وكم ذا بمصر من المُضحكاتِ، ولكنه ضَحِكٌ كالبُكا"، بيت واحد للمتنبي، على سبيل المثال، جرى في إطار قصيدته الأعمّ مجرى الأمثولة في تصوير وجه مصر المتراجع في ذلك الوقت، وأوضاعها العبثية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أنه تضمَّنَ جذورًا لمعطيات كارثية لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، مثيرة للسخرية والتندر، ككوميديا سوداء، و"نكات" لاذعة في قلب المشهد المأساوي المحيط.


لم يتخصص فن في ما جرى، ويجري، على أرض مصر عبر عصور من "المُضحكات المُبكيات" التي لا تبلى ولا تنفد، أكثر من فن الكاريكاتير، فهو ذلك الفن المعنيّ بالتقاط المفارقات والتناقضات، والاشتغال عليها، وإبرازها، وتضخيم أمور وزوايا معينة، وتقزيم تفاصيل وعناصر أخرى وحجبها، بهدف إحداث هزات وزلازل، وتفجير براكين وأعاصير، وخلخلة ما هو سائد من حماقات متأصلة، وقوانين فاسدة كاسدة، ولمس الجراح الغائرة، والأزمات والمشكلات الكامنة، وتعرية الذات من كل زيفها وزخرفتها، أملًا في ما قد تقود إليه هذه المكاشفة الصريحة الجريئة من تغيير وإصلاح وإعادة بناء. فلم يكن الهدم والتثبيط والسوداوية والعدمية من دواعي اهتمامات الكاريكاتير المصري، بتمثلاته الإيجابية وحضوره الجماهيري الكبير عبر الصحف، خصوصًا في مراحله الذهبية، قبل سنوات التضييق والحجب الأخيرة، التي اغتالت قفزاته وانطلاقاته.


في المعرض الجماعي الكبير لأجيال الكاريكاتير المصري المختلفة، على مدار ديسمبر/كانون الأول 2019 بغاليري "أوبونتو" في حي الزمالك بالقاهرة، تجلت بوضوح قدرات الكاريكاتير الاستثنائية وطاقاته اللانهائية في وضع اليد على بؤر العطب والخلل في الجسد المعتلّ، بمهارة المُعالج الفطري وحساسيته التلقائية التي تفوق الطب الاختصاصي. ولم يتخلّ الكاريكاتير عن لعب هذا الدور الحيوي كنبض للجماهير منذ بداياته على أيدي المؤسسين والروّاد من أمثال الإسباني خوان سنتيس (1881-1945) والأرمني صاروخان (1898-1977) والمصري عبد المنعم رخا (1910-1989) إلى حدود تجليات اللحظة الراهنة، على أن القضايا والاهتمامات التي صار يركز عليها الكاريكاتير في الآونة الأخيرة باتت أقل سخونة وأدنى خطورة بطبيعة الحال مما سبق، بسبب سيوف الرقباء المسلطة وقائمة المحاذير والمحظورات، وهذا يبرز في الأعمال الحديثة في المعرض الجماعي، المختلفة كثيرًا في توجهاتها، والمتقلصة مضامينها وعناوينها وخطوطها العريضة، قياسًا برسوم المراحل السابقة.


تضمنت لائحة فناني معرض "أوبونتو" قرابة سبعين فنانًا على مدار أكثر من قرن، بما زاد أهمية المعرض كبانوراما تسجيلية لتطورات وانعطافات فن السخرية، ومن هؤلاء الفنانين المعاصرين والقدامى: محمد عمر، دعاء العدل، عمرو سليم، محسن جابر، رؤوف عبده، رؤوف عياد، زهرة البدوي، بيكار، رخا، صلاح جاهين، صاروخان، سنتيس، محيي الدين اللباد، أحمد حجازي، بهجت عثمان، مصطفى حسين، جمعة فرحات، مصطفى سالم، سليمان عبد المحسن، وآخرون، ممن اقترنت أعمالهم عادة بالجرائد والمجلات الذائعة، وعلى رأسها: السفور، المصري أفندي، المشهور، خيال الظل، روز اليوسف، صباح الخير، الأهرام، الأخبار، وغيرها، إلى جانب مطبوعات "جماعة الكاريكاتير" و"الجمعية المصرية للكاريكاتير".

تكشَّفتْ المُضحكات المُبكيات المصرية في أعمال المعرض بغير قيود في إبداعات العهد المضيء، ووفق تحفظات شتى في مصر المعاصرة، وفي الحالتين فإن رسوم الفن السحري، على صغرها وهشاشتها، جاءت حصيلتها من البارود أضخم بكثير من حشود المقالات الصحافية التي تعاطت مع النسيج المجتمعي بغية تشريحه وسبر أغواره ورسم صورة تفصيلية له. فما يملكه الكاريكاتير من تحريف للملامح الطبيعية والخصائص والمميزات المألوفة بهدف الانتقاد والسخرية يجعله ينفذ إلى مراده من أقصر الطرق، ويُحدث التأثير المنشود لدى المتلقي من خلال مرونة تفاعلية فائقة.

وإذا كان ما هو حاضر في الكاريكاتير كافيًا وحده للتعبير عن مراحل سابقة، فإن الحاضر والمسكوت عنه معًا يتشاركان في رسم المرحلة الراهنة، أو بمعنى آخر فإن غياب الكاريكاتير السياسي والاحتجاجي المباشر وانحصاره في دائرة الأقنعة والإسقاطات والرموز في السنوات الأخيرة، هو بحد ذاته رسم بالحبر السري لمناخ انحسار المعارضة وانسحابها من المشهد وسيادة الصوت الواحد واعتبار ما عداه مُجَرَّمًا ومُحَرَّمًا.


في أعمال المعرض الجماعي الحديثة، دارت غالبية الرسوم حول القضايا الاجتماعية والإنسانية، التي يمكن للفنانين والصحف السيّارة والمواقع الإلكترونية غير المحجوبة تناولها بمأمن من الملاحقة، فمن قفشات الحياة اليومية الاعتيادية، وحركة الباعة الجائلين، والشؤون الأسرية، وعلاقة الرجل بالمرأة، وتقاليع الموضة والتجميل، إلى مشكلات التمييز واضطهاد النساء، والتحرش، والختان، والمنظومة التعليمية، والحوادث المرورية، إلى آخر هذه الأزمات المسموح بطرحها في الإعلام على وجه العموم.

في الجانب الآخر من المعرض، حيث التاريخ الزاهي للكاريكاتير، غابت الحدود والحواجز تمامًا. فمن المعارك الانتخابية الشرسة، وانتقاد الحكومة ورئيسها ووزاراتها السيادية مثل الحربية والداخلية، إلى طرح القضايا الساخنة مثل الإرهاب والتطرف والعلاقات الدولية الخارجية واستقلالية القرار المصري، وصولًا إلى رفض سيناريو "التوريث" في نهاية عهد مبارك، وتصوير أزمة الحكم وشخص مبارك نفسه على نحو تهكمي في العديد من الرسوم الجريئة في صحف المعارضة والصحف المستقلة قبيل ثورة يناير 2011.

معرض الكاريكاتير الجماعي في غاليري "أوبونتو"، خريطة مصرية عابرة للعصور، تتباين تضاريسها في الضخامة والضآلة بين مرحلة وأخرى، بحسب مساحة الحرية المتاحة، بوصفها المتنفس اللازم للكاريكاتير، ولكل فن متمرد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها