الجمعة 2019/11/29

آخر تحديث: 18:57 (بيروت)

ودائع الأمهات

الجمعة 2019/11/29
ودائع الأمهات
اعتصام الأمهات في عين الرمانة - الشياح (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease
أكثر من أي وقت مضى، تحضر، اليوم، أطياف الأمهات اللواتي استصرحتهن ميكروفونات الإعلام بُعيد حرب تموز 2006. الثكالى، اللواتي، بكلمتين، أطّرتهن الكاميرات في "منحهنّ" أولادهن فداءً للمقاومة و"السيد" والأرض. مغسولات الدماغ والروح، أو مُجبَرات مغلوبات.. الأرجح أن الصفتين الأخيرتين هما الأصحّ للأمهات المعتقلات في غيتو "حزب الله".

اليوم، تذوب الكذبة. وتُكسر (أخيراً!) خرافة "أجمل الأمهات". اليوم، أجمل الأمهات هي التي تضع جسدها بين أولادها، وبين السلطة. تقرّع الغولة التي همّت بالتهامهم، وتلقّنها درساً. ممنوع اللعب بالكبريت.

بعد مسيرة أمهات الشياح – عين الرمانة، دعوة لمسيرة أمهات بين خندق الغميق – تباريز، وأخرى في الضاحية – الطريق الجديدة. هذه ليست المصالحة الأولى التي تشهدها الشياح – عين الرمانة، لكن ليس بالأمهات. هي خطوط التماس القديمة المتجددة، منذ الحرب الأهلية، وصولاً إلى غزوة "حزب الله" و"حركة أمل" على الدراجات النارية، قبل أيام، بمعيّة "التيار العَوني"، في مختلف المناطق اللبنانية، مروراً باغتيالات وانفجارات 2005، ويوم 7 أيار 2008 المُشين. مسلمون – مسيحيون، سنّة – شيعة. هكذا تريدهم أحزاب الطغمة الحاكمة. لكن الناس مدّوا لها الألسنة وتابعوا ثورتهم سلمية.  

لو كانت أي فئة شعبية أخرى هي التي تنظّم تلك المسيرات، لبانت على حافة الفولكلور. كليشيه – وإن كان حميداً الآن – عن تسامي اللبنانيين فوق هوياتهم الطائفية والمناطقية، عن لُحمة الشعب المكتشفة حديثاً بفعل المصيبة الاقتصادية المُلمّة بالجميع. لو كانوا الطلاب أو الصناعيين أو الفنانين أو سائقي السيارات العمومية أو التجار... لاستجرّوا من الجميع ابتسامة تشجيع، فيما كان التهليل ليبدو أشبه بسقطة سينمائية. لكن الأمهات سيناريو آخر.

الأمهات مصالحهن من لحم ودم. "أنا " ضخمة، تتسع لكل "ولد"، من صفر إلى 99 عاماً.

لطالما بدت مبالغة تلك القدسية التي تمنحها ثقافتنا للأم، تضحياتها، سهر الليالي، العطاء بلا حدود. فالأم بوسعها أن تكون تملّكية، متسلّطة، أنانية، أو متلاعبة بالعواطف، تماماً كما يمكنها أن تكون النقيض من ذلك كله، أو خليطاً من هذه وتلك. بشرية هي، لا ملاك ولا حورية. مستثمرة هي. نساء لديهن مشروع. أولادهن صُوَر عن الآتي من أيامهن، لينظرن إليهم في آخر المشوار ويقلن: هذه ثمرتي. كتعويض نهاية الخدمة. أو – كما نقول بالعامية وينطبق هنا بحرفيته – الصديق الذي تربّيه، أو ربما الحبيب اللدود، لا يهم، يبقون شغل يديها. استثمار عواطفها وغريزتها في "كائنها" الذي يتمرد عليها ولا يبتعد، يغرق في حبها وربما يغرقها معه. عُمرها، جهدها أياً كانت طبيعته ووجوهه، ولو انعكاسات في مرايا مقعّرة. صاحبة وديعة، هي، في بنك الحياة، وتسير في المظاهرة وتهتف ضد بورصة الاقتتال. إنهن الأمهات، يدافعن عن أنفسهن في أولادهن، يدرأنَ الحرب ويُقسِمن بالمصالحات ذوداً عن "أنا" تجمعهن، ونواتها أبناء وبنات.

"ما في أغلى من الولد.. إلا توحيد البلد"، هتفت أمهات الشياح وعين الرمانة، ولا يمكن إلا تصديقهن. فالهتاف مؤلف من متساويَين، البلد والولد، إن كان واحدهما بخير، فالثاني كذلك حُكماً، والأم بدورها ناجية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها