الخميس 2019/11/28

آخر تحديث: 15:56 (بيروت)

نحّاتات مصر.. الحرية والجسد تحت سقف المُتاح

الخميس 2019/11/28
increase حجم الخط decrease
في نظرة الجسد إلى ذاته، إما أن يرى كل شيء بوضوح من دون حجب أو مواربة، وإما أن تكون المرآة التي أمامه كاذبة، سواء بعدم استوائها أو بتقعرها أو تحدبها أو بعدم صلاحيتها كسطح عاكس للملموس المرئي، وكذلك للمحسوس المعنوي بطبيعة الحال، الذي يتطلب سطحًا أكثر حساسية ومصداقية وشفافية.

لإبداع المرأة خصوصيته ولغته المميزة المختلفة، والحديث المتصاعد عن عالمية الإبداع وأنسنته لا يلغي فروقًا بين التناول النسوي والآخر الذكوري في سائر حقول الفن والأدب، وذلك ليس من باب الأفضلية والتقييم، وإنما بسبب أن كلَّا من الجنسين له كيانه المغاير، وتركيبته السيكلوجية والفسيولوجية والذهنية والشعورية، وملامحه النوعية والشخصية، إلى جانب وضعيته في المجتمع بين المركزية والتهميش، وإلى أي مدى يتمتع بالتحرر وبالاستقلالية المالية وبامتلاك حقوق الاختيار والتفكير والتصرف واتخاذ القرار بمعزل عن القيود والضغوط، بالإضافة إلى قائمة المسؤوليات الأسرية والعائلية المنوطة بكل جنس من الجنسين، وهي كلها عوامل بالغة التأثير والتدخل المباشر في نتاج المرأة الإبداعي، كيفًا وكمًّا، خصوصًا في المجتمعات العربية التي لا تزال المرأة فيها تكابد أعباء ومعاناة فوق طاقتها وتحمّلها.

وسط هذه التحديات كلها، تتجلى صعوبات أخرى إضافية عند التطرق إلى المقاربة النسائية لفن النحت على وجه التحديد، فهو في جانب من جوانبه فن يستلزم القوة البدنية، والتعاطي مع خامات قد تكون صلدة قاسية كحجر الغرانيت، ومعدات ثقيلة صعبة لتقطيع المواد وجلوها، بما يجعل الاستعانة بمساعدين أمرًا ضروريًّا، كما أن ممارسة النحت "كما ينبغي" يصعب أن تتم خارج "ورشة" كبيرة مجهزة، بعكس فنون أخرى بصرية يمكن للمرأة ممارستها في ركن صغير من أركان البيت.

أما التحدي الأكبر المتعلق بالنحت، فهو أنه فن الأجساد في المقام الأول، والتجسيم، وإبراز الكتلة في الفراغ، بما يضع كافة تساؤلات الجسد وإشكالات التحرر والتابوهات الموروثة على المحكّ، ويعمّق من صعوبة الاختبار الذي تخوضه المرأة في الرؤية والتعبير وآلية العمل الإبداعي.

"عشر نحّاتات مبدعات"، عنوان معرض جريء انطلق مؤخرًا في غاليري "خان المغربي" في حي الزمالك بالقاهرة (18-28 نوفمبر/ تشرين الثاني)، متضمنًا أعمالًا نحتية لعشر فنانات مصريات معاصرات، هن: مريم الكسباني، منى هيكل، ميسون الزربة، هدير إدريس، ريم أسامة، زينب صبحي، سمر محمد، يوستينا فهمي، سالي راجح، سمر مجدي.

بقدر ما نجحت النحّاتات المصريات الشابات في خوض مغامرة الفن بما لديهن من موهبة وجسارة، وما في وسعهنّ من إرادة، بقدر ما جسّدت أعمالهن السقف المتاح للمرأة حال إقدامها على ممارسة الفن، وبدت الصورة أكثر وضوحًا في حالة النحت، كون إشكالاته سالفة الذكر تزيد الأمور تعقيدًا أمام الخطوات النسوية غير الاعتيادية في مجتمع تمييزي مأزوم، وفي واقع مترصّد يواجه المرأة بالتضييق والاختناق حد الانسداد.


ثمة عشرات الإشارات في معرض النحّاتات المصريات إلى أن هذه الأعمال لم تكن لترى النور على هذا النحو إلا بأنامل أنثوية، وهي ليست مجرد شواهد شكلانية، وإنما في صميم التجربة الإبداعية، وداخل أنسجة التكوينات الفنية ذاتها.

حلّت الرهافة والوداعة والليونة والانسيابية والفيوضات الداخلية المتعلقة بما تحت السطح والطبقات العميقة الغائرة في المجسّمات، محل الضخامة والصلابة والشموخ والرغبة في احتلال الفضاء الشائعة في معارض النحت لدى الفنانين الرجال، التي تقام عادة في قاعات كبرى.

جاءت المنحوتات النسوية صغيرة في مجملها، تقوم على الاستشفاف وتكثيف المشاعر والاستعاضة عن مادية الجسد بروحانياته، وهذا المأمن التعبيري يتوازى مع إمكانية تأمين المرأة نفقات قطع صغيرة بعد ارتفاع أسعار الخامات بشكل جنوني، إلى جانب إمكانية سيطرتها على الخامة دون الاحتياج إلى قوة بدنية ومساعدة وورشة ضخمة خارج المنزل، بالإضافة إلى العنصر التسويقي الذي يسيطر على فلسفة المرأة في تكويناتها، التي جاءت أقرب إلى قطع الديكور، من حيث الألوان المبهجة، الهادئة والصاخبة، والأفكار والاختيارات والجماليات القياسية.

أطلت المرأة من خلال العروس الفرعونية وربة الجمال الإغريقية والقطة والسمكة والجمل والفراشات والكائنات الأليفة والأصداف والقواقع البحرية وراقصة الباليه والحقيبة النسائية التي مفتاحها رجل وامرأة عاشقان، وباستثناء "الغرانيت" في أعمال منى هيكل التي جاءت كتكوينات مركبة، فإن الخامات المنتقاة كلها طيّعة قابلة للتشكل والصبّ، ملائمة لأصابع المرأة، مثل البرونز والبوليستر والخزف.

عنيت النحاتات المصريات في المعرض الجماعي بتقديم المرأة ككيان هش في الأساس، وكتلة ملتهبة من المشاعر الجياشة والانفجارات، وليست كبنيان قوي ممتلئ يناطح الرجل، فهي وإن كانت غائبة أحيانًا كمادة فإنها حاضرة فعليًّا وضمنيًّا في سائر التفاصيل والأشياء والمنمنمات الصغيرة، وفي عطر الوردة المتشهى، ورفرفة أجنحة اليمامات، والموسيقى المنثالة من التكوينات المتجاورة، المتحاورة، في السيمفونية الأوركسترالية البصرية.

لم تغفل أعمال المعرض كذلك رغبة المرأة في إبراز تمردها وانفلاتها وجموحها وفكاكها من الأسر ودفعها القيود واستعدادها للدفاع عن نفسها واسترداد حقوقها المسلوبة وما إلى ذلك من القضايا النسوية التقليدية شائعة الانتشار في إبداع المرأة المألوف والمتوقع، ويتضح ذلك في أكثر من عمل وتكوين.

في هذا الإطار، على سبيل المثال، جاءت الأذرع والأقدام المنتفضة لدى يوستينا فهمي، والنملة المقاتلة لدى مريم الكسباني، والمرأة الراسخة لدى ريم أسامة، والمجسمات الصلبة لدى ميسون الزربة، بالإضافة إلى التكوين المركب، متعدد القطع، الكبير نسبيًّا قياسًا بأعمال المعرض، الذي صاغته منى هيكل من الغرانيت الأسود، وهو عمل صعب تبرهن فيه الفنانة على إمكانية استعراض المرأة عضلاتها في الوصول بالخامة إلى هذا المستوى من الانسيابية والمرونة والنعومة، مع وضع خطوط ملساء على السطح كلمسات دافئة، بدون جرح التكوين أو خدشه.

على الرغم من تصوير بعض الأعمال جسد المرأة كاملًا غير منقوص، كما لدى سالي راجح وريم أسامة ومريم الكسباني ويوستينا فهمي، فإن الأعمال جميعها نجت من الفضائحية واللغة الجسدانية الفجة، لكنها في الوقت نفسه استغرقت في التحفظ والالتزام بما يمكن قبوله مجتمعيًّا حال انقلاب التمثال إلى امرأة حقيقية من لحم ودم، ولم تعمد أية فنانة إلى تقنيات المبالغة والتضخيم والمفارقة وغيرها لإبراز مقوّم جسدي ما أو التعبير المباشر أو الرمزي بأبجدية الجسد.

معرض "نحاتات مصريات"، باختصار، تجسيد لإبداع المرأة تحت سقف المتاح، الممكن، وهو لا يزال أدنى بكثير من المأمول، والمستحيل، بسبب عوائق عدة، مجتمعية وأسرية واقتصادية، ويكفي دليلًا على ذلك أنه في ظروف أخرى أكثر رحابة، كما في سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت، حيث يتوفر الوقت والمكان والخامات المجانية والقبول المجتمعي للتجديد والتحرر، فإن المرأة تخطو خطوات أبعد بكثير صوب ما تحلم به، ويرضاه الفن.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها