الخميس 2019/11/28

آخر تحديث: 13:10 (بيروت)

سادة الكيتش... العسكر الأسدي وجورج وسوف

الخميس 2019/11/28
سادة الكيتش... العسكر الأسدي وجورج وسوف
لبنان أنقذ وسوف من مصير فناني سرايا الدفاع، وهو التصق بماهر وبشار الأسد
increase حجم الخط decrease
خضع السوريون لعزلتهم الثقافية بعد السنين العشر الأولى لوصول حافظ الأسد للسلطة. عشر سنوات كان فيها المجتمع، يناضل متعثراً لكي يُبرز ما يستطيع فعله، من دون أن تتوغل السلطة في صناعة (الثقافة \الفن)، والقبض عليه بوصفه تعبيراً لها ومنها. وصولاً لفترة الثمانينيات، حيث فتح النظام النار على السياسة والمجتمع، وانتهت الرحلة المتعثرة من حكم البعث بقبول ما لا ينتجهُ هو داخل المجتمع.

خضعت سوريا لحكم قمعي مهووس، لكن القمع لا يكتفي في التعبير عن نفسه على أجساد السوريين وحرياتهم، كان لا بد من خلق بيئة يُمدح فيها القمع وهو يحملُ جمالاً بين يديه، ويحُقق عزلة الفن عن المجتمع، كما تنعزل السلطة ذاتها عن المجتمع. وبأبسط الطرق، لم يقترف النظام معجزة من أجل ذلك، كان الفن الأقرب لمخيال الطبقة العسكرية الريفية الحاكمة (الصوت البشري\ المُغنون). المغنون في الملاهي والمطاعم، هم فقط فنانو سوريا الأكثر غريزة والتصاقاً ومن السهل الوثوق فيهم وإعادة إنتاج السلطة فيهم. الطبقة العسكرية الريفية التي وصلت إلى دمشق، جلبت فنان الريف معها إلى المدينة وأودعته بين يدي طبقة التجار وزبائنهم. وفي مفارقة عن السائد عالمياً عن (سادة الكيتش) - حسب تعبير أدورنو لصناع الفن الرديء -، كان الفنانون حسب أمزجة واختيار ضباط عائلة الأسد، رفعت الأسد خصوصاً. أما المُستثمر فكان التاجر المُسوق صاحب المطعم أو الملهى. فخلافاً للموجة التي راجت عالمياً بصناعة الفن على مشروطية القدرة على تسويقهم والربح منهم، صنع العسكر الفنانين حسب أمزجة قادة الضباط والمقربون من حافظ الأسد وأقربائه. من هنا كان مثلاً جورج وسوف، مطرب وفنان قوات سرايا الدفاع، سواء في دمشق أو أرياف سوريا عموماً، فحينما كانت مدافع النظام تضرب مدنية حماة المحاصرة، كان جورج يُطرب حاضريه من الضباط وغيرهم، بأشعارٍ مغناة ذات طابع مدائحي ريفي لحزب البعث وضباطه.

وسوف مع ماهر الأسد

 فتحول القهر الوجداني الخلاصي العام في الأغنية الريفية، إلى زهوٍ مصطنع بقوة الضباط وسطوتهم. أدبيات الحب الريفية التقليدية مُزجت مع تيار من القصيد المُقدس لحافظ الأسد بوصفه نبياً ومعشوقاً ودليلاً للحياة. كان جورج وسوف يواكب الحلقة الأولى من العزلة بين فن السلطة وسوريا عامة، ويستتبع جيلاً كاملاً أُمسِك من تنظيمات سرايا الدفاع، التي بات رفعت الأسد بطلها، وجورج وسوف مُغنيها. لقد غنى جورج وسوف أفضل أغنياته لضباط كانوا يفتكون في سوريا ويصنعونها في آنٍ واحد.

ولم يخضع الوسوف لإجراءات الأدلجة، كأن يوصف كفنان المقاومة مثلاً، وذلك لصغر سنه، وارتباط الشبان وجدانياً بأغانيه وميله هو لتطوير أغنيتهِ وفقاً لتطور شعبيته وخاصة في لبنان الذي صنعه وسوّق له وجعله سلعة ثرية عربياً. لبنان أنقذ جورج من مصير سيئ لفنانين سرايا الدفاع، وهو نفسه التصق سريعاً بالعائلة وشبانها ماهر وبشار.

ولم يكتف جورج وسوف أبداً بوصفه شاباً نجح في التملص من يد السلطة، إلى أيدي المبدعين والمُسوقين الذين رفعوا شأنه، أو أن يبدو مغنياً كلاسيكياً محبوباً ونجماً ومبدعاً. كانت لجورج وسوف شخصية أخرى في سوريا ولبنان، بأن يبدو مزهواً وفخوراً بوصفه فنان السلطة ومتتبعاً لسلوك ضباطها، وفي ذات الوقت محمياً وكأنه مسؤول فيها. فبخلاف تواضع فؤاد غازي مثلاً، كان لجورج أن يبدو في الشارع أقرب لرفعت الأسد، مواكب سياراته، التي تُشبه سيارات أبناء السلطة الحاكمة. سلوكه العنفواني أمام أي كاميرا، مدى حريته في التلفظ والقول عما يدور في خُلده. هذا ما لم نستثن سلوكه الإدماني على المواد المُخدرة والذي يعرفه كل السوريون واللبنانيون والعرب. حالات الاختفاء المرضي بسبب إدمان الكوكايين، والتي لم تُلاحقه عليها السلطات في سوريا أو في لبنان، جعلت (سلطان الطرب)، و(معجزة الفن) أشبه بشبيح أو مُهرب لا تطاله يد العدالة. أي مثله مثل أبناء السُلطة دونه القانون أو الحساب. وبعيداً عن إبداعه أو حتى الظلم الذي لحق فيه كونه لم يُكمل العشرين عاماً حتى أصبح نجماً. إلا أنه شكل لجيل كامل في سوريا مثالاً، لسلوك ممدوح لمدمن الكوكائين والحشيش. فلم يُشاهد أحد الوسوف معتقلاً، أو يخضع لمحاكمة أو تحقيق قانوني بما يخص امتلاكه لكميات من المواد المخدرة. وبدا الوسوف فنان السلطة والشعب في آن واحد. فالوسوف كغيره من نجوم سوريا يخضعون في وقتٍ ما لمهماتٍ يمارسونها لخدمة السلطة، أما ما يقدمونه للمجتمع لا يتجاوز أن يغنوا لهم بعد أن تحولت البلاد كلها لما يُشبه الملهى.

أما "عزلة العزلة" بحسب تعبير أدورنو أيضاً، كانت موجة علي الديك، المطرب الريفي الأقرب لبيئة السلطة. إذا كان جورج وسوف يجتهد لإنتاج لحنِ وكلمة من أجل مدح عائلة الأسد وضباطها، دون أن يتنازل عن النظرة العميقة لإبداعه، فإن علي الديك لم يفعل شيئاً سوى إنتاج صراخٍ هائج وسط موسيقاه الرديئة، هذا الصراخ حمل شِقاً سياسياً معرفياً قهرياً أيضاً، فبات السوريون عبر الكاسيت يسمعون تحياتٍ تُرمى لبشار الأسد، وحسن نصر الله، ونبيه بري. هذا الحلف الذي لا يتسع له فنٌ إلا ما يليق بعلي الديك وعائلته. كانت عودة السوريين لموسيقى أكثر تأملاً وإبداعاً مستحيلة، مع التطور الموسيقى في العالم، إلى مستوى أكثر التصاقاً بالجسد (الرقص \ الحركة \ التأثر \ الهيجان) والعنفوان السلوكي لجسدي، لم يستطع السوريون إخراج ما يُمكنه الوقوف في وجه سلطة تدعم هيجاناً موسيقياً. ما لم نقل أنه بالأصل بات المجتمع بِلا ذائقة معرفية أو موسيقية. هنا ذاكرة الصوت ومداه ترتبط بقدرة الفنان على أن يبدو فناناً وديماغوجياً في آن واحد. ونجح علي الديك في ذلك، في ظل انحسار سلطة الأسد في الأعوام المتأخرة من القرن الفائت عن صنع ما يجعل السلطة مزهوة بنفسها، بأن تملك صدى لحكمها عبر الأصوات والمغنين.

علي الديك

فكان علي الديك أكثر نضالاً من جورج وسوف ليصل إلى نجوميته، لكن عبر فئة أخرى وأدنى من ضباط رفعت الأسد رفيعو الشأن. الضباط البُسطاء الريفيون، الذين أعادوا خلق علي الديك على أسطح المنازل الفقيرة في الأعراس، وحفلات الملاهي والساحات. فقراء الريف الذين لم يعرفوا من الموسيقى في مدارسهم، بل عرفوها من حفلات يُقيمها مهووسو ضرب طبول، ومقدِسو حافظ الأسد وبشار وحسن نصر الله. فلا يوجد سوري واحد سُمح لها بالرقص دون أن تبدأ الحفلة بتحيةٍ لحلف المقاومة. في عزلة العزلة التي نحياها اليوم، لا يملك المجتمع أي فنٍ دون قهر، لأن السلطة القاهرة تشترطهُ على الفنان. ولمرة أخرى تصل سوريا إلى لبنان بفناني السلطة، لكن بنسخة أكثر رداءة بآلاف المرات من جورج وسوف. ولا يُعيب السلطة أبداً، أن يبدو علي الديك، أو مستواه السلوكي الشخصي، مثيراً للضحك والاستهزاء، أكثر مما يعطي احتراماً وتعبيراً عن سوريا ومجتمعها. لا بل نقل الديك مخيلة طفولته وطفولة الطبقة الريفية الحاكمة إلى استديو كامل في لبنان، وهذا لا يشي بالتواضع كما يبدو من النظرة الأولى، بقدر ما يبدو فيه تعبيراً عن الإنسان السوري عن نفسه بوصفه بسيطاً وساذجاً، بالأحرى جندياً بسيطاً مُجهلاً يجلس في أي وقت وراء تنظيم فاشي، بالأصل هو يملكه في مدارس البعث وحكم الأسد. وإن كانت بيروت ضالة السلطة دوماً في سوريا لتبدو مزهوة، إلا أن عودة فترتي العزلة إلى سوريا تبدو سهلة، فجورج وسوف يحرص على تقبيل يد رامي مخلوف أمام الملأ في حفل فني عام، كحاجة عبد لسيدٍ دوماً. وماهر الأسد يحرص على أن تبدو صورته الأولى بعد غيابه عن الظهور طويلاً مع جورج وسوف، أثناء خطاب الأسد الأول بعد انتخاباته الأخيرة. أما علي الديك فيقاوم باسم السلطة بدرجة أدنى، حيث السلطة تخجل من طابعها الريفي في أن يبدو مُمجداً وتحت الضوء. هذا التواضع الفج يبدو كارثياً. لكن صيد بيروت دوماً يبدو كارثياً أيضاً، فالميديا اللبنانية التي تُريد أسواقاً جماهيرية، قدمت للنظام السوري مكافئة لم يحلم بها من مغنى عريق كجورج وسوف، فكان علي الديك أكثر تسويقياً وجماهيرية. هنا تلتقي سلطة رأس المال مع أجيال رفعت الأسد في الإنتاج الفني، وتبدو سورياً فنياً بلا أي قيمة سوى أنها تصرخ.

في عزلتنا الحالية يبحث السوريون عن الصوت في كلاسيكيات يُعاد غنائها، فرق حديثة خارج يد السلطة تغني تراثاً قد مات، لكن مسيرة الصوت الغنائي العام في سوريا في عزلته دوماً لا يبدو اجتماعياً أبداً. بل قهرياً، فلا موسيقى أو طبل، دون تمجيد لنصر الله والأسد، كقيمة لوجود الفن أصلاً. الأقسى أن ضباط الملاهي والحروب هم من يملكون آذاناً فقط. لا غناء في سوريا لمجتمعها ولا موسيقا بالكاد يحلم فنانو سوريا بأن يسمح النظام لهم بالظهور عبر شاشته دون التملق له، والحلم يبقى أن يصلوا لبيروت لكن بعد أن تمسهم أيدي ضباط الأسد. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها