الأربعاء 2019/11/27

آخر تحديث: 13:04 (بيروت)

حسن خضر... رداً على رسالة الياس خوري(*)

الأربعاء 2019/11/27
حسن خضر... رداً على رسالة الياس خوري(*)
غرافيتي وسط بيروت
increase حجم الخط decrease
كان ينبغي استكمال ما بدأ قبل أسبوعين في موضوع الكلام عن "المغفّل المفيد"، وكيف يمكن أن يستفيد شخص أو جماعة من أفكار شخص آخر قد يكون نقيضاً لهم في كل شيء، لكن في وسعهم توظيف أفكاره، بطريقة انتهازية تماماً، تكفي لتجعل منه مغفلاً مفيداً.

ومع ذلك، وبما أن الكاتب لا يتمكن مِنْ، ولا يحق له، النجاة من أعباء الجاري، فإن ثمة ما يبرر التوقّف عند رسالة صديقنا الياس خوري التي يعتب فيها على "النخب الثقافية والمناضلين والمناضلات" في فلسطين لأنهم لم يُظهروا قدراً كافياً من التفاعل مع ثورة اللبنانيين على نظامهم الطائفي الفاسد.

وفي السياق يطرح أسئلة موجعة: "ألا تشعرون أن اللغة القديمة ماتت، وأن فلسطين باتت تعيش في مقبرة لغوية وثقافية وسياسية؟"، "أين الضمير الفلسطيني الذي كان ويجب أن يبقى ضمير كل المضطَهدين في العالم؟"، "أسألكم لماذا هذا الصمت؟"، وينادي مَنْ يخاطبهم بالرفيقات والرفاق: "تعالوا معي إلى البداية، ففلسطين لم تكن إلا قضية حرية وحق، وهي بهذه الصفة استطاعت أن تلهم أجيالاً من الشابات والشبان العرب الذين رأوا فيها بداية تحرر المنطقة من الاستبداد الذي جلب لها عار الهزيمة الحزيرانية. فكرة الحرية تتخذ اليوم مسارات جديدة، عنوانها النضال من أجل المساواة والديموقراطية. كيف لا تكون فلسطين جزءاً من هذا النضال؟ وإذا لم تكن كذلك فماذا تكون؟".

في أسئلة كهذه ما يبرر فتح أكثر من نافذة في مكان ركد فيه الهواء، حتى وإن جاءت على لسان شخص على الهامش، وما أدراك إذا جاءت من جانب كاتب كبير اعتنق فلسطين هوية وقضية، لا لأسباب طائفية، أو عنصرية قومية، أو دينية، بل لأنها قضية حرية، ولأن زهرة عبّاد الشمس الفلسطينية مفتونة ومسكونة بشمس الحرية، ودليل الباحثين عنها، في ليل العرب البهيم.

وبما أن الشيطان في التفاصيل، فإن قراءة سريعة لتعليقات "فايسبوك" القصيرة على رسالة خوري كانت تكفي لملاحظة أن أسئلته الموجعة لم تكن تغريداً خارج السرب، بل كانت ترجمة لمشاعر لدى كثيرين. كان فوّاز طرابلسي، مثلاً، من المعلّقين على الرسالة، وهو كاتب كبير اعتنق فلسطين هوية وقضيّة، أيضاً.

وأعرفُ أن أسئلة الياس الموجعة تتجلى، أحياناً، في نظرات عتاب لا يصعب تفسيرها تلوح في عيون أصدقاء من العالم العربي، نلتقي بهم في مدن وعواصم أوروبية مختلفة. ومنذ اندلاع ثورات الربيع العربي المبارك، قبل ثماني سنوات، تحوّلت نظرات العتاب إلى لغة، واكتسبت مفردات صريحة وفصيحة خاصة من جانب السوريين العرب والأكراد.

الكل يسأل عاتباً أو غاضباً: ما الذي أصابكم. وإذا أردنا الحق والحقيقة، وطالما نحن في معرض تأبين صديقنا ورفيقنا أمجد ناصر، فينبغي القول إنه كان أوّل من طرح أسئلة كهذه في صفحات "القدس العربي" قبل ما يزيد عن عقدين من الزمن. وفي لقاء جمعنا في تلك الأيام أعاد طرح الأسئلة نفسها. فما الذي أصابنا؟

ثمة، في الواقع، أكثر من طريقة للتفكير، لا في موضوع رد محتمل على أسئلة الياس، بل في جدوى الرد نفسه، حتى قبل التفكير في مضمونه. فإذا تمثلت الجدوى، مثلاً، في إقناعه، وإقناع كثيرين نعرفهم ولا نعرفهم، بأن ثمة ما يشبه نوبة إغماء خفيفة نتيجة أعباء المجابهة مع الاحتلال، أو الانقسام، فلا فائدة من الرد.

ولا استبعد حتى لجوء البعض إلى ما وصفه الياس في رسالته "بمقبرة لغوية وثقافية وسياسية"، لاستعارة مفردات وتكتيكات سجالية من نوع: نعم، ولكن.. تعرف يا حبيبنا، يا أخ الياس، ظروفنا، وما نجابه من ضغوط تستدعي الموازنة بين أشياء كثيرة، "وما في القلب في القلب، طبعاً". ولا ينبغي حتى استبعاد "فرد الملاية" على طريقة العوالم في أفلام الميلودراما المصرية، ورشق "الأخ الياس" بعبارات قومية لاذعة من عيار ثقيل.

لذا، لا فائدة من الرد إذا حصرنا الجدوى في احتمالات كهذه. لكن الرد يصبح مفيداً ومجدياً إذا كان مدخلاً لتأمل صورتنا في المرآة، وممارسة النقد والنقد والذاتي، لا بما يكفي لتفسير أو تبرير ما نحن فيه وعليه، بل لإغناء الثقافة الوطنية من ناحية، ومجابهة صعود وهيمنة ميول رجعية محافظة، وشعبوية بليدة، في ثقافة كانت حتى وقت قريب مسكونة بعكس هذا كله. فما الذي أصابنا؟

ولكي يستوى الكلام على سكة واضحة، أود القول إن لديّ الكثير من التحفظات على تعبيرات من نوع "المثقفين" و"النخب المثقفة"، فهي فضفاضة، ملتبسة، وإشكالية لأنها تفتقر إلى حدود ومعايير واضحة، لا لصعوبة العثور على، وتعريف، معايير كهذه، بل لأن في ما ينجم عن الالتباس من فوضى دلالية ما يمكّن أفراداً لا تنطبق عليهم معايير كهذه من الحصول على، والإحساس بامتياز خاص، نتيجة الانتساب إلى جماعة ذات قيمة رمزية عالية، ناهيك عن فوائد مادية واجتماعية كثيرة، وكلها مُعرّضة للضياع إذا ذاب الثلج وبان المرج، وهؤلاء هم الأكثر حرصاً على ديمومة الالتباس، و"الغموض البنّاء" الذي يمنح "المثقف" وظيفة وهمية اسمها "حماية الثوابت".

لذا، ستكون المعالجة اللاحقة في موضوع "النخب الثقافية" و"المثقفين"، مقدمة في معرض الرد على أسئلة الياس، والذي سيغطي على الأرجح أسابيع كثيرة لاحقة. فأنا، مثلاً، لا أعتقد أن ثمة "نخبة" ثقافية في بلادنا، بل أميل إلى وجود حقول ثقافية متوازية، وإلى وجود طبقة وسطى مشوّشة، وفي حالة سيولة وفوضى كاملة، كما فسّر جميل هلال في قراءة سوسيولوجية بديعة قبل سنوات. وهذا كله يستدعي التفكير والتدبير.

استرجاع الماضي!!
كيف تنشأ النخب؟ بداية، لا إمكانية لنشوء نخب اجتماعية مستقرّة، وذات تقاليد، سواء أكانت ثقافية أم سياسية أم اقتصادية، من دون الاستقرار والسلم الأهلي. وبداية، أيضاً، لا إمكانية لنشوء نخبة اجتماعية، مِنْ كل ما ذكرنا، من دون تراتبية. وقد يحتاج الأمر عقوداً طويلة لبلورة حقول ذات صلة.

لذا، تتسم فترات الانتقال الثوري من نظام إلى آخر، بقدر كبير من الفوضى والاضطراب، ولا يخلو الأمر من مذابح في حالات كثيرة، لأن صعود فئات اجتماعية جديدة إلى مركز السلطة، وانتزاعها لامتياز النخبة، يستدعي القضاء على، أو إخضاع، نخب سابقة. وهذا لا يحدث بطريقة ودية، كما تعلّمنا من ثورات من عيار تاريخي ثقيل كالفرنسية، والروسية، والإيرانية.

من الأمثلة القريبة ثورة الضبّاط الأحرار على المَلَكية في مصر. لم تشهد البلاد مذابح، لكن صعود العسكريين إلى موقع نخبة السلطة، وصنّاع النخب في كل حقل آخر، ترك أثراً دائماً في كل أوجه الحياة في مصر، وبلدان عربية تأثرت بالنموذج المصري، وأدخل بلداً تعود فيها تقاليد الحكم المركزي، والبيروقراطية، إلى بضعة آلاف من السنين، في دوّامة بحث طويل ومؤلم عن مخرج آمن يعيد العربة إلى سكة أكثر استقامة على أرض أكثر صلابة.

والدليل، من دون ذكر الرئاسات الانتقالية، أن أوّل رئيس للجمهورية (نجيب) قضى أيامه الأخيرة ما بين السجن والإقامة الجبرية، وثالث رئيس (السادات) اغتيل في وضح النهار، ورابع رئيس (مبارك) سقط في ثورة شعبية عارمة، وخامس رئيس (مرسي) مات في السجن، وسادس رئيس، أي الحالي، يجابه تحديات يصعب التقليل من جسامتها، أو غض النظر عن سياسات القبضة الحديدية في التعامل معها.
وإذا كان هذا هو الحال في بلد من وزن مصر، فما أدراك كيف يكون الحال في فلسطين، في ظل سلسلة متلاحقة من الزلازل والبراكين والتحوّلات البنيوية، والشروخ العميقة، على مدار مئة عام، وكلها كانت ولادات قسرية وقيصرية. فأجزاء كبيرة من البلد تعرّضت للتطهير العرقي، والقسم الأكبر من السكّان تحوّل إلى لاجئين، وسُلب القسم الأكبر من الأرض، ونشأ شتات في الجوار القريب والبعيد يكاد يوازي في الوقت الحاضر الباقين في بلادهم.

ثمة ما لا يحصى من التفاصيل. وما يعنينا أن كل تلك الزلازل والتحوّلات أسهمت في زعزعة نخب، ونشوء نخب. والمشترك بينها يتجلى في وجود مؤقت، وكينونة هشّة، وحالة تشظٍّ دائمة في جزر جغرافية وديموغرافية معزولة، ورافعة اجتماعية غير مستقرّة، وحياة قصيرة إلى حد لا يسمح بنشوء تقاليد تمتاز بالثبات والديمومة. ذلك ما حاول تشخيصه، وأخطأ، فيصل درّاج في "بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" حين عاد بالمشكلة إلى غياب "المثقف العضوي"، والجذور الريفية للمثقفين.

وكما في كل مكان آخر، لم يكن في وسع حقول ثقافية أن تنشأ من دون علاقة من نوع ما بسلطة مركزية، بما فيها سلطة الاحتلال. فعدد من موظفي وزارة المعارف الإسرائيلية، في الجليل، صوّتوا في وقت ما للأحزاب الصهيونية، ولأحزاب قومية ـ دينية كالمفدال، للبقاء في الوظيفة. وفي دمشق وبغداد والقاهرة وبيروت، وجد بعض الفلسطينيين منابر ثقافية وإعلامية وفّرت لهم، لأسباب أيديولوجية، مساحة كبيرة.

ولعلنا نعثر في خصوصيات كهذه على مصدر للنعمة والنقمة في آن. فالتشظي، وانعدام الطمأنينة والاستقرار، لا يسمح بنشوء قيم وتقاليد ثابتة، فالقيمة الأهم هي البقاء. "بالعربي" في هذا ما يؤسس لنزعة انتهازية تكاد تكون عضوية، ويبرر الاستفادة من علاقة تأزّمت بين سلطتين في بلدين عربيين، مثلاً.

ففي الصراع بين نظامي البعث، في سوريا والعراق، تلقى بعض "المثقفين" "مساعدات" من العراق، لأنه يعيش تحت سلطة البعث الأسدي، والبعض حصل على امتيازات من البعث الأسدي لأنه يعادي البعث الصدامي، ولم يندر، أحياناً، أن يستفيد هذا وذاك من هذا وذاك، ناهيك، طبعاً، عن الاستفادة من "الأخ العقيد". شهدتُ بعض حالات الفساد "الثقافي" تلك.

ولنتذكّر أن تأييد الانشقاق في حركة فتح، وما انطوى عليه من محاولة لشق منظمة التحرير، والاستيلاء عليها، وإطاحة عرفات، لم ينجم عن "حنبلية" سياسية وثقافية من جانب البعض، بل أملته علاقات ومصالح في دمشق. والمهم، أن في "القضيّة" ما يُمكّن البعض في الماضي والحاضر من التخفي وراء وقناعها، مع ميول محافظة ورجعية في الغالب.

أما مصدر النعمة فيتمثل في الاحتكاك والتفاعل مع ثقافات أكبر، والانخراط في حقول ثقافية أوسع، والانتقال من حقل إلى آخر، وتفادي السلطات الرقابية، بما فيها الاجتماعية وهي الأسوأ. ولم يكن من قبيل الصدفة أن نهضة الفلسطينيين، الثقافية، وثيقة الصلة بولادة حركتهم الوطنية الجديدة في أواسط الستينيات، وأن القاهرة، ودمشق، وبغداد، وبيروت، أي الحواضر والحواضن التي تنفسوا فيها، عاشت آنذاك ما ندعوه، اليوم، بالعصر الذهبي للثقافة العربية.

ومصدر النعمة أن صعود الحركة الوطنية كان جزءاً مِنْ، وترافق مع، ونجم عن، حركة التحرر القومي في المستعمرات، وصعود اليسار الجديد في العالم. لذا، لم يكن من قبيل الصدفة أن تكون البيئة التي أنجبت معين بسيسو، ومحمود درويش، وغسان كنفاني، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد، وإميل حبيبي، ماركسية. ولم يكن لم قبيل الصدفة أن تنشأ فصائل فلسطينية ماركسية، إضافة إلى حزب أقدم هو الشيوعي.

هؤلاء هم الذين أضفوا على الثقافة الفلسطينية نزعة راديكالية مسكونة بفكرة التقدّم، ومعادية للرجعية. حتى جبرا، تمكّنت منه نبوءة لتوينبي عن الفلسطيني كرسول للتغيير. في أسبوع قادم نتقدّم أكثر، فما نرى في قسمات الحاضر يعمّق من فهمنا لأطياف الماضي، والعكس صحيح.

(*) مدونة نشرها الكاتب الفلسطيني حسن خضر على حلقتين في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها