السبت 2019/11/23

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

في أثر إيمان مرسال

السبت 2019/11/23
في أثر إيمان مرسال
ايمان مرسال
increase حجم الخط decrease
أتخيل، معتمدًا على خبرة كوّنتها الصورة السينمائية، أن اقتفاء الأثر يفرض طريقًا تنظمه العشوائية، قد تحيل نقاطه الأبعد إلى ما قبلها والعكس. اقتفاء الأثر يشبه ما قصّته شهرزاد، مئات الحكايات تخرج من حكايتها الأولى إلى فضاء يعيدها إليها، يشبه بناء الكلام الحميم، يشبه الرحلة "تجاه شخص لا يستطيع الكلام عن نفسه"، يشبه النص الروائي. لذلك لا تتبع إيمان مرسال في "أثر عنايات الزيات"(*) طريقًا أفقيًا، وتخوض الرحلة، من دون أن تغري القارئ بهدف واضح في النهاية. هي الدليل، والقارئ هو من يخرج في طلب الأثر، يخوض من ورائها وإلى جوارها أحياناً، وفي أحايين كثيرة يقتفي أثره الشخصي للوصول إليها.

ذهبت إيمان مرسال، منتصف التسعينات، إلى سور الأزبكية، تبحث عن نسخة رخيصة الثمن من "كرامات الأولياء" للنبهاني، لاستخدامها في بحثها لنيل درجة الماجستير، لكنها وجدت رواية "الحب والصمت" لعنايات الزيات، فأخذتها، من دون أن تدري أنها ليست الأخت الصغرى للطيفة الزيات، ومن دون أن تعرف شيئًا عن الطريق الذي ستخوضه للبحث عن الكاتبة التي انتحرت لأن الدار القومية التي أسسها النظام الناصري رفضت نشر روايتها، قبل أن تصحح خطأها وتنشر الكتاب بعد موت صاحبته بأربع سنوات.

يمكن، ببساطة، إيجاز تلك الرحلة التي خاضتها مرسال، بأنها كانت تبحث عن قصة كاتبة انتحرت لرفض نشر روايتها، داخل جغرافيا منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الحاضرة، بكل ما تحتمله من علاقات سياسية واجتماعية وتاريخية، لكنه إيجاز مُخلّ. كانت إيمان مرسال تكتب رواية عن "عنايات الزيات"، حتى وإن قامت على أساس حوار "من طرف واحد".

العالَم الشعري، بوصف ميخائيل باختين، "مهما تكن التناقضات والصراعات اليائسة التي يكتشفها الشاعر (...) هو دائمًا عالم مضاء بخطاب وحيد"، لكنها اللغة التي استطاعت من خلالها إيمان مرسال إشعار القارئ بـ"الصور النموذجية والمتوضعة للأجناس التعبيرية (غير الجنس الشعري نفسه)"، و"رؤيات العالم" بعيدًا من رؤية الشاعر الوحيدة والفريدة له وبواسطتها في الوقت نفسه. كانت إيمان مرسال تكتب رواية عن عنايات الزيات التي انتسبت للبرجوازية المصرية، وقضت طفولتها وشبابها في صفوف مدرسة الراهبات الألمانية، وتعلمت اللغة العربية خصيصًا لتكتب روايتها الأولى،
وعانت الاكتئاب منذ طفولتها، وارتبطت بصداقة حميمة مع الممثلة نادية لطفي، وخاضت نزاعاً قضائيًا لطلب الطلاق من ابن صانع الصابون المعروف "شاهين"، وضحّت بالحب من أجل ابنها، وبدأت في كتابة روايتها الثانية عن عالِم المصريات الألماني المثير للجدل، لودفيغ كايمر، قبل أن تنتحر بعد رفض إحدى مؤسسات وزارة الثقافة والإرشاد القومي لها، وقبل أن تدمر أسرتها النصيب الأكبر من أرشيفها لطمس "غضب عنايات"، و"عدم انسجامها مع من يحيطون بها" في مقابل أن تبقى "السيرة الطيبة التي يريدون لها أن تبقى"، والتي يعاد تأويلها بحيث "يصبح التأويل هو القصة الحقيقية".

مثل أي روائي، صنعت إيمان مرسال تاريخًا لكل شخصياتها الثانوية، وللأماكن والمناسبات التي خاضوها، وربطت بين كل ما يبدو دخيلاً وبعيد الصلة برباط وثيق ببطلتها الرئيسية. فبدلًا من أن ترصد النزاع القضائي لطلاق عنايات الزيات، ذهبت أبعد من ذلك إلى فيلم "أريد حلاً" الذي يناقش مآسي قضايا الطلاق، وإلى قانون الأحوال الشخصية التي ينظمها، وإلى "حسن شاه" التي كتبت قصة الفيلم الذي غيّر تلك القوانين، والتي ارتبطت بعنايات وتصدت لقضيتها هي وأختها عظيمة الزيات، كما ذهبت في أثر المصحة النفسية الألمانية التي عولجت فيها عنايات صغيرة، وإلى السرايا الصفراء، ثم مستشفى بهمن وتاريخها، بل وتاريخ الطب النفسي في مصر كله. كانت إيمان مرسال تلتقط كل خيط تجده عن تاريخ بطلتها فتذهب في رحلة لتقصي حكايته، فميدان أسترا في الدقي، يدفعها إلى البحث عن محل ألبان سمي الميدان باسمه، فيقودها ذلك بالضرورة إلى شركة "مصر للألبان" التي أسسها عبد الناصر، والتي قيل إنها أممت تلك المحال وغيرها لصالحها، ومعلومة تقولها احدى الجارات واسمها نادية لطفي عن انشغال عنايات بكتابة رواية عن عالم ألماني، تقودها إلى المعهد الألماني للآثار بالقاهرة للبحث عن "كايمر"، وهي في ذلك كله تتبع أثر نفسها مثلما تتبع ما تركته صاحبة "الحب والصمت" من آثار.

تقول إيمان مرسال، إن "الامتنان ليس للأعمال العظيمة فقط، لكن للأعمال التي كان دورها عظيمًا في فهمنا لأنفسنا في لحظة محددة، حتى إننا عندما نلتفت إلى حياتنا يمكننا تعريفها بهذه الأعمال"، وهي في ذلك الكتاب لا تعرفُ نفسها فقط من خلال عنايات، وإنما تُعرف عنايات من خلال ذاتها أيضًا، في حوار ليس أحاديًا، وإنما يؤثر طرفاه كل منهما في الآخر. ففي حين ينبهها البحث في أرشيف العنايات إلى ضرورة العناية بأرشيفها الشخصي، مثلاً، فإنها أيضًا تستخدم ما وصفت به نفسها لوصف حال عنايات، حيث تقول في الصفحة 132، إنها عاشت "خريف 2017 مثل خيال مآتة، تهتز يداي وأنا أمسك بكوب القهوة، يتغير مزاجي من تطرف لآخر في سرعة البرق، عادت نوبات الهلع تداهمني بدون إنذار، ولم تفلح المنومات في هزيمة الأرق. بدت النهارات عمليات عبور بالغة الصعوبة لساعات العمل، والليالي حُفرًا أسقط فيها بلا أمل. والأسوأ من كل ذلك، العودة للطبيب النفسي لمدة ساعة كل أربعاء". ثم تستخدم الوصف نفسه والألفاظ ذاتها بضمير الغائب لتصف حال عنايات في صفحة 152 من الكتاب "كانت عنايات طوال الأسابيع السابقة تشعر أنها خيال مآتة تهتز يداها وهي تُمسك بكوب القهوة، يتغير مزاجها من تطرف لآخر في سرعة البرق.. الخ "، بل وربما شعرت إيمان مرسال بالرغبة في تناول الأقراص المهدئة زهرية اللون التي تناولتها عنايات، عندما وجدت علبة منها في مستشفى بهمن في حلوان قبل عام من الآن.

يحرك إيمان مرسال في ذلك الكتاب، غرضٌ نبيل: تتبع أثر كاتب رحل، لكنها لا تكتفي بنبل ما ذهبت إليه، وتخوض رحلة أعمق عن وجودنا الفردي وعلاقته بالوجود الجمعي، عن ذاتها هي شخصيًا وعن ذوات كل من يذوب مثلها في آثر عنايات الزيات، من دون أن يفقد إحساسه الفردي الحر "عندما وعدتها أن أزورها كلما عدتُ إلى مصر لأن المقابر لا تتحرك من أماكنها، كنت أكلمها عن نفسي: ستكونين دومًا جزءًا من رحلتي، خطوة على طرق هذه المدينة التي أحببناها وكرهناها، وللغربة التي عشناها في لحظتين مختلفتين، ولمعنى الكتابة التي أعطتنا وأخذت منا".

إن الأحداث التي رصدتها الشاعرة في كتابها -وما وصلت إليه من حقائق عن بطلتها- لا تكتسب أهميتها من صحة اكتشافها عن قيام وزارة الثقافة بتغيير النهاية في رواية "الحب والصمت" من عدمه، ولا من القيمة التي تمثلها تلك الرواية ولا تتسق مع سقوط صاحبتها من الأرشيف الجمعي للأدب العربي، ولا من اغتصاب حارس الجبانة لقبر عنايات الزيات ومحو أثرها لاستغلال غرفة الدفن لأغراض المعيشة، ولا من سيرة إيمان نفسها التي تقاطعت مع سيرة الزيات. وإنما، مثل أي رواية، تكتسب أهميتها من الحالة السردية ككل.

وإن كان من مأخذ على الكتاب، فهو تركه من دون تصنيف: "بلا ضفاف"، لأن ضم مثل هذه الأشكال من الكتابة إلى الرواية –مثلاً- هي ما قد يدفع بالفن الأدبي للتطور، وما قد يجعله أكثر استيعابًا لرؤى جديدة، وإيقاعات جديدة، ومشيئة جديدة –بلفظ هايدغر- في اصطياد العالم. لكن العزاء الوحيد في ذلك، أن ضم الكتاب إلى أي من التصنيفات الأدبية الرسمية، سيخل في الوقت نفسه برغبة عنايات الزيات الرئيسة في القفز إلى الهامش.

(*) صدر الكتاب في القاهرة عن دار الكتب خان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها