الإثنين 2019/11/18

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

عن وسط ثقافي ساقط سلفاً

الإثنين 2019/11/18
عن وسط ثقافي ساقط سلفاً
في وسط بيروت (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
أكدت الثورة أن الوسط الثقافي اللبناني هو وسط منقطع عما يقع حوله، وهذا، بسبب علاقته بالنظام الساقط. وهذه العلاقة لا ترادف تأييده له مباشرةً، الا في عدد من اللحظات بالطبع، إنما مواربةً عبر استوائه على كونه يشكل مجالاً لاستثماره، وهذا، من قبل طبقته البرجوازية على تدرجها وعلى تنوع مسارات تشكلها.

فهذه الطبقة، وبفشل بعض أبناء عائلاتها في مواصلة دور أهلهم كما هو في وسطي الأعمال أو السياسة، يوجهونهم إلى ذلك الوسط بعد مدهم، وبـ"التخصص"، بالمعرفة الاكاديمية، حاضين إياهم على انتاج مؤسساته، أكانت دور نشر، أو معارض، أو مراكز، أو حتى أناوات، وأسماء، وغيرها. وعلى هذا النحو، يصير استثمار تلك الطبقة في الوسط اياه بمثابة تعويض على الاهل عن فشل أبنائهم، بالإضافة إلى أنه تعويض على الأبناء عن انعدام قدرتهم على أن يحققوا بغية أهلهم الأساس، اي ان يكونوا ورثة لهم على التمام والكامل.

من هنا، انغلق الوسط على ذاته، وما عاد مفتوحاً سوى نحو الطبقة التي تعلي برجوازيته، التي يمثلها النظام، وعلى هذا الأساس، تعلق بها، ليرضخ لها بالدفاع عنها، أو بنقدها، وفي الحالتين، ليختلق موقعه في نظامها. من هنا، بات كل حديث خطابي في ذلك الوسط لا يدور سوى فيه، فيتوجه إما صوب الطبقة العليا، أو صوب داخله، الذي معيره بالارتكاز على شكل عيش محدد، وهو التبرجز، أو افتعاله. لكن هذا الوسط، وبسبب انغلاقه، هو وسط مضطرب، بحيث أنه، وما أن يلحظ برانيين له، حتى يحاول ادماجهم فيه، لكي يخفف فزعه منهم، ولكي يطمئن إلى أنه لا يزال مقصداً لهم. غير أنه ليس كذلك، وفي الواقع، انقطاعه عما يدور حوله، جعل حوله هذا لا يأبه بوجوده، أو بالأحرى لا يدري أصلاً بوجوده. ونتيجة ذلك، لم يعد الانغلاق والاضطراب هما سمتاه فحسب، بل الاهتراء أو التحلل أيضاً، ولهذا، يسعى سكانه، وبينهم معتقلات ومعتقلون، أن يتألفوا كدوائر صغيرة، تحكمها علاقات قوة، ولا ترتقي إلى أن تكون شللاً، وهذا، من أجل مكافحة تلفه، لكن، وبهذه الطريقة، يزداد تلفاً.

في هذا السياق، وحين وقعت الثورة، بدا الوسط أنه في زمن آخر، وعلى عادته حيال الأحداث، وبتثاقل وبلا طاقة، حاول اللحاق بها، من دون أن يقدر. فهذه الثورة، ذات القلب البروليتاري، هي خروج من نظامه الساقط، كما أنها خروج على الطبقة التي ترتفع فوق طبقته، والتي يرضخ لها دفاعاً أو نقداً. ولأن طبقة هذا الوسط على صلة بطبقة النظام، فإطاحة وطأة الثانية على الذين كانوا محكومين بها، تجعلها وطأة على الأولى مباشرةً. بعبارة أخرى، ما عاد يحكم هذا النظام سوى في الطبقة البرجوازية، وهذا، ما يعني أنه، وفي الوسط، يحكم عبر علاقة الاهل بابنائهم، عبر الاهل في أبنائهم.

ففي حال ثمة ارتداد للثورة على ذلك الوسط المهترئ، فهو في هذه العلاقة، بحيث أنها كانت تستقر على نظرة الاهل إلى ابنائهم على انهم فاشلون في وسطي الأعمال والسياسة، وعلى مسعى الأبناء ان يؤكدوا لهم أنهم ليسوا كذلك في وسط الثقافة. لكن، مع سقوط وطأة النظام، انتهت تلك النظرة، نظرة الاهل، من تلقائها، وبالتالي، ما عاد الأهل ينتجون أبناءهم كفاشلين يجب أن يثبتوا العكس، بل أنهم أطلقوا سراحهم، "ها قد نضجتم، فلتأخذوا أمكنتنا".

إطلاق الأهل سراح أبنائهم هو ليس ثورة، لكن الأبناء يعيشونه كذلك، وهذا، للحفاظ على طبقتهم، ولو في الوسط المهترئ: "نحن أيضا نعيش ثورة"، ومن أجل ألا تمر أي ثورة داخله، فتحض الساكنين فيه على الإدراك انه وهم سجني بإمتياز. ولكي يؤكد الأبناء ذلك، يحاولون التشبه بالثائرات والثوار، تماماً، بالاستناد إلى "الشتم مثلهم"، أي مثل الذين لا ينتمون إلى طبقتهم، وهذا طبعاً هو عين التنميط، أو أنهم يستندون إلى أحاديث خطابية، كحديث "المبسوطاااع"، أو أنهم يفرغون المقاربة النسوية الثورية للأبوية وللذكورية، ليقدموا على إعادة تدوير الأبوية والذكورية نفسها في نسخة جديدة، وهذا موضوع آخر، مثلما أنهم يجدون في الثورة مجرد ورشة self development، أو مجرد موضوع للإنشاء المدرسي، أو موضوع للتطهر الذنبي أيضاً. فـ"الثورة"، التي يتحدثون عنها ليست سوى إطلاق أهلهم سراحهم، ما يعني انها ليست سوى احتفاء منهم بهذا التسريح، مع ادعاء تحقيقه بالتمرد، الذي لم يحصل.

لقد أطلق الأهل سراح أبنائهم الذين ارسلوهم إلى الوسط الثقافي على إثر فشلهم، أطلقوا سراحهم من نظرتهم إليهم كفاشلين، وهم فعلوا ذلك لكي يأخذوا أمكنتهم في علاقتهم مع النظام، مع طبقته المرتفعة فوق طبقتهم البرجوازية، أي، وبعبارة واحدة، لكي يرمموه، ويمر عبرهم. فتلك الشكاية من بعض المؤسسات الثقافية، هنا وهناك، حول إقفال الطرق، والدعوة إلى فتحها، أو مضيها إلى الإقلاع عن الإضراب، يندرج في هذا المطاف، مطاف ان الأبناء الفاشلين ما عادوا كذلك، لأنهم، وببساطة، غدوا أهلهم، اي عادوا عن الفشل إلى ما قبله، ولن يبلغوا لاحقاً سواه. وهكذا، ينتقل الوسط الثقافي من الاهتراء إلى الإفراط فيه، إلى العدم. مهما يكن، فالخبر السار أن الثقافة لم تُخلق يوماً فيه. فها هي الثورة لم تسقطه لأنه ساقط منذ زمن بعيد، حتى قبل انفجار نظامه من الداخل، انبجاره، وسقوطه، وبالتالي، لا يستحق اي إسقاط جديد، إنما ترك بقاياه تزول ككل الأوهام في رؤوس المعتقلين داخله. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها