حجم الخط
مشاركة عبر
صدرت عن منشورات رياض الريس في بيروت رواية "تفسير اللاشيء" للروائي السوري فواز حداد، وفي الرواية دافع المفكر الجامعي عن عالمه المنهار، بتوظيف السحر والدين والثقافة والوعي واللاوعي، وهو يحتكم إلى القانون والمحاكم الشرعية ويلتجأ إلى النور، ليسقط في عالم يتحول إلى لاشيء. من داخل هذا الموت والركام، يدلف الى الخراب رجل وامرأة.
من الرواية: التحايل النفسي
من الرواية: التحايل النفسي
كان الطبيب من معارفه، وفي فترة سابقة كان من رواد حلقته الثقافية، قصده مع أنه كان يضيق بغطرسته الفارغة وخيلائه المنفر. لكن ثقة صاروف العالية بمعلومات الطبيب، كانت بمعزل عن طباعه الشخصية، متأتية من حصوله على شهادته من باريس، وليس من دولة ماضيها اشتراكي أو شيوعي، لا تعترف أصلاً بالنفس، بينما باريس تهتم بالجنس والنفس معاً، وإن كان بالجنس أكثر.
كان للطبيب صولات وجولات في مجاهيل النفس الانسانية، حسب ادعائه، انقطع في العام الماضي مضطراً عن جلسات الأصدقاء بسبب الإقبال المنقطع النظير على عيادته، وفي ازدياد، لم يترك له الزبائن المرضى وقت فراغ، يأتونه من فرع فلسطين أو الجوية، أو الفرع ٢٤٨، أو واحد من سلسلة الفروع ذات الأرقام المعروفة والمجهولة، أمراضهم هلوسات تدور حول حلم متكرر، يرى صاحبه نفسه مربوطاً إلى الكرسي الكهربائي، أو معلق من قدميه إلى السقف، أو يقتلعون أظافره ومهدداً باقتلاع رأسه من بين كتفيه. عدا الآمنين في بيوتهم، رجل يشكو من فقدانه عزيزاً يزوره ليلاً، فيظنه عاد من المعتقل، فإذا به عائد من الموت. وآخر مسكين تدهمه نوبات ذعر فيطيش صوابه، أين يختبئ، إن لم يطله القصف، أدركه القنص؟ أو معتقل عمل دورة في السجون، ثم أطلق سراحه، ما زال يعاني من الاحتجاز بين الجدران، لم يخرج منها بعد، كل ما يرجوه أن ينعم برؤية السماء. أما الميليشياويون بمختلف أنواعهم الموالية وغير الموالية، فيعانون من حالة لهاث متقلبة، يطاردون المطلوبين، ويطاردهم الإسلاميون، يخافون من تقطيع أجسادهم وهم على قيد الحياة، وتوزيع لحومهم على الكلاب. أكثرهم تركبهم عقدة الساطور، يستعمله داعش والشبيحة في الذبح... يتخيلون جثثهم معلقة على عواميد الهاتف، ورؤوسهم مقطوعة لا تكف عن التدحرج على الأرض، وبمرمى ابصارهم، جثة على خازوق، ورجل مطوبز هناك من يفض عذريته، أو يُخصى بمنجل... هؤلاء الذكور، فما بالكم بالإناث؟!


عموماً، معالجة هذه الحالات تعتبر عادية؛ بعض المهدئات والمنومات، ما يخبل المريض، فينسى حتى اسمه، فلا يعود يفهم ولا يسمع، بالتالي لا مرعوباً ولا مطلوباً، ولا مطارداً، أو جسده، بلا كلية أو كبد، أو رأسه بلا عين أو أنف.
أما العمليات النوعية غير المسبوقة التي أداها بنجاح، فمعالجة الشبيحة الذين يعانون من فقدان المخ أو المخيخ، فأقنعهم بلا جدواهما، العيش أخف وطأة من دونهما، لو شغلهما، فقد يوقظان الضمير. لماذا الضمير في الحرب؟ إنه الجنون. الأعضاء التي تستعمل في التفكير، لا فائدة منها، أصلاً لا تستعمل. أو معالجة نساء وشبان ورجال وأطفال جرى اغتصابهم في المداهمات، أو في أقبية أجهزة الأمن، أثبت لهم بالبينة والبرهان ورغما عنهم، أنهم لم يغتصبوا، بل ولم يعتقلوا، وما مسألة اغتصابهم إلا مراودة النفس لارتكاب فاحشة غير مسؤولين عنها، ولا يحاسبون عليها.
بلغ الأمر بالطبيب أنه لو جاؤوا له بميت، لأقنعه بأنه حي.
لم يفتحوا أفواههم من الدهشة، أو يتعجبوا ويثنوا عليه، الحالات معروفة، لم تكن بحاجة إلى مبالغات، كان الطبيب من كثرة تبهيرها وتمليحها، أصبح من جرائها الأحوج إلى معالجة نفسية. فغضب، كان يتكلم عن معجزات، لم يقيموا لها أي وزن؛ يا ضيعة العلم بين الجهلة. فانقطع عن الجلسات، ليس قبل مصارحتهم برأيه بكل تعالٍ؛ معارفه تجاوزتهم، ليس بوسعهم اللحاق به، ولا بوسعه التخلف مجاراة لهم.
طبعا، لم يأخذ صاروف ببطولاته، كانت تجليطاً في تجليط. أما العلاج، مهما كانت ضآلته، فلا يعدم نزراً من الحقيقة، تستند إلى نوع من الاحتيال المعترف به، مما يدعى بالإيهام؛ وسيلة شفت الكثيرين من المرضى.
اطمأن إلى أن الطبيب سيتمكن من اقناع زوجته بالتحايل النفسي، بأنها لم ترَ، ولم تتخيل، ولم تقرف، ولم تكره. بالمقابل، لن يمنع عنه كشوفه النفسية عن "ذكاء اللاوعي". بذلك يضيف إلى معلوماته، ما يشكل فتحاً في مهنته، يستفيد الطبيب الصديق منها، فيبذل جهده، بما يؤدي إلى شفاء سهير المؤكد.
عدا ذلك، وهو أمر مهم جداً؛ سيحس الطبيب الصديق بالذنب تجاه الأصدقاء، ويدرك خسارته من تفويت جلساتهم، فلا هو متقدم ولا هم متخلفون.
فواز حداد
حائز إجازة في الحقوق في جامعة دمشق. كتب القصة القصيرة، والمسرح، والرواية، لم يبدأ في النشر إلا في عام 1991. شارك كمحكم في مسابقة حنا مينة للرواية، ومسابقة المزرعة للرواية في السويداء. شارك في الإعداد لموسوعة (رواية اسمها سورية). تنقل بين أعمال عدة قبل أن يتفرغ كلية للعمل الروائي في عام 1998. وصلت رواية “المترجم الخائن” للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) لعام 2009. رُشحت رواية “جنود الله” لجائزة روكرت الألمانية لعام 2013.
النتاج الروائي:
• “موزاييك دمشق 39″، 1991
• “تياترو 1949″، 1994
• “صورة الروائي”، 1998
• “الولد الجاهل”، 2000
• “الضغينة والهوى”، 2001
• “مرسال الغرام”، 2004
• “مشهد عابر”، 2007
• المترجم الخائن”، 2008
• عزف منفرد على البيانو”، 2009
• “جنود الله”، 2010
• “خطوط النار”، 2011
• “السوريون الأعداء”، 2014
• “الشاعر و جامع الهوامش”، 2017
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها