الأربعاء 2019/11/13

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

كتاب الثورة

الأربعاء 2019/11/13
كتاب الثورة
كانوا يقرأون مجلة "بدايات" قبل الغزو وحرق الخيمة
increase حجم الخط decrease
ثمة ما يستدعي التوقف عند الصور التي يلتقطها اصحابها خلال مظاهرات الثورة في لبنان، والتي يظهر فيها الثائرات والثوار، صغارا وكبارا، يقرأون.

ربما، ان الذين يتداولونها يريدون الاشارة إلى أن الثورة "مثقفة"، وهذه صفة من صفات "الحضارة"، التي تتصف بها. أو انهم يريدون الإشارة إلى أن خائضيها، يستوحونها من قراءاتهم، وهذا يتعلق بكليشيه حنيني حولها، زمنه هو الستينات، لا سيما الفرنسية منها. أو أنهم يريدون أيضاً، وكخلاصة، الاشارة إلى أنها لا تبعدهم عن القراءة، بل، وعلى العكس، تقربهم منها. طبعا، لا بد من القول هنا أن الغالب من متداولي هذه الصور، والمغتبطين بها، يعملون في اوساط ومؤسسات ثقافية، بالتالي، يجدون فيها ما يمثلهم خلال الثورة، وما يحيلهم إلى ذواتهم، كما لو أن الكتب في الصور هي صلة وصل بينهم وبين الثورة.

في النتيجة، هناك إدماج بصري للكتاب في الثورة، مرة، كأنه اكسسوار تجميلي، ومرة كتطبيق لتلك التغريدة الشهيرة التي سجلها وزير الداخلية نهاد المشنوق خلال حراك 2015، والتي جاء فيها أن لا حل للبنانيين سوى بالعودة إلى الكتاب. إذ إن بعض الجمعيات وجدت في الثورة وضعاً موائماً لتوزيع بعض الكتب لغاية "التوعية" حول مواضيع معينة. وهكذا، في حين ان الثوار يخوضون حدثهم، يتناولون من هذه الكتب، ويقرأونها، علهم يجدون "الحل" لمشكلاتهم فيها. وعلى النحو، "يعودون"، وبفعل القراءة، من الشوارع إلى الكتب، التي تتطلب ثبات التفكر وإمعان النظر، أي، وبعبارة اخرى، اخذ مسافة من الخوض، مسافة تحميهم من وقعه وشدته.

ملاحظة أخرى في هذا السياق، وهي ان الحث على الكتاب، على القراءة، في الثورة، ينطلق من تصور قديم عن خائضيها، وهو أنهم لا يقرأون البتة، "الشعب ما بيقرا". وهذه العبارة كان يرددها جميع المشتكين من كون هذا "الشعب راضخاً ولن يغير وضعه"، من المثقفين إلى المؤسسات الصحافية. ولهذا، كانوا ينصحونه بالقراءة كسبيل إلى "وعيه"، والمفارقة أنهم، وحتى في إثر ثورت الشعب، لم يقلعوا عن نصيحتهم هذه، بل واصلوها. لذا، وعدا عن كونهم بدوا مُنظِّرين على الثورة بأنها ناقصة، وتفتقر الى "الكتاب"، هم يؤكدون ان توجيههم لنصيحتهم الى الشعب اياه، كان يوفر لهم موقعاً امتيازياً، فوقياً، حياله. فحين يستمرون في توجيهها، لا يريدون من فعلهم هذا سوى أن يحافظوا على موقعهم ذاك، لأنه، وببساطة، لم يعد له محل من الإعراب، فقد كان جزءاً من النظام أيضاً.

لكن، بعيداً من الوضع النظامي للكتاب هذا، ضروري الكلام عن القراءة والثورة، بحيث أن الربط بينهما لمجرد التجميل أو التوعية ليس في محله البتة، بل إنه يجعل القراءة تحل مكان ممارسة أخرى، وهي الهذيان: lire بدلاً من délire. القراءة، هنا، هي عكس الهذيان بمعنى انها تؤجل إفلاته، أو تحدُّه، وهذا، في حين أنه، وفي الثورة، يشكل علامة من علامات حدوثها، أو بالأحرى هي تحدث عبره، مثلما أنه يحدث في إثرها. ما هو هذا الهذيان؟


قد يكون الاتكاء على اغنية من أغنيات بوناصر الطفار، "المطحنة"، مناسباً لإبانته. ففي واحد من مقاطعها يعدد بعض المواقف، التي حين يكون عيشه فيها سائراً وعادياً، يكون، وفي الوقت نفسه، كناية عن مطحنة لكثر غيره، يُقمعون ويُسحقون ويُقتلون وُيقصفون ويهجرون من قبل الانظمة التي تحكمهم إلى درجة اجتثاثهم من الوجود! لا يقول بوناصر هذا من باب التذنب، من باب "انا اتحمل المسؤولية"، لا طبعاً، إنما على أساس أن الأنظمة تريد منه، إما لا يرى المطحونين من قبلهم، وإما ان يتفرج عليهم من منظورها، وفي الحالتين، يعتاد على طحنهم، ويعتاد على البرودة حياله. لكنه، من جهته، لا يعتاد على المطحنة، بل يراها هكذا تقلع وتعدم، وهو يكبت ويدخن ويكتب، لكن هذا كله لا يجعله يتحمل كل عنف أنظمتها. الطحن كبير، له تاريخ، المطحونون كثر، الكتابة والكبت والخدَر، هي سبل لتحمل ما لا يُحتمل، إلا أنها ما عادت تعمل. هيا الى الثورة!

الهذيان، في هذا المطاف، وفي كل مطاف، هو ليس الشعور "التكنوقراطي" بالمطحونين، ليس "فهم وجع الناس"، بل هو تركهم يخرجون من تحت الجلد، يخرجون ليستردوا حيواتهم ممن نفوهم، من الأنظمة، وهو الإدراك بأن كل سبل تحمُّل طحنهم تبدو، وفي لحظات قصوى، بمثابة حبس لهم تحت الجلد، ومنعٍ لطلوعهم. على هذا النحو، الهذيان، وبسحبه على الثورة في لبنان، هو إخراج لكل الذين طحنهم النظام من تحت الجلد، إخراج لكل الذين قتلتهم حروبه، ولكل اللاجئين الذين سجنهم، ومعهم كل الكادحين الذي استغلهم ودمر أجسادهم. واخراجهم هذا يحمل على التحرك، على التكلم، من أجلهم، مكانهم، أي، وبطريقة ما، وهي طريقة جورجيو أغامبن، لقراءة غير المكتوب من قبلهم، لقراءة ما لم يكتبوه، للتفوه به.

فقد كانوا يريدون أن يقولوا، أن يكتبوا، لكنهم تعرضوا للطحن. غير أن الهذيان، بما هو تحرير لهم من نظام طحنهم، من تاريخه الذي محاهم، يتيح لهم أن يقولوه، ويكتبوه، ويتيح قراءته. نتيجة هذا، الهذيان ليس نقيض القراءة، بل إنه تحريرها ومضاعفتها، بحيث أنه قراءة في غير المكتوب، في كتاب لم يُكتب، ومع ذلك، أو بالأحرى لأنه كذلك، هو الكتاب. كتاب المطحونين، هو كتاب ثورتهم. وها هم الثائرات والثوار لا يتوقفون عن كتابته وقراءته، لا  ليكون نصاً، بل حياة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها