الجمعة 2019/11/01

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

حين يبث النظام ذَنبه في الثورة

الجمعة 2019/11/01
حين يبث النظام ذَنبه في الثورة
اقفال طرق في وسط بيروت بالإطارات المشتعلة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
من المعلوم أن السلطة، لكي تمنع أي خروج عليها ومن نطاقها، تستند إلى إخافة محكوميها. لكن، ما أن يخرجوا، ويمارسوا خروجهم، حتى لا تعود الإخافة تجدي نفعاً، ولهذا، تحاول ردهم إليها عبر الاتكاء على إجراء آخر، وهو التذنيب.

ففي لبنان الآن، ومن أجل أن يحاول النظام ارجاع الثوار إليه كي لا يواصلوا تأكيد سقوطه، يعتمد، وعبر بسيكوسلطته، ذلك الإجراء، ليُضاف كقوة ثانية إلى القوة الاولى لثورته المضادة، اي السخافة.

ببساطة، التذنيب مفاده أن الثوار يرتكبون خطأ، وهذا الخطأ دائم التأليف والتركيب، وبالتالي، التغير من يوم إلى ثانٍ. طبعاً، لتحديد الخطأ، تنطلق الدعاية من مدونات مختلفة، تتفاوت من ناحية الوطأة الخطابية. فيستند تذنيب الثوار، على إثر تحطيمهم لواجهات المصارف وماكيناتها، الى المدونة القانونية، التي تجعل أعمالهم هذه كناية عن خطأ. غير أن هذا التذنيب لا يودي الى مقصده، إذ إن تلك المدونة، وبفعل المُرتكب ضدها وبإسمها على حد سواء، ما عادت تتعدى حدود مؤسستها، اي القضاء، حيث قد تشتغل في بعض قاعاته.

على أن تذنيب الثوار قد لا يستند إلى هذه المدونة، بل الى المدونة المظهرية، جاعلاً من تظاهرات الثوار خطأ من ناحيتها الاحتفالية. إذ انها تدل على "ولدنتهم"، وبالتالي، على أنهم ليسوا كفوئين لكي "يستلموا البلد"، فعليهم ان يكونوا "جديين" أكثر. بالتأكيد، تقديم الجانب الاحتفالي للثورة على أساس أنه خطأ، لا يحمل أيضاً على مبتغاه، لأن ذلك الجانب المهم منها لا يختزل الثورة بعينها، بل، وفي جواره، جوانب أخرى، بالإضافة إلى أن الثورة بحد ذاتها جدية، ولهذا بالتحديد، المزاح هو سبيل من سبلها.

في السياق عينه، قد يكون التذنيب الذي إلى المدونة الانضباطية هو الأكثر ذيوعاً، بحيث أنه يحول تصرفات الثوار، كالشتائم أو الشعارات، إلى أخطاء، وبالتالي، يشرع في دفعهم إلى مراجعتها، او الى التراجع عنها معتذرين. من هنا، يعتمد التذنيب، وفي تلك المدونة، نظرتي "الصواب" و"الهوية"، وهما نظرتان تستكملان وقاحة النظام وتجانسيته، وينتجانهما أيضاً. إذ أن "الصواب" تبرره الوقاحة، و"الهوية" تبررها التجانسية. لكن الثورة، كإحداث للخروج، تقع بعد ثنائيات وقاحة/صواب، أو تجانس/هوية، وبالتالي، أفعال خائضيها لا تُقاس بها، بل أن تقييمها يتعلق بخانات أخرى، من قبيل: مفيد، ضروري، مُضرّ، أي أنه يتعلق بإقتصاد نشاطي، وليس بمعيرة آدابية.

في المقلب ذاته، إجراء التذنيب بحد ذاته، وفي انطلاقه من كل مدونة من تلك المدونات، يشكل مسعى النظام لالتقاط الثورة، بحيث أن الذنب إحساس أساسي فيه، ونقله إليها يجعلها امتداداً له. فقد كان للذنب دور في ذلك النظام، لا يتعلق بجعل كل ما يهدده عبارة عن خطأ، ويجب تصحيحه فحسب، بل، وقبل هذا، بكونه إحساساً يقترن بالعيش فيه.

ففي هذا النظام، أي شخص، وما ان يولد فيه، حتى يكون مديناً، مثلما أنه، وإن كان بروليتارياً، وابتغى الحد الأدنى من العيش البديهي، حيث يتوفر له المسكن والمأكل والملبس، فلا يستطيع تحقيقه الا من خلال الإقتراض. وهذا ما يزيد مديونيته، بالإضافة إلى انه يجعل قرضه الخاص على صلة بعينها مع قرضه العام، وهي، باختصار، أنه يسدد الأول على سبيل تسديد الثاني. لكن هذا السبيل، وعلى الدوام، هو سبيل مقطوع. فحتى بعد أن يسدد قرضه الخاص، يبقى مديناً على العموم، وفي بعض الأحيان، وباختصار أيضاً، يستحصل على قرض مرة أخرى لكي يجسد فيه موضوع دَينه، الذي لا يعدّ عاماً، بل، وبسبب هدره الرسمي، يصير مجرداً.

بمعنى آخر، المَدين هنا هو مَدين بطريقة دائمة، قبل أن يقترض، وبعد أن يقترض، بسبب دَينه العام، وبسبب دَينه الخاص. وتسديده للخاص لا يسدد له العام، بل، أنه، احياناً، يستحصل على الخاص لتجسيد العام فيه، لا سيما أنه غدا مجرداً: "لماذا أشعر بكوني مَديناً، لا بد من موضوع لدَيني، وها انا لكي أجده اقترض، وعندها، يكون القرض هو هذا الموضوع، الذي ما أن يتجسد دَيني فيه، حتى اشرع في ايفائه، معتقداً ان ذلك سيخلصني من شعوري ذلك، لكن، وحتى بعد ايفائه، يبقى شعوري نفسه، فأنا مدين أبدي".

هذا المدين، الذي لا يستطيع تسديد دينه، هو المعتقل في النظام اللبناني المنصرم، ولهذا، يتمحور عيشه حول دَينه الدائم، كما أنه ينطوي على خطأ ثابت، مفاده أنه عاجز عن تسديده. من هنا، يصير مذنباً، ولا بد له، لا ان يكفر عن خطئه فحسب، وهو تكفير بعيد المنال، بل، وقبل ذلك، أن يقع على موضوع ذنبه أيضاً: "لماذا أنا مخطئ؟ ما هو خطأي؟". فلازمة صناعة هذا الموضوع، وتقديمه له باستمرار، هي ما يتكفل به المجتمع بوصفه مُنتَجاً من التلفزيون، الذي درجت فيه، وخلال العقد الاخير، برامج الفحص الآدابي. تماماً، كبرنامج "مش انت" على "الجديد". إذ يشير لذلك المخطئ، وهو المتفرج، إلى خطئه، أو يعرض له، ومن حلقة إلى أخرى، الكثير من الأخطاء، التي يتلقيها كمواضيع تعرفه على سبب شعوره بالذنب.

ففي ذلك النظام، يشعر بداية بالذنب، يشعر بأنه مخطئ، قبل أن يرتكب اي خطأ، الذي، وحين يُقدَم له، فهذا، ليستهلكه، وفي نهاية المطاف، لكي يرتكبه: "هذا هو الخطأ أمامي، لذا، علي ان اقدم عليه، لكي يصير خطأي، وهكذا، لا يعود ذنبي من دون خطأ". فالذنب احساس مزعج، صحيح. لكنه، حين يكون بلا خطأ، يكون قاسياً، ومن الضروري تخفيفه.

على هذا الاساس، الثورة، ولأنها خروج من ذلك النظام الساقط، فهي أيضاً قطعٌ مع ذنبه. لكن، حين يعمد النظام إلى توقيفها عبر إجراء التذنيب، تذنيب الثوار، يقدم لهم خوضها كتنقل من خطأ إلى خطأ. وبهذا، لا يُنظر إليهم سوى كأنهم ما زالوا مقيمين فيه، يواصلون الاستفهام عن أخطائهم التي يشعرون في إثرها بالذنب، والتي يريدونها لكي يخففوا شعورهم هذا. بطريقة ما، يحاول النظام ان يقدم لهم الثورة كخطأ، كموضوع لذنبهم، محرضاً إياهم على التراجع عنها من أجل الانتهاء منه، والتكفير عنه.

الا أن هذه المحاولة فاشلة، لأن الثورة، في الواقع، ترغب في إطاحة نسق النظام، أي نسق الإقتراض العام والخاص، بما تسميه "حكم المصرف"، وبهذا، تتخلص من الدَّين، ومن العجز عن سده، الذي يؤلف الخطأ الثابت. تالياً، ولأن الثورة تطيح ذلك النسق، لا يعود خائضوها مَدينين أبديين، وفي النتيجة، مذنبين. فلا يفتشون عن أخطاء تجسد موضوعات ذنبهم، يقدمون عليها بعد تقديمها لهم، وهذا قبل ان يكفروا عنها، بل أنهم يتفلتون من هذا الذنب لأنهم يتحررون من قيد دَينه كما لو أنهم يسددونه دفعة واحدة: "خووود".

وهكذا، لا يكون لإجراء التذنيب أي مفعول في الثوار، ففي حال داهمهم الذنب من وقت إلى ثان، فليس لأن خوضهم خطأ، بل لأن النظام يحاول أن يمد عليه عيشهم القديم، أن يرجعه الى العيش الذي غادروه. فالذنب هنا علامة على تسلل النظام بما هو عيش، إلى الثورة بما هي خوض، وبالطبع، مواجهته تقتضي استكمال الثانية تأكيداً على سقوط الأول: ثورة بلا ذنب كي لا يعود النظام، ومصرفه، إحساسياً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها