تثير رحلة المصعد الكهربائي في كلّ منا، بدرجات متفاوتة، مشاعر التوتر وعدم الارتياح. يتحاشى معظمنا التواصل البصري مع الغرباء الذين يحيطون به في الصندوق المتنقل، حيث تتداخل أنفاسهم بأنفاسه وتلامس أياديهم أطرافه، فيشيح بعينيه عنهم ويزمّ جسده في إحدى الزوايا، علّه ينجو من حشر الأجساد المرصوصة. وأحياناً، وبحسب درجة النفور الاجتماعي، قد يحبس أنفاسه تجنباً لتسممه بثاني أوكسيد الكربون المنبعث من أنوفهم وأفواههم.
لا بأس، ما دام هذا الوضع مؤقتاً، وما دامت الأجساد المتلاصقة ستتخلّص من بعضها البعض حين يُفتح باب المصعد فتنجلي عنه العتمة، قبل أن يتسنى لكابوس الإتصال البشري أن يبدأ. لكن ماذا لو لم يُفتح الباب؟ واستمرّت الأنفاس في تناقل ثاني أوكسيد الكربون في إيقاع قاتل لا مفرّ منه سوى كسر الصمت؟
هذا الكابوس كان من نصيب شخصيتي مسرحية "المعلقتان" لـCollectif de l’ACT (كتابة حسن مخزوم وإخراج لينا عسيران)، والتي يتواصل عرضها في مسرح "مونو" حتى 13 تشرين الأول الجاري. تجري أحداث العرض داخل مصعد تستقله امرأتان سيئتا الحظّ؛ السيّدة "أ" (سارة عبدو) والسيدة "ب" (يارا زخور)، اللتان علقتا داخل المصعد إثر نشوب حريق في المبنى وانقطاع التيار الكهربائي. جلّ ما نعرفه عنهما هو ان السيدة "ب" كانت في طريقها إلى "كاستينغ" في الطابق العاشر من البناء، أما السيّدة "أ" فمضت ساعة على مكوثها في ذلك الصندوق الضيق، لا لسبب سوى أنها نسيت نفسها هناك.
يصدّ المصعد بابه أمام السيدة المستعجلة لبلوغ الموعد الذي سيحقّق أحلامها وطموحاتها في عالم التمثيل، والثانية التي لا مواعيد تنتظرها ولا مكان تقصده ولا طموحات أو أحلام تقلقها. وفي المصعد المعلّق في الهواء، تتشبّث الشخصيتان بطرفي حوار فلسفي، إحداهما وجودية مؤمنة بالحياة، والثانية عدمية تنكر كل شيء إلا العبث. تشدّ السيدتان طرفَي الخيط الوهمي الذي يمثّل أعمق قناعاتهما وقيمهما منعاً للسقوط في هاوية التأزم الوجودي.
تتأجج وتيرة الأسئلة الوجودية تحت أثر الخوف الذي ينسلّ من عتمة الصندوق المتدلّي في اللامكان واللازمان. ورغم شعورهما بالحصار والإختناق داخل قفص يحكم قبضته على جسديهما، بين سجنٍ فكري متجسّد في القلق الوجودي وآخر مادّي متمثّل في جدران المصعد الفولاذية، تدركان أنهما في الحقيقية معلّقتان في الفراغ. أما العتمة فتبدو، رغم حصارها، لامتناهية. عندما تدرك الشخصيتان أن الجاذبية تخلّت عنهما، تفقدان توازنهما الفكري والعاطفي، فتتفجّر مخاوفهما، المشروع منها وغير العقلاني. تتلو السيدة "ب" لائحة طويلة تضمّ مخاوفها المَرَضية: كلوستروفوبيا (الخوف من الأماكن الضيقة)، أكروفوبيا (خوف من المرتفعات) نيكتوفوبيا (خوف من الظلام) إلخ... أما السيدة "أ"، ورغم لامبالاتها المعلنة بالحياة وأحداثها، فإنها غير معفاة من الخوف، وإن كانت مخاوفها على درجة من اللامنطق؛ ومنها رُهاب التين، ورهاب علامات التعجّب. إلا أن رهابها الأكثر واقعية ربّما هو الميسنتروبيا، أي الخوف أو بُغض البشر.
تتعدّد أشكال الخوف وتختلف أدواته في حياتنا المعاصرة، المفتوحة على احتمالات القلق بل وحتميته. حتى إن بعضها يبدو تافهاً ومضحكاً لغير حامله. إلا أن هذه المظاهر جميعاً تخفي خلفها خوفاً واحداً، أصيلاً وبدائياً، هو الخوف من مواجهة الذات، الوجود والموت. تتمثّل هذه الجبهات الثلاث، دفعةً واحدةً، أمام سيّدتي المصعد اللتين وجدتا نفسيهما مضطرتين إلى صدّ هجومٍ متعدّد الجبهات وأحادي المصدر.
تستخدم الممثلتان المساحة المادية بطريقةٍ خلّاقة ومكثفة. فالديكور المسرحي المؤلف من مجسّم متحرّك على هيئة مصعد، يخدم، رغم بساطته، وظائف مهمّة من الناحيتين البصرية والحركية. فبموازاة الزوبعة الفكرية التي تدور الشخصيتان في فكلها، تتلاعب الجاذبية بالمصعد الذي يحويهما، فتهزّه وتقلبه رأساً على عقب، لتتقلبا داخله كالذرات السابحة في الفراغ للأبد وبلا هدف. ومع حركة المصعد وتمايله الدائم، من اليمين إلى اليسار، طلوعاً ونزولاً، تستمّر الشخصيتان في الحركة، لينتهي بهما الأمر أحياناً في مواضعٍ غير مريحة على الإطلاق، ممّا يزيد حدّة القلق المراد إثارته. تبقى الشخصيتان حبيستي الحدود المرسومة للمصعد، ولا تخرجان منها سوى في خيالهما. تأخذ حركات الممثلتين شكلاً راقصاً، ترافقها موسيقى حيّة تمنح بُعداً محسوساً للمشاعر التي تطفو على سطح الكلام والتقلبات البهلوانية.
في خضمّ حديثهما عن شتى أمور الحياة؛ مغزاها وهدفها، ما تحبان وتكرهان، الأعمال الأدبية والشعرية إلخ..، تتساءل الشخصيتان عن معنى الكلام نفسه. تجيب السيدة "أ" بإنكار جدوى الكلام والتأكيد على عبثيته، بصفته وسيلة لقضاء وقتنا على الأرض من دون أن نفقد صوابنا. أما السيدة "ب"، فعلى تمسّكها بصوابها وخوفاً عليه من الجنون، تأبى أن تتصوّر العيش من دون التعبير عن نفسها بالكلمة. يجتمع الضجر الذي يكاد يقتل السيدة "أ" بحسب زعمها، بالخوف الذي يكاد يسحق السيدة "ب" ليضطرا إلى الحديث والبوح ومواجهة أشدّ مخاوفهما. فبالكلمة تروّض النفس البشرية.
لا هروب من الكلام، يقول حسن مخزوم (الكاتب) في نصه المتقن من حيث البناء الدرامي والعمق الفلسفي. تتناوب فيه العامية (للمشاهد الواقعية) والفصحى (من أجل الأثر الدرامي السوريالي). إن الشخصيتين اللتين حاكهما مخزوم، ترتديهما مؤديتا العرض بكل أناقة ومهارة. أما الإخراج فقد نجح بدوره، رغم بعض الهفوات، في تشكيل مادّة حيوية ومثيرة بصرياً على نحوٍ مناقضِ لجمود الموقف واستغراقه في الظلمة. ولعلّ البصمة التي تطبع تميزاً في هذا العمل الفني، هي المؤثرات الصوتية والموسيقى "الأتموسفيريك" (من تصميم وعزف الموسيقي علي صباح) التي كانت بمثابة ترجمة سمعية دقيقة لمشاعر الكلوستروفوبيا والقلق.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها