الأحد 2019/10/27

آخر تحديث: 10:05 (بيروت)

منذ رُسمت الأرزة بقلم رصاص..

الأحد 2019/10/27
increase حجم الخط decrease
احتلّ العلم اللبناني وحده ساحات لبنان خلال التظاهرات التي عمّت البلاد، وغابت الأعلام الحزبية التي كانت في الماضي القريب سيدة الساحات، وقيل إن اللبنانيين توحّدوا تحت راية وطنهم التي احتلت الصدارة، وباتت رمزاً لعزمهم على التصدي والتغيير. بدأ تكوين صورة هذا العلم في مطلع القرن الماضي، واكتمل يوم اتّحد اللبنانيون للخروج من زمن الانتداب إلى عهد الاستقلال. 

في كتابه "لبنان، جبل سوريا، تاريخ ويوميات" الصادر في 1860، يستعيد الديبلوماسي البريطاني دافيد أوركهارت حواراً جرى بينه وبين مارون النقاش في بيروت إثر عرض مسرحية تحكي عن هارون الرشيد. قال رائد المسرح العربي إنه يعتزم رسم صورة تمثل هياكل بعلبك على ستائر المسرح الذي شرع بتشييده، فاعترض الديبلوماسي وذكر ان هذا الشعار يعود على العالم اليوناني والروماني، ولا يمت إلى البيئة المحلية بصلة، فسأله النقاش أن يقترح شيئا آخر، فردّ وأوحى إليه بأن يختار رمزا محلياً بامتياز يتميّز بحسن خاص، فأجابه النقاش بكلمة واحدة: "الأرز".

يشهد هذا الحوار للمكانة السامية التي يحتلّها الأرز في المخيلة الجماعية. ويعود جذر هذه المكانة في الدرجة الأولى إلى الميراث الديني الذي كرّس صورة "أرز الرب"، وربط بينها وبين لبنان منذ القدم. بحسب الرواية التوراتية، كان للملك داوود علاقة طيبة مع ملك صور حيرام، وعندما رغب في بناء قصر له، أرسل له حيرام "أخشاب أرز ونجارين ونحاتين" (سفر صموئيل الثاني:  5، 11-12). وبعد بناء القصر، خزن داوود "خشب أرز لا يُحصى، لأن الصيدونيين والصوريين أحضروا خشب أرز كثير" (سفر أخبار الأيام الأول: 22، 4)، وأوصى ابنه سليمان بأن يبني بيتاً للرب، فأرسل إلى ملك صور قائلا: "ها أنذا قد نويت أن أبني بيتاً لاسم الرب إلهي. فمُر بأن يُقطع لي أرز من لبنان، وخدّامي يكونون من خدّامك، وأجرة خدّامك أؤدّيها إليك بحسب كل ما ترسم، لأنك تعلم أن ليس فينا من يعرف بقطع الشجر مثل الصيدونيين" (1 ملوك 5، 19-20). فأرسل ملك صور إليه صانعاً ماهرا يحمل مثله اسم حيرام، وأشرف هذا الصانع على بناء الهيكل والبيت، وجعل داخل الهيكل من خشب الأرز، و"كان كل شيء أرزاً، فلم يكن يُرى حجر" (1 ملوك 6: 18). وبنى سليمان كذلك بيتا لإدارة شؤون المملكة عُرف باسم "بيت غابة لبنان"، "بناه على أربعة صفوف من أعمدة أرز، وكان على الأعمدة لاطات من الأرز. وسقفه بالأرز من فوق على العوارض الخمس والأربعين التي على الأعمدة" (1 الملوك الأول: 7، 2).

اقترن الملك سليمان في بدء عهده بابنة فرعون، وأحبّ "نساء غريبة كثيرة مع ابنة فرعون، من الموآبيات والعمّونيات والأدوميّات والصيدونيّات والحثيّات، من الأمم التي قال الرب لبني إسرائيل في شأنها: لا تذهبوا إليهم، فإنهم يستميلون قلوبكم إلى أتباع آلهتهم" الملوك الأول (املوك 11، 1-2). هكذا خان الملك العهد الإلهي وذهب وراء آلهة نسائه، وأقام لهنّ الهياكل، وهذا ما أثار لعنة الله على مملكته، وتسبّب بانقسامها ثمّ بهلاكها. في أسفار التوراة، يُذكر الأرز في آيات تتغنّى ببهائه وعطره، كما يُذكر في آيات تعلن خرابه وزواله. نقرأ في سفر المزامير: "البار كالنخل يسمو ومثل أرز لبنان ينمو" (92: 12). "تشبع أشجار الربّ، أرز لبنان الذي غرسه" (104: 16). وفي نشيد الأناشيد: "ساقاه عمودا رخام، موضوعان على قاعدتين من إبريز، وطلعته كلبنان، وهو مختار كالأرز" (5: 15-16). في المقابل، نقرأ في المزامير: "صوت الرب يحطّم الأرز، يحطّم الربّ أرز لبنان" (29: 5). وفي سفر إشعيا: "بكثرة مركباتي صعدت إلى رؤوس الجبال وإلى أقصى قمم لبنان، فقطعت أرفَعَ أرزه وخيار سروه، وبلغت إلى مرتفعه الأقصى وإلى شجر جنّته" (37: 24). وفي سفر حزقيال: "إنّ العُقاب العظيم، ذا الجناحين العظيمين، الطويل القوادم، الممتلئ ريشاً، الموشّى، قد أتى لبنان وأخذ ناصية الأرز". وفي سفر زكريا: "إفتح يا لبنان ابوابك ولتلتهم النار ارزك. ولول أيها السرو فإنّ الارز قد سقط لان العظماء قد دُمّروا" (11: 1-2).

كرّس هذا الإرث الكتابي صورة "أرز الرب" في الذاكرة الجماعية العالمية، وجذب الرحالة المفتونين بالشرق قبل أن يتحوّل إلى رمز لدولة لبنان في تكوينها الأول. سافر شكري الخوري إلى مصر، ثم انتقل إلى البرازيل حيث أصدر في 1906 صحيفة "أبو الهول"، ورفع فيها لواء لبنان، وتحدّث في 1913 عن راية خاصة بجبل لبنان شعارها أرزة تتوسّط مسافة بيضاء. وفي 1918، عند احتضار الدولة العثمانية، أعلن رشيد نخلة، الحكومة الأهلية في قصر بيت الدين التاريخي باسم حركة "الفدائيين في لبنان"، وكانت راية هذه الحركة كذلك نسيجة بيضاء في وسطها أرزة خضراء. نقل رشيد نخلة هذا الحدث في "كتاب المنفى"، وقال أن هذه الراية رُفعت في سراي بعبدا في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1918، وظلّت ترفرف فيه حتى أيار/مايو 1919.

في هذه الحقبة، أرسل الأمير فيصل بن الشريف حسين إلى رئيس بلدية بيروت عمر الداعوق برقية يدعوه فيها إلى إعلان الحكومة العربية في بيروت، فحضر إلى السراي الكبير وأبلغ الوالي العثماني إسماعيل حقي ضرورة إخلاء المدينة، وأُنزل العلم العثماني في 29 أيلول/سبتمبر 1918. وبعد مغادرة العثمانيين بيروت، عيّنت الحكومة العربية في دمشق عمر الداعوق مسؤولاً عن البلاد بإسم السلطة العربية في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر، واحتفل سكان بيروت برفع راية الثورة العربية ذات الألوان الأربعة، الأبيض والأخضر والأحمر والأسود، على السارية المنصوبة فوق مدخل السراي الكبير. وبعد أيام، وصلت الجيوش الحليفة من البر والبحر، وسيطرت على بيروت وسائر الساحل، وأصبح السراي الكبير تحت إمرة الحاكم العسكري الكولونيل الفرنسي دو بياباب الذي سارع بإنزال العلم العربي عن السراي الكبير.

دخل لبنان في حقبة الانتداب الفرنسي، وكتب شكري الخوري مقالة ناشد فيها فرنسا باعتماد راية لبنانية تجمع بين الأرزة الخضراء وألوان العلم الفرنسي الثلاث، الأزرق والأبيض والأحمر. وفي أيار/مايو 1919، كتب صاحب جريدة "الهدى" ورئيس الرابطة اللبنانية في نيويورك نعوم مكرزل مقالة ساند فيها البطريرك حويك في مسعاه إلى تحقيق استقلال لبنان، ورأى ان الراية اللبنانية ستحمل ألوان الراية الفرنسية مع الأرزة في وسط اللون الأبيض. أعتُمد هذا العلم رسميا في سنة 1926، وتبدّل مع استقلال لبنان في 1943.

في كتابه "ولادة الاستقلال" الصادر عام 1953، يروي منير تقي الدين قصة ولادة العلم الجديد في 11 تشرين الثاني 1943، بحضور سبعة نواب، وهم صبري حمادة، سعيد المنلا، هنري فرعون، صائب سلام، رشيد بيضون، محمد الفضل، مارون كنعان. اقترح أحد النواب "تغيير العلم اللبناني وتحريره من الألوان الفرنسية، كما حُرّر الدستور من كل أثر للانتداب، فضجّ الحاضرون بالهتاف والتصفيق. وكانت فكرة تغيير العلم، مختمرة في رؤوس اللبنانيين، فضلا عن ان الحكومة في بيانها أشارت إلى عزمها على تنفيذها". اشترك النواب في تنفيذ الاقتراح، "وقر رأيهم على جعل العلم أرزة خضراء في بياض محفوف بالأحمر القاني، رمزا إلى الدم البريء المسبوك في سبيل الحرية والاستقلال. وما هي إلا هنيهة، حتى وُضعت صيغة الاقتراح بتعديل المادة الخامسة من الدستور. وجيء بقلم رصاص أحمر وأخذ النائب سعيد المنلا مهمة رسم العلم الجديد. ولم يجد النواب قلماً أخضر، فرسموا الأرزة بقلم الرصاص العادي، ثمّ وقّعوا بإمضائهم على الرسم وعلى الاقتراح. ووقف الرئيس ووقفوا، وأقسم الجميع على أن تكون هذه الألوان علماً للبنان المستقل، وأن يطلعوا بها على الأمة حالما تسمح الظروف ليصير تقريرها في أول جلسة يعقدها البرلمان".

كان العلم اللبناني بحسب المادة الخامسة من دستور الانتداب الفرنسي عام 1926 "أزرق فأبيض فأحمر، في ثلاثة أقاسم عموديّة متساوية، مع الأرزة في القسم الأبيض منه". وأصبح بحسب نص المادة الخامسة التي أضيفت إلى دستور الاستقلال في 1943، "أحمر فأبيض فأحمر، أقساماً أفقية، تتوسط الأرزة القسم الأبيض بلون أخضر، أما القسم الأبيض فيساوي حجمه القسمين الأحمرين معاً، وأما الأرزة ففي الوسط يلامس رأسها القسم الأحمر العلو وتلامس قاعدتها القسم الأحمر السفلي، ويكون حجم الأرزة موازيا لثلث حجم القسم الأبيض".

حاصرت السلطة الفرنسية البرلمان وأخلته، والتجأت الحكومة إلى بشامون حيث استقرّت في منزل آل الحلبي الذي عُرف لاحقا بـ"بيت الاستقلال". في صباح 19 تشرين الثاني/نوفمبر، وصل إلى بشامون أربعة شبان، ينتمي منهم اثنان إلى حزم الكتائب، واثنان إلى حزم النجادة، حاملين علم الاستقلال الذي "تحرّر من كل لون غريب". ودخلوا به على الحكومة، "فراح الجميع يتأمّلونه وقد غمرهم جو رائع من الفرح والغبطة والحماسة". حمل الرئيس ابو شهلا العلم وقبّله، ثم ناوله إلى وزير الدفاع الأمير مجيد ارسلان، وقال له: "إني بالنيابة عن رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، وجميع المعتقلين، أولئك الذين نتوجه إليهم في هذه الدقيقة بعاطفتنا وتقديرنا واعجابنا، أضع في عهدتك علم لبنان الجديد، وأطلب منك أن تدافع عنه وتحييه". فركع الأمير، وقبَّل العلم، وقال: "أقسم أن أذود عنه بدمي، وأبذل في سبيله حياتي".
بحسب هذه الرواية الحماسية التي شهدها منير تقي الدين ونقلها، "حلّق العلم اللبناني في صميم الثورة، وخفق للمرة الأولى في سماء لبنان، فوق غرفة صغيرة في قرية اتخذتها الحكومة المجاهدة مقرّا لها، ورفعته على سطحها أيدي شبان لبنان، وخفق للمرة الثانية وللأبد، فوق الدور الرسمية في عاصمة لبنان، في لحظات وقف فيها الزمن، وسطر التاريخ، حين اندفع الشعب الثائر المناضل عن حريته واستقلاله، فمزق علماً، ومحا ألواناً وخطّ ألونا، وكسر نيراً، وفكّ قيوداً وأغلالاً".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها