الأربعاء 2019/10/23

آخر تحديث: 13:57 (بيروت)

فن الثورة في لبنان يُسقط "الفن المعاصر"

الأربعاء 2019/10/23
فن الثورة في لبنان يُسقط "الفن المعاصر"
ثورة 17 تشرين 2019
increase حجم الخط decrease
كتبت إحدى الثائرات على جدار من جدران بيروت "يسقط الفن المعاصر"، وبهذا، كانت تشير إلى أن الثورة، وحين تُسقط النظام، أو تُفلت من حطامه، تخلص أيضاً من ذلك "الفن" كمؤسسة من مؤسساته. إذ إن الطبقة الميسورة، قد جعلتها مجالاً لاستثمارها، ولهذا، حوّلتها، وباختصار شديد، إلى شبه مشروع بعينه، وهو مشروع إنتاج "طبقة وسطى"، ولو ظاهرية فقط، إذ يضمن استقرارها. وبالتالي، يتصل بدولتها، ويبغيها، وبهذا، يكون "فنّه" هو فنّها. فـ"الفن المعاصر" هو فنّ هذه الدولة، التي، وحين لا يشعر بها، فيستفهم "أينها؟"، ولا تجيب، تخطر "غائبة" في حسبانه، وعندها، يذهب بفاعله الرسمي الى التفتيش عنها، وهو قد يجدها في "حزب الله"، في متحف مليتا على سبيل المثال، وهناك، يلتقي بمن جاء من مؤسسات ثقافية أخرى، كالأكاديميا، متقفياً أثرها أيضا.


كل هذا، جعل" الفن المعاصر" يستقر على تجميده، على إغلاقه، بحيث يصير المؤسسة الممانعة والمقفلة، التي تدور على نفسها، والتي تنتج فاعلها بالانطلاق من تنميطه كمنتمٍ إلى ذلك المشروع، إلى طبقته، فيكفي أن يكون على هذا النمط، لكي يكون "فناناً"، بعيداً من أعماله، التي قد لا تكون موجودة. فعمله هو تنمطه، الذي يجعله منخرطاً، ولو بالتأدية، أو لا سيما بالتأدية، في طبقته. على هذا، النحو، يبقى فيها، ويغذي بقاءه بإلتقاط كل ما يقع خارجها، ويختلف عنها، وهو وقوع يخلقه الذي يراه ضرورياً له، لتعبيره، لحياته عموماً، أكانت تجربة، أو حكاية، أو فكرة، أو زياً، أو طريقة عيش. فتصير المؤسسة ملتقطة لأي واقعة، أو لما تتصور أنه واقعة، محولة اياها إلى موضوع لـ"استهلاكها الجمالي"، وبالتالي، لتجويفها، لفكها عن سيرورة إنتاجها، والأهم، لإطاحة وقعها. فكل "الثورية" في هذه المؤسسة هي من قبيل هذا الموضوع، بحيث ليست، في نهاية المطاف، سوى ضرب من المحاكاة، وليست سوى مضادة لأي ثورية.

من هنا، حين تقع ثورة في لبنان، ثورة ذات قلب بروليتاري بالتحديد، لا شك أن تلك المؤسسة لن تجد محلاً لها في خوضها، بمعنى أن "فنها المعاصر" لن يكون فن الثورة، بل إنها ستجد سقوطه على جدرانها. وعندها، قد تعمد، وعلى عادتها المتقادمة، الى التقاط اسقاطها، وجعله شعارها حتى، ولكن، في هذا، تكون عادتها قد بلغت ذروة كاريكاتوريتها.

غير أن الجدير بالذكر هنا أن الثورة، ولأن الإبداع ملازم لها، فقد أنتجت فناً يضاهيها، وهو، فعلياً، مواز ومواجه لـ"الفن المعاصر"، الذي لا يمكن عدّه "معاصراً". فلكي يكون كذلك، لا بدّ أن يكون على علاقة معينة بزمنه وعالمه، علاقة لا تختزل الحاضر بالراهن، أي بخانة الوقت الاستهلاكية هذه. ولأنه يفتقر لهذه العلاقة، فهو يتحوّل الى محض "فن راهن".

لكن فن الثورة هو الذي يصنع تلك العلاقة، وهذا، ببساطة، لأنه يخلق الحاضر عبر اتكاء خائضيه، وهم الثوار، كل الثوار، على وسائلهم المتاحة. وأولها، مثلما صار معروفاً، هو السباب، بحيث، وبمزاولته، يغدو علامة على بدء في الاقتدار الكلامي، بالإضافة إلى الارتكاز على الأغنيات، وبعضها لا يتعلق بالحدث، كالاغنية البدوية، أو معها، اغنية فضل شاكر "فاكر لما تقولي" مع تعديلها الإصبعي بـ"خذ"، والتي كانت "تحدياً" انتشر كـ"ترند" في السوشال ميديا قبل أسابيع، ثم جعلها على اتصال تام بالحدث اياه. وفي الجهة نفسها، صياغة شعارات تكون بمثابة لوازم موسيقية، تتفرع من الكلمة-المفتاح، اي "كلن يعني كلن"، كذا مع جبران باسيل، ومع نبيه بري، ومع حسن نصرالله. عدا عن استخلاص عبارة "هيلا هيلا هو" من "مصطفى يا مصطفى"، وجعلهاً مطلعا لبعض اللوازم، بحيث أن لفظه، وعلى الدوام، يبدو أنه يترافق مع قفز اغتباطي، وتكرار حرف الهاء فيه يحيل الى تلاقي مع هواء بعد منع عنه، اي يحيل الى احتفاء بالتنفس.


بهذه الوسائل، على الاقل، يخوض الثوار حدثهم، ويخلقون حاضرهم، الذي كان قد اعُتقل في الماضي، أو عُلق في المستقبل، كما أنه اختُزل بالراهن، إذ يحررونه من كل هذه النواحي، ومعه، يحررونها أيضاً. الماضي لا يعود منقطعاً، يعيدونه إلى الحاضر، تماماً، كما فعل هؤلاء الممثلون الشجعان في اقتحامهم "تلفزيون لبنان". والمستقبل لا يعود محتكراً من قبل طبقة الاستغلال والاذلال، لا يعود مجرد ورشة من ورشاتها، إنما يصير مرادفا للمجهول. كما أن الراهن لا يعود معداً للاستهلاك ثم التلف، بل يصير لحظة قصوى وطويلة، أي لا يعود مطابقا للزائل. على هذا النحو، وبخلق حاضرهم، يولد ما هو قريب من زمن الثورة، زمن لا يمت إلى الزمن العام بصلة، وخلاله، يقاومون إعادة اعتقالهم من قبل النظام.

فن الثورة هو فن يعين على خوضها، على خوض حدث الخروج من النظام، وعلى مقاومة محاولات اعتقاله، على التعبير من أجل عبور حطامه. والإعانة، في هذا السياق، قد تكون المد بإيقاع، بإيقاع لهذا الخوض، أو الخروج، تماما، مثلما تشير إليه مجموع المقطوعات الموسيقية، التي صنعها "ري كاي" بالانطلاق من هتافات التظاهر وشعاراته، وهذا، عبر توزيعها الإلكتروني، الذي يلائم الرقص في الشوارع.

فقد اثبتت هذه المقطوعات أن الشعارات والهتافات لوازم، مرفدةً اياها بإيقاع، يحض على الرقص، باعتباره شكلاً من أشكال الخوض، أو بالأحرى الاحتفال بمغادرة نظام ماض وبنفض حطامه. في هذه الجهة، يصح القول إن فن الثورة هو فن معاصر بالمعنى الحقيقي، أو بالأحرى الحي، ليس لأنه على ارتباط بالحدث فحسب، بل وايضا لأنه يشارك في تشييد الحضور خلاله، إذ يساهم في تشييد حاضر الثوار بالايقاع، ولكن، ايضا بالمكتوب على الجدران.

فتلك العبارة "يسقط الفن المعاصر" تخبر الثوار، وخلال تظاهرهم، عن مؤسسة من مؤسسات النظام، مؤكدة لهم انهم فنانات وفنانون، وان ما يحدثونه هو الفن. إذ صار في الشارع، متحرراً من الراهنية ومشروعها، وفي هذا، يلتقي بمن كانوا معتقلين فيهما، ففنانات وفنانو الشارع يستقبلون المنفصلين عن المؤسسة وطبقتها، يستقبلون المنعتقين منها، على رجاء ان يساعدوهم  في الاستيلاء عليها، ووضعها في خدمة ثورتهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها