الإثنين 2019/10/21

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

نحن الذين ننظر إلى لبنان من أجل كل شيء

الإثنين 2019/10/21
نحن الذين ننظر إلى لبنان من أجل كل شيء
سراقب
increase حجم الخط decrease
بعيداً من الأمثلة المهينة التي يمكن ذكرها، إلا أن سوريا الرسمية أنتجت ما يمكن وصفه بالمسرحية الساخرة في حق اللبنانيين الثائرين على نظامهم، جيرانهم في المكان الجغرافي، وفي العيش الأليم. ونقول سوريا الرسمية، لأن الصفحات الاجتماعية الأكثر قُرباً من النظام السوري، وملوك دعايته هم الذين يقودون الحملة، أي النظام نفسه. الحدث اللبناني بات حديثاً عاماً لكل السوريين في مجالسهم العامة والخاصة، ومثل كل آلية تفكير تبدأ بحجم كبير وفائض من الأفكار وصولاً للعقل المنظم، فإن السوريين ينقسمون في نهاية المطاف بسخريتهم، إما كإسقاط لهزيمتهم في بلدهم وذلهم وهوانهم تحت عنف النظام، أو سخرية ضمن دعاية النظام الساخرة والتي تحمل حسِاً مهزوماً لديه بأنه لم يحول بيروت إلى محافظة سورية تابعة ورديئة مثل دمشق التي خُنق فيها الكثير من الإبداع والمجتمع الحر وحتى الشارع النظيف.

يتمكن النظام السوري من بيروت دوماً، ليس فقط عبر قوته السياسية هناك، بل من علاقةٍ داخلية بينه وبينها، إسقاط نفسي كاره يعيش داخله لمركزيتها في عقول شعبه الذي يدير حياته، وفشله في تغيير ما تحمله بيروت رغم احتلاله الطويل لها لأي ذكرى اجتماعية مُحبة له، أو لوجوده الذي لم يُثمر إلا بأن يكون احتلالاً فظاً وعنيفاً. والسؤال الأكبر لماذا لم يحطمها؟

كيفما كان نظام لبنان، يبقى مجتمع لبنان الدراما الوحيدة لقصص الحرية التي يُمكن أن تملك سرداً مشوقاً لصراع الحرية والاستبداد، الابداع والتقليدية، من فريد الأطرش وسعاد حسني وفريد شوقي وعبد الحليم، الذين هربوا لبيروت، مع حكم عسكر عبد الناصر. أو من كُتّاب سوريا الذين اصطفوا أمام دور النشر اللبنانية وهربوا من بلدهم، لينجحوا في تشكيل المعرفة في عقول أجيالٍ كاملة مثل جورج طرابيشي وبرهان غليون.  لبنان ومجتمعه الذي قدم في التسعينيات، للسوريين تحديداً عبر قنواته التلفزيونية وصحفه، عالماً أكثر تشويقاً ومعرفة، حينما كان الشعب السوري في حياته اليومية غير قادر على تلفظ بعض الأحرف الإنجليزية. أو سماع نشرة أخبار بطريقة احترافية، أو تقديم برنامج فني، أو قراءة كتابٍ قيمٍ أو حتى جيد الطباعة.

وكيف كانت ستكون طفولتنا دون قناتي (lbc\future) بما قدموه من برامج الرياضة والثقافة وصولاً للطبخ، كيف كان سيتشكل وعينا في العالم من دون لبنان؟ هل عرفنا العالم من دون بيروت وجماعاتها؟ بالطبع لا، وحتى أهم مثقف سوري "عالمي"، مثل أدونيس، لم نكن لنشاهده ولو لمرة واحدة لو احتضان مجتمع لبنان له عبر قنواته وإعلامه وصحفه.

هذا ليس بياناً عما قدمته بيروت للعرب جميعاً، لكنه دليل على دور الجماعات النوعية في لبنان التي نجحت دوماً في خلق مناخ للحرية لم يتمتع به سوري أو مصري أو جزائري في بلده. هنا نميل إلى دراسة البلدان والسلطات فيها من دون الدور المركزي الذي يضعه فرويد مثلاً للقائد السياسي أو السلطة السياسية، بل ندرس ما يُمكن لتيار الجماعات فعله داخل المجتمع من دون روابط السلطة، وما ينجح فيه المجتمع من دون أي دور لرأس النظام وسلطتهِ، أي أننا نرى الجماعة وعلاقاتها اللاواعية قبل السلطة وهذه العلاقة لا تمر عبر السُلطة[1].

فالجماعات في لبنان، اجتماعية كانت أم اقتصادية، امتلكت رابطاً من العلاقات العاطفية والثقافية والانفعالية، ونجحت في أن تكون مركزاً مختلفاً للعرب عموماً والسوريين خصوصاً، على مستوى المعرفة والخلق، وعلى فتح باب العالم الفسيح الذي يقبع أمامنا بعيداً.

من هنا تبقى بيروت نزعاً تاماً للشعوذة والسحر، فحتى حربها الأهلية كانت نزعاً لشعوذة الزور في العيش الآمن والسلم الأهلي، خلافاً لسوريا التي عاشت زوراً تحت شعارات سحرية كاذبة لسلمها الأهلي وتلاحمها الوطني.. إلى أن أشعل النظام حرباً طائفية كان تجلس خلف الباب وشعبه يتلقفها جراء الفتيل الذي أشعله النظام لعقودٍ بين طوائفه وكياناته.

إسقاط النظام الساخر لكرهه اتجاه لبنان، لم يخلق اليوم مع ثورة اللبنانيين، بل في جعل السياسة سخرية عامة، فالشعار الذي أطلقه اللبنانيون إبان وفاة الشهيد الحريري "بدنا الحقيقة" دخل إلى المسرح والتلفزيون من باب السخرية. "الحقيقة"، كمقولة تشكل سخرية للنظام وكُتابه وممثليه. كان عليه جعل المقولة خاضعة للهرج، لكي لا يواجه مجتمع لبنان بجدية تملك نسقاً اتهامياً، وفي لحظات أخرى تبدو الحقيقة هي الاستهزاء عبر الإعلام بساسة لبنان المطالبين بالحقيقة، وجعل خلافاتهم السياسية وفضائحهم تندراً عاماً، متناسين أن أي سوري في البلاد لا يملك حقاً في الحديث عن ثروة رامي مخلوف وفساده، أو فساد البطانة السياسية لعائلة النظام.

هنا يتمكن النظام من لبنان بأنه متنفسٌ لشعبه ليشاهدوا خبث السياسية والسياسيين من دون أن يتأملوا انعكاسياً في ذواتهم وحيواتهم وحقوقهم، والأهم ساستهم. النظام تعب كثيراً ليُنسي شعبه خروجه الذليل من لبنان كمحتل مخرب ومجرم. وقد لا يصدق قارئ المقال كيف لم يكن يجرؤ سوري واحد إبان خروج الجيش السوري من لبنان، على رفع صوت التلفاز أثناء صراخ جماهير لبنان ضد النظام السوري.

وهناك حقيقة المشافهات التي تنتمي لصلب النظام بكونه (مُبئر داخلي) لصوت العنف وعقل العسكر، للضباط السوريون وبطولاتهم كغزاة لبيروت. طبقات واسعة من الجيش شنت عنفها على أهالي لبنان أثناء الحكم السوري للبنان، وأصبحت هذه الثقافة العنفية القولية سورية بامتياز، في صراع شعبنا للخلاص، فتبدأ السخرية إذاً من هدم الآخر كتعويض لانهزام الذات.. ويسأل المواطن العادي نفسه: لماذا لم ينجح البوط العسكري في لجم لبنان عن حريته؟ ولماذا لم يُصبح لبنان مثلنا؟ هذا شعور نفسي يعيشه أحياناً موالو النظام وأعداؤه. إسقاط سوري بامتياز لفشل سوريا في أن تكون في حالٍ أفضل، أو حتى في محاولة الشروع لجعلها أفضل، فكل سوري يعرف في آن واحد، وبوعي سحري، أن عمال الطبقات الدُنيا في لبنان، سوريون، وهذا ما قبل الحرب، وفي الوقت ذاته يُشافه السوريون قدراتهم بأنهم يستطيعون تحطيم لبنان مستشهدين برواية (المبئر الداخلي) البطل الأسد الأب وابنه، أضف إلى ذلك علاقة النظام بمليشيا عسكرية تؤمن مرجعاً شبيهاً للبوط العسكري بيسرٍ واضح.

في نهاية المطاف، كسر المجتمع اللبناني بانتفاضته الحالية، حدود الروابط بين الجماعات المتنوعة والحية، نحو جماعة واحدة تظهر مبدئياً على أنها خطر على السلطة ومهددة لها، وما يسخر منه الجميع في لبنان من مشاركة المرأة، أو عفويتها أمام الكاميرا هو حلمهم المكبوت لدى الذي يجري قمعه بعدما قمعه نظام مستبد. في سوريا كلها لا تملك امرأة واحدة أن تظهر على التلفاز من دون أن تنتمي لتنظيم تقوده أسماء الأسد التي تسيطر على كل جماعة تحمل مشروعاً "خيرياً أو فنياً أو ثقافياً" يخص المرأة، ولا حتى مصر التي يتغنى فيها شُبانها بالتحرش بالنساء تملك نساؤها هذا المتاح السهل للمشاركة في الأعمال الاجتماعية والسياسية. هذه حداثة الجماعات في بيروت وليست حداثة السلطة.

مهما وصل إليه فساد النظام السياسي في لبنان، يبقى لبنان أكثر حيوية من وجود السلطة فيه، لبنان البلد الوحيد عربياً الذي يكون فيه المجتمع أقوى من السلطة وسابقاً عليها في البحث والأهمية. من هنا يصل عن لبنان ما يتلذذ فيه الجميع في السخرية، إما كمرض نفسي لفشل الذات وكبتها الجنسي والسياسي، أو خوفاً من ريح التغيير، التي يقودها مجتمع حي وحر في كياناته المتعددة. يكفي للبنان فخراً، مقطع لسيدة لبنانية دعت لإصلاح بلدها عبر السوشال ميديا وهي تدعي بأنها تعمل في سوق الجسد، وهو مقطع ينتشر بين السوريين بكثافة، لجعل الثورة اللبنانية أضحوكة وضمن دائرة السخرية، من دون رؤية الجانب العظيم لشعورها بأنها مواطنة وصاحبة وطنٍ وحق، هذا الشعور الذي لا يعرفه ولا يبحث عنه أو نسيه الكثير من السوريين تحت ظل حكم الأسد وعنفه. 


[1] عيادة الدكتور تافستوك الشهيرة للعلاج النفسي التحليلي لندن: التي تولي للجماعات داخل المجتمع أهمية تسبق أهمية السلطة وعلاقاتها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها