الأربعاء 2019/01/09

آخر تحديث: 13:37 (بيروت)

مروان عمارة: لا أصنع أفلاماً عاطفية.. ومهمٌّ أن نرتبك

الأربعاء 2019/01/09
increase حجم الخط decrease
بعد استكشافهما لدور الصورة في الصحافة المصرية، قبل ثورة 25 يناير، وبعدها، في فيلمهما الوثائقي متوسط الطول "قصّ" (2013)، عبر كاميرا مثبتة غالباً داخل أروقة أعرق المؤسسات الصحافية الحكومية، يجد الثنائي المصري-الألماني مروان عمارة ويوهانا دومكي منطلقاً قوياً لفيلمهما الوثائقي الطويل الأول "الحلم البعيد"(*) Dream Away في مكان بعيد من العاصمة المصرية، لكن مفاعيل الحياة فيه لا تبتعد عن مواضع تأثيرها المركزي: شرم الشيخ.

يختار الفيلم سبعة شبان مصريين، من العاملين في صناعة السياحة، في واحدة من أهم المدن السياحية المصرية، وهم ممن اعتادوا الحياة الاحتفالية في هذه المدينة ولا يريدون مغادرتها، ومت زال لديهم حلم بإعادتها إلى الحياة، بعد معاناتها اقتصادياً بفعل الثورة وتداعيات إفشالها والتهديدات الإرهابية المستمرة. في شاطىء شبه خالٍ تقريباً، الشوارع مخيفة بعض الشيء، كل شيء مهجور، يبرز قرد كبير قابل للنفخ، يريد الدخول في محادثة مع الأبطال طوال الوقت. من خلال هذا القرد، نعرف الكثير عن هؤلاء الشبان.

ومثلما كان "قصّ" فيلماً عن الثورة يحاول تحليل صورها من دون عرضها فعلياً، يعمل "الحلم البعيد" أيضاً في ذلك الاتجاه على طريقته الخاصة. خلف واجهات الفنادق المبهرجة والأسماء الأجنبية، تفحّصٌ لوعود ثورة مجهضة، وأحلام مبتورة، داخل واقع ملتبس يشبه ديوراما أخلاقية وهوياتية. أبطال الفيلم، من العاملين، يواجهون معضلة وجودية، تجبرهم على العيش في برزخ أخلاقي بين عالمين، كلاهما صعب وغير كامل. خارج الفيلم، كما في داخله، يرى البعض في شرم الشيخ مدينة منفتحة تمنحهم امتيازات وثيقة الصلة بقيم الاستقلالية والحرية وتقرير المصير، التي لم تتحقق بفعل انتفاضة شعبية. بينما يعتبر آخرون المدينة الساحلية المشمسة المحاطة برمال الصحراء ومياه البحر، مطهراً مليئاً بالخطأة. بذلك، يصبح نمط الحياة الذي تتيحه شرم الشيخ، مشياً وئيداً على خيط رفيع بين تقاليد رابضة ومتوارثة تثقل كاهل العاملين بأسئلة معلّقة، واحتمالات العيش وفقاً لأسلوب حياة غربي بوعود الاستهلاك والجنس والإرادة الفردية الحرة.

شرم الشيخ، كما تظهر في الفيلم، مدينة مسرحية، فانتازية، بقدر تصورات مَن في خارجها عنها. تجوال الكاميرا في شوارعها يشبه تيهاً داخل فضاء مسرحي غير مفهوم: واجهات منسوخة لامعة، جنباً إلى جنب دمى ضخمة لديناصورات وقبب وتماثيل لشخصيات أكبر من الحياة، وقرد يعلو سيارة نقل تجوب الأرجاء، معطوفاً على الأضواء وأعمدة الإنارة. كل ذلك يعطي انطباعاً ملحّاً بأن الواقع نفسه ليس سوى ذاكرة متكسّرة أو حلم يقظة مُعاش على مضض. "الحلم البعيد"، بتسجيليته وتجريبيته، يعمل كمرآة مكسورة تسمح بتكاثف طبقات القراءة وإرباكها في الوقت نفسه، حيث لا يمكن تصوير الحقيقة، بل البحث عنها: يعكس الهويات السردية للأبطال، الذين يؤدون أمام الكاميرا/القرد تجلّياً وجودياً واعياً ويهندسون مستقبلاً متخيلاً، عبر إعادة تمثيل تجري وقائعها في قلب منتج سياحي سوريالي يعاني تأثيرات السياسة وتبدلاتها الطارئة والقاسية.

على صعيد التعامل مع أفكار مجردة بتمثيلات واختيارات بصرية رافدة، يذكّر "الحلم البعيد" بالنمساوي أولريش سيدل، في ثلاثيته عن الإيمان والحب والأمل. وفي استكشاف الفيلم لمجاورة واقعين متناقضين، لا يفصل بينهما سوى حدود مفترضة وأنماط يومية، تظهر أصداء بعيدة للأميركي شون بيكر وفيلمه "فلوريدا بروجكت". أما من ناحية بحث الفيلم وحثّه للمتفرج على مساءلة ما صار عادياً، والتحقق من الأشياء وجَلوها من أغلفتها الميديوية، فهو يتماس بشدّة مع أعمال السويدي روبن أوستلاند.

"الحلم البعيد" فيلم دسم وذكي يفتح الشهية لنقاش مطوّل حول اختياراته الفنية وأسلوبه. هنا حوار "المدن" مع مخرجه مروان عمارة...


- كيف بدأت فكرة الفيلم؟

* عملنا على الفيلم لأكثر من 5 سنوات، وهو العمل الإخراجي المشترك الثاني، مع يوهانا دومكي، بعد فيلم "قصّ" CROP (**) 2013، الذي قبل أن ننتهي من مونتاجه فكّرنا في معاودة التعاون معاً والعمل على مشروع مشترك آخر. كانت يوهانا قد حصلت على منحة إقامة فنية في مصر العام 2012، وخلالها تعارفنا. في ذلك الوقت أيضاً، ذهب أحد أقاربي للعمل في مدينة الغردقة (مدينة ساحلية على البحر الأحمر)، لأن فرص العمل تضاءلت كثيراً، خصوصاً في المدن الكبرى، مثل القاهرة والإسكندرية. ليس قريبي هذا فقط مَن ذهب إلى المدن السياحية بحثاً عن العمل، بل معه عدد كبير من معارفي الذين أنهوا دراستهم الجامعية في عام الثورة، والجميع عاد بقصص خيالية عن البنات والأجواء والحياة الليلية. مثلاً، أحد معارفي القدامى، يعمل عجلاتياً في القاهرة، كانت شرم الشيخ بالنسبة إليه مدينة فسق وفجور. أصدقاء مشتركون بيني وبين يوهانا، ذهبوا أيضاً إلى شرم الشيخ للعمل، وبدأنا التفكير في طريقة لمعالجة كل هذه القصص المختلفة والمتباينة للغاية والمغلوطة، المبالغ فيها لدرجة عدم تصديقها.

أيضاً، حين تنظر إلينا، أنا ويوهانا: سينمائيان من جنسيتين مختلفين، تفصل بينهما حوالى عشر سنوات وآلاف الكيلومترات. اختلافات تخلق غالباً حالة من سوء الفهم وفقاً لتصورات معينة عن "الآخر". كشرقيين، نعتبر أوروبا جنة، والقادم منها نعامله كملك. في الجانب الآخر، يأتي الأوروبيون إلينا مُحمّلين بتهويمات عن استكشاف الشرق. دائماً هناك لغط، وشعرنا بضرورة تحليل تلك الرؤية.

كيف كانت التحضيرات وعمليات البحث؟

* في البداية، حين كان الفيلم مجرد فكرة من دون موارد مالية لتنفيذها، انتهزنا فرصة دعوة يوهانا إلى مصر لحضور أحد عروض فيلم "قصّ"، وذهبنا إلى شرم الشيخ، في أوائل العام 2013. خلال هذه الفترة، كنا كلما قابلنا أي شخص، في المطار أو التاكسي أو الفندق، وطلبنا منه أن يحكي لنا عن المدينة وتجاربه فيها، وجدنا استجابة سريعة ومستفيضة، من الجميع. كأنهم ينتظرون مَن سيسألهم، لينفتحوا في حديث ممتد. كانت القصص كثيرة جداً، لكن عندما تحدثنا عن مشروع فيلم ورغبتنا في أن يكونوا جزءاً منه، بدأ التململ والحذر. وذلك ببساطة، لأن معظم مَن يعملون في المدينة، لا يعرف أهلهم شيئاً عما يفعلونه تحديداً في شرم الشيخ. الأمر مشابه للجملة الشهيرة عن عاصمة الترفية الأميركي "ما يحدث في لاس فيغاس يبقى في لاس فيغاس".


أتذكر شاباً قابلناه هناك، اسمه مصطفى ويعمل مُدلكاً، شعره طويل ويملك سمة "الشاب الروِش"، حكى لنا عن اضطراره لحلاقة شعره كلما نزل إلى مدينته الأسكندرية، ويرتدي نظّارة، مخفياً عن أهله علاقاته المتعددة بالبنات وعمله "الحرام" في شرم الشيخ. قصص كثيرة على هذه الشاكلة قابلتنا من شباب من الجنسين. كان الأمر مثيراً للاهتمام، لكن هناك الإشكالية المتعلقة بكيفية حماية الشخصيات وإعطائهم الفرصة للحكي أمام الكاميرا بأريحية وصدق. كانت هذه عقبة أمام تطوير فكرة الفيلم. بعض البنات لا يتكلمن بانفتاح، إلا ليوهانا، والعكس مع الشباب. قصص مُركَّبة وغير مؤكدة، مما دفعنا للتعامل مع شرم الشيخ كمسرح، لا كمدينة عادية، وسكانها/زوارها كممثليين: لا سكان أصليين لها، ولا مقابر خاصة بساكنيها. هناك البدو بالطبع، أما غالبية العاملين في الأنشطة السياحية، فيأتون من "تحت"، على قول شخصيات الفيلم، من مدن الجنوب والدلتا والقاهرة. يخلق هؤلاء شخصيات جديدة لهم داخل المدينة، والسائح أيضاً يأتي إلى المدينة لينسى البرد والعمل ويستمتع كالملك بأقل قدر من الدولارات. الجميع يبحث عن مغامرات، وهناك دائماً تمثيل. من هنا، ومن أجل حمايتهم، وبسبب عدم وجود دليل على صدق ما نسمعه من حكايات؛ فكّرنا في اللجوء إلى فكرة التمثيل، كوسيلة لتناول موضوعنا.

ذهبنا مرة أخرى، بعد الحصول على تمويل(**)، بطاقم كامل. أطلقنا بعض الأشخاص جابوا شوارع المدينة بميكروفانات، وطبعنا منشورات دعائية بحثاً عن "أشخاص يعملون في المجال السياحي، ومهتمين بمجال السينما، لديهم استعداد لمشاركة قصصهم". كان ذلك في أيار/مايو 2015، أي قبل حادث تحطم الطائرة الروسية في سيناء بأربعة شهور. جاءنا 250 شخصاً، بالإضافة إلى آخرين لم نستطع مقابلتهم. عبر عمليات فلترة وتصفية، وصلنا إلى 7 أشخاص. كان التركيز في الاختيار على أشخاص يحكون قصصاً مختلفة ثرية، بانفتاح، مثل التي قابلناها في بحثنا، ولديهم الرغبة في استكمال المشروع.

- لماذا هؤلاء السبعة تحديداً؟

* لم يكن العدد هو المهم، بل القصص في ذاتها. أتذكر عندما كنا نسافر لأماكن مختلفة في رحلة التطوير والبحث عن تمويل الفيلم، استحضرنا كلمة "موزاييك" في حديثنا عن القصص والشخصيات. القصص تصنع هذا الموزاييك لشيء أكبر، له علاقة بهوية الشخصيات واختلافاتهم وتنوعهم.

منذ البداية، أردنا تنوعاً وقصصاً مختلفة، لأن الفيلم عن المدينة وخبراتها نفسها. في بحثنا عن القصص، ركّزنا على اختيار شخصيات من خلفيات مختلفة، شهدت حياتهم ما يبلور فكرة الثقافة الأخرى التي أثّرت فيهم وغيّرتهم. وجودهم في شرم الشيخ جعلهم أشخاصاً مختلفين، أو أعاد طرح أسئلتهم القديمة من منظور جديد. هذا ما كنا نبحث عنه، بطريقة أو بأخرى. أيضاً، راعينا اختيار شخصيات منسجمة مع بعضها البعض.

أليس من المفترض أن السبعة أصدقاء، أم أن الفيلم يخترع ذلك؟

* بعضهم كانت بينهم معرفة سابقة، وهناك صداقات نشأت بسبب الفيلم. صوّرنا الفيلم فعلياً بعد سنة ونصف من "الكاستينغ كول"، بسبب حادث الطائرة الروسية، لكننا أقمنا ورشة للتدريب علي التمثيل والحكي خلال تلك الزيارة وتعارف الجميع. خلال فترة التوقف هذه، نشأت صداقات بيننا، ولم ينقطع التواصل. الآن، لديهم مجموعة في "فايسبوك"، وكل منهم يعرف أخبار الآخر.


- يمزج الفيلم بين الروائي والتسجيلي. هناك حرية أسلوبية في شكل الفيلم.

* كما قلت سابقاً، فكرة التمثيل جاءت مبدئياً لحماية الشخصيات وتحريرها، ومن رؤيتنا للمدينة كحكاية خيالية من حكايات ألف ليلة وليلة. من ناحية أخرى، أردناهم أن "ينبسطوا وهم بيعملوا الفيلم". تعلم الحساسية الكامنة لدينا في حكاية قصص مثل الموجودة في الفيلم، لكنها ليست بهذا القدر من الحساسية لشخص غربي. أردنا أن تكون عملية التصوير مرحة، تخفف من تحفظهم وتعطيهم الأريحية والثقة.

عملنا معهم في ورش للغناء والحكي، بمساعدة سلام يسري، وهو صاحب تجارب سابقة في هذا النوع الإبداعي الذي يحثّ الناس على حكاية همومهم ومشاكلهم بشكل غنائي كورالي يرفع من مأساة القصة ويقلل ثقلها على قلبك. لذلك فكّرنا: لماذا لا نغنّي شكوانا ومآسينا؟ كان المحرك لتلك الحرية الأسلوبية، الوصول إلى كيفية جعل التجربة مسلية ومريحة ومحفزة على التفاعل. أن توصل للشخص فكرة عدم إضطراره لقول أي شيء. أمام الكاميرا، قيلت أشياء كثيرة، حذفنا بعضها، تجنباً لأي موقف سلبي قد يواجهونه في المستقبل بسببها.

كنا نجرب معاً أساليب مختلفة لمساعدتهم على حكي قصصهم بأريحيه أمام الكاميرا: "يلا نغني"، "يلا نتكلم مع المانكي". مواد كثيرة صوّرناها، ولم تُستخدم. صوّرنا الفيلم في خطوط سردية منفصلة، مثل فكرة القرد الذي يقابل كل الشخصيات؛ نجرّبها ونرى هل ستنجح أم لا.

لدي انطباع بأن القرد ينتقص من قيمة الفيلم التسجيلية...

* انطباعك لا يمكنني تغييره. هناك مَن يرى القرد أسوأ ما في الفيلم، وهناك آخرون يرونه اختياراً عبقرياً. ما سأختلف معك فيه هو الإشارة إلى انتقاصه من تسجيلية الفيلم. القرد يقوم بعمل مقابلات مع الشخصيات، فهل هناك ما هو أكثر تسجيلية من ذلك؟ صحيح أنه يعتلي سيارة نقل والشخصيات ترتدي غريبة، لكنه في النهاية يجري بمقابلة، مثلما نفعل نحن الآن. هل الوثائقية في الشكل أم المحتوى؟ هذا سؤال يمكننا التفكير فيه. حين أفكر معك بصوتٍ عالٍ عن أهمية القرد، أجده مفيداً في إنفاذ معلومة حقيقية جداً، رغم وضعها في هذا الشكل السوريالي. في المقابل يلجأ آخرون أحياناً إلى شكل أكثر كلاسيكية، تقريري/وثائقي، اقتناعاً منهم بأنه أكثر حقيقية أو مصداقية، وهو ما لا أتفق معه. لا أؤمن أن هناك شيئاً وثائقياً، طالما هناك كاميرا وأشخاص وافقوا على تصويرهم وموسيقى مصاحبة ومونتاج.

القرد مزيج روائي وتسجيلي، كما أي شيء آخر يمكن أن يكون في السينما أو الحياة. لكن هناك أجزاء وإجابات يقولها الشباب مع القرد، حقيقية جداً، ولم تخرج إلا معه. وهذا ما كنا نحاول الوصول إليه. هذا ما يجعلني أعيد التفكير في كيف يمكن للشكل أن يغفر للمضمون، أو العكس. في أحد الحوارات مع القرد، يشير علاء بحديثه عن التمثيل إلى المستويات المتعددة في حياتنا والأقنعة التي نلبسها في سياقات مختلفة. بصراحة، لست مهتماً بعمل فيلم بشكل حصري عن مدينة شرم الشيخ، فـ"الحلم البعيد" هو فيلم عن شيء أكبر قد تجد صداه في إيطاليا، تايلاند أو كوبا. هو فيلم له علاقة بالتخبط الثقافي وسوء الفهم الذي نحيا فيه حالياً، ليس في مصر فقط، بل على مستوى العالم.

على مستوى شخصي، فيلمك مربك جداً بالنسبة إليّ، كشخص ريفي من بيئة محافظة يفهم قليلاً منطق الشخصيات. لكن بسهولة يمكن تخيّل وجود الشخصيات نفسها في مكان آخر من العالم، ومن جديد ستُطرح الأسئلة ذاتها عن الأفكار المجرّدة التي يسائلها الفيلم.

* هذه ليست المرة الأولى التي أستمع فيها إلى مَن يخبرني إن الفيلم أربكه، وأعتبر ذلك ثناء إيجابياً. من المهم أن نرتبك، لأن هذا يعني أننا نفكّر. لا أصنع أفلاماً عاطفية، ولا أتوقع أن يخرج أحدهم من فيلمي ليبكي. لكن لو أن هناك من يحاول التفكير/الارتباك، أعتقد إن "إحنا بنلعب مع بعض كويس" مثل مباراة بينغ بونغ.

هناك فكرة تصدّرها وسائل الإعلام، وسط ما يحدث في عالمنا العربي ومحيطنا الأوسع، أننا مُسيَّرون، وكأن أحداً ليس في استطاعته التفكير أو مراجعة الصور من حوله. كل الصور الميديوية تحاول التأثير فيك وإيصالك إلى فكرة معينة مسيطرة، بحيث تصبح مساءلة هذه الفكرة عملاً صعباً، وهم أيضاً صاروا أكثر خبرة في منعك من التساؤل، والتساؤل في حدّ ذاته أصبح مشكلة لهم. لو تساءلت، فأنت تكسّر فسادهم، تمثالهم. أتمنى أن يربكك كل فيلم من أفلامي، وأتمنى أن يكون هذا الارتباك صحياً، في زمن رواج التصورات المسبقة غير القابلة للتغيير.

أعمالك دائماً مهتمة بطرح الأسئلة أكثر من رمي الإجابات، ويبدو لي وكأنك مهووس بمطاردة قصص الفشل، سواء كان فشلاً في فهم الواقع كما في "الزيارة"، أو فشلاً فنياً في "واحد زائد واحد"، أو على مستوى شخصي ووطني كما في "الحلم البعيد".

* يبدو هذا حزيناً ومؤسفاً. لكن دعني أختلف معك. أنا أسائل قصص النجاح أو التي تظهر كذلك. لدي هوس وخوف شديد دائماً من الكيفية التي تظهر فيها الأشياء بعكس ما تبطنه. دائماً لدينا هذا المخترع الصغير "اللي هيكسّر الدنيا"، ثم يختفي بعد انتهاء البرنامج التلفزيوني الذي استضافه. هذا العمل الفني/المطرب/الممثل الذي هزّ العالم، رغم عدم اهتمام أحد خارج بعض الدوائر المدفوعة. لكننا، كمصريين، لا نريد الاستماع للنقد، فنتجنبه. هل هناك أقرب من باسم يوسف الذي حاول فقط "المزاح" مع السلطة، فلم يعد مقبولاً وجوده، واختفى تماماً.

لا أطارد قصص الفشل، بل الهدف هو التحقق من الأشياء (reality check). نحيا في واقع حزين وفي زمن صعب جداً، اقتصادياً وسياسياً، في كل مكان في العالم. أحاول نقل صورة واقعية، فلا يمكنني القول إن "قصّ" يقرّ بفشل الثورة، لأني لا أعرف الإجابة. وكذلك لا يمكنني العيش في الوهم. مثلاً، في "واحد زائد واحد"، لا يستقيم الاقتناع بأن كل تعاون بين ثقافات مختلفة وأشخاص قادمين من خلفيات متنوعة، سينتجون بالتأكيد مزيجاً ناجحاً. ليس شرطاً أن تكون كل الأمور منظمة ومثالية كما يظهرونها لنا. ليس شرطاً أن تكون حياة الشباب في شرم الشيخ ناعمة ووادعة. نعم، "عملوا فلوس"، لكنهم ضحّوا وتأثروا كثيراً. يمكنك القول أني أحاول عمل موازنة مع الصورة المصدرة لنا التي تتناسى الواقع.. لا يجوز التغاضي عما يحدث من حولنا، والواقع نفسه علينا فهمه، والفشل جزء منه في أي حال. أهتم بهذه الأفكار أكثر من "تقفيل" المنتج بغلاف جميل غير حقيقي.

في الفيلم، هناك معايشة للشخصيات وحميمية في التعامل، من دون الشعور، في أي لحظة، بإطلاق الأحكام على الشخصيات. إلى أي مدى يهم ذلك النهج في صناعة الوثائقي؟

* كان هذا جزءاً من العملية لأننا قضينا معهم وقتاً طويلاً، على فترات، وعرفنا عنهم الكثير. حصلنا منهم على "ماتيريال" وفيرة، وساعد ذلك في فهم الشخصيات، ومنحهم الفرصة لتمرير المعلومات ضمن أحاديثهم وقصصهم. احتاج هذا وقتاً، لتحليل المعلومات وإيجاد طرق بسيطة لعرضها من دون أن تبدو مقحمة. عملنا معهم كثيراً على هذه النقطة. كان مهماً أيضاً كي لا نشكّل ضغطاً إضافياً عليهم. أن يستمتع أصحاب القصص بالتجربة ويشعروا بالراحة، وكي يرتاحوا، لا يجب أن تحكم عليهم. ساعدنا ذلك، وساعدهم، فما يمكن أن يكون خطأً بالنسبة إليّ، هو ليس كذلك عند يوهانا، مثلاً، والعكس.


 - شهدت السينما التسجيلية المصرية ازدهاراً ملحوظاً بعد ثورة 2011، لكن حدث ما يشبه الجفاف خلال السنوات الخمس الأخيرة. ما الأسباب والعقبات؟ وهل من سبيل لإعادة هذا الزخم؟

* لأكون صريحاً، أعتقد أن هذا الزخم لن يعود. للأسف.
لم تعرف مصر صناعة سينما تسجيلية. هناك مخرجون تسجيليون، لكن ليست هناك صناعة خاصة بهذا النوع. التقليد المتبع هو أن ينجز السينمائي فيلماً قصيراً، ثم فيلماً تسجيليا طويلاً، ثم فيلماً روائياً. بمعنى أن صناعة فيلم تسجيلي طويل، تكون فقط لإثبات قدرة السينمائي على إخراج الأفلام الروائية الطويلة. وقت الثورة، كانت هناك موجة سينمائية كبيرة، وأذكر إنه في دورة العام 2014 من مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية، حيث عُرض "قصّ"مع فيلمَي "الميدان" لجيهان نجيم و"أريج" لفيولا شفيق ضمن برنامج خاص، ضمّت المسابقة الرسمية ثلاثة أفلام مصرية هي "موج" لأحمد نور و"عن يهود مصر" لأمير رمسيس "وكايرو درايف" لشريف القطشة. الدورة الماضية من المهرجان لم تضم أي فيلم مصري ضمن برنامجها الكامل. أسباب هذا التراجع يمكن تلخيصها في الظروف الاقتصادية والسياسية اللاحقة وما تبعها من انصراف الداعمين إلى مواضيع أخرى ملحّة وجاذبة، كأزمة اللاجئين مثلاً، معطوفة على استمرار التضييقات والمعوقات التقليدية أمام صنّاع السينما المصريين بشكل عام.

حتى مع وجود بعض الأسماء النشطة في المشهد التسجيلي، خلال السنوات الأخيرة، تجد غالبيتهم حالياً في طور التحضير لأعمالهم الروائية الأولي. الوضع ليس صحياً. لا أريد أن أصنع أفلاماً تسجيلية لوحدي، أو أن يتبقى معي زميليان أو ثلاثة فقط في المجال. أتمنى أن يزيد عددنا، ولا يقلّ. دائماً أرى أن حيوية أي مشهد سينمائي ترتبط بوجود أفلام مغايرة في صالات السينما، وجوائز، ومتابعات نقدية، ومدارس سينمائية. قلة الإنتاج أمر محزن، لكن للأسف لأ أرى طريقة لتحسينه. الفرص تقلّ، وحين تنظر إلى مدة خمس سنوات كمتوسط لإنجاز فيلم وثائقي مصري، لا تدري مَن سيوافق على تكرار التجربة ثانية.

لكن هناك جمهوراً مختلفاً، وتغيرات في فكرة الفُرجة والذهاب إلى السينما خلال السنوات الأخيرة..

* بالطبع هناك تغيير، ومساحات جديدة، على قلّتها. ما أتمناه وأراه ضرورياً في الوقت نفسه أن تتضاعف هذه المساحات. لكن جميعنا يعرف العوائق والصعوبات المادية واللوجيستية التي تقف حائلاً أمام توسيع هذه المساحات. مع ذلك، لدي قناعة بأن تلك القيود والصعوبات يمكن الاستفادة منها بشكل إيجابي.

أتذكر أول تجربة تصوير سينمائي لي، حين أعطانا المدرس في أكاديمية الفنون صفحة من سيناريو، وكنا ثمانية مخرجين، وطلب منا تصويرها في يوم واحد داخل الموقع نفسه، بالاستعانة بالكاميرا نفسها وممثلَيْن. ساعدتني تلك التجربة، بقيودها وشروطها الصعبة، في إدراك الطرق الأخرى التي يمكن للإبداع الفني أن يجد نفسه فيها. الصعوبات يمكنها إلهامك وخلق طرق جديدة لصناعة الأفلام، للتعبير عن أفكارنا، لإيصالها إلى الناس؛ بدلاً من قصقصتها ومنعها من الظهور نهائياً. وهو ما حدث في السينما الإيرانية، كحركة فنية بشكل عام. لذا أرى أن القيود والفرص المتناقصة تضعني في رحلة دائمة من البحث والتفكير اليومي: كيف أصنع أفلاماً بشكل مختلف، وأجد طرقاً جديدة للإنتاج، وأربك الجمهور؟

فيلمك السابق، "الزيارة"، مُنع من العرض في مصر، والآن لديك فيلم سيعرض تجارياً..

* بعيداً من استغرابي عدم عرض "الزيارة"، كان من المهم بالنسبة إليّ أن يُعرض "الحلم البعيد" في مصر، وأن يراه مَن شاركوا في إنجازه ويفرحوا به. جميعهم حضروا عرضَي الفيلم في مهرجانَي الجونة والقاهرة السينمائي، مع بعض أفراد عائلاتهم. من المهم أن تُعرض أفلامي في مصر، ويراها أناس يرتبكون ممن أناقش قصصهم. أيضاً، هناك مشكلة لبعض الأفلام التسجيلية التي تحقق نجاحاً وصدى طيباً لدى عرضها في الخارج، لكن عروضها المحلية تكون مخيّبة أو لا تُعرض من الأساس. طوال الوقت، كنت أضع يدي على قلبي، خوفاً من عدم عرضه في مصر، أو طلباً لفرحة ناسه به عند عرضه، أو تخوفاً من ألا يتقبل المشاهدون أسلوب الفيلم.

وبالمناسبة، أسلوب الفيلم، وإضافة للأسباب السابق ذكرها، ربما يكون جزءاً من عملية تمرير الفيلم أو وسائل مساعدته. أحياناً، لا تكون التجريبية مجرد اختيار فني، بل حلاً لتمرير أفكارك. أتمنى أن يتفهّم الجمهور ذلك، لأن هناك مَن يعتقد بأننا نفعل ذلك من باب "الروشنة" أو "الفذلكة" الإخراجية، ويتناسون ظروف إنتاجه في ظل الوضع الراهن.

دائماً هناك تساؤلات بخصوص فكرة المشاركة الفنية. دائماً هناك لبس في فهم طبيعة العلاقات بين الطرفين وتساؤلات بخصوص التمويل وكفاءة كل طرف.

* إذا تحدثنا بصفة عامة، فنسبة المصريين الذين عملوا في الفيلم لن تقل عن 60%. هذا له علاقة بشروط إنتاجية من طرف ممولي الفيلم. مثلاً، في ألمانيا يلزمونك بأن تتم عمليات ما بعد الإنتاج داخل ألمانيا. لم نفعل ذلك لأنهم أفضل أو أجمل، بل لأن جزءاً من مبلغ التمويل يجب إنفاقه داخل البلد المموِّل. إذا نظرت إلى أفلام يوسف شاهين وعمر أميرلاي وأسامة محمد، أو كل من عمل مع قنوات وشركات فرنسية وألمانية، ستجدهم مضطرين للتعاون مع عناصر فنية أجنبية.

بالنسبة إلى عملي مع يوهانا، لم تكن لدي سابق خبرة، قبل "قصّ"، حول العمل مع شريك فني. فعلت ذلك لاحقاً في فيلمي "الزيارة" و"واحد زائد واحد"، بالإشتراك مع نادية منير وإسلام كمال، ثم مع يوهانا مرة أخرى في "الحلم البعيد". صار لدي إحساس بأن فكرة مشاركة الفنانين أفكارهم ومناقشتها مع بعضهم البعض، فكرة مثيرة ومهمة. أيضاً هي طريقة أكثر معاصرة ومناسبة للزمن الذي نعيشه، لأن فكرة المخرج الإله، المسيطر على كل شيء، ليست طريقة سوية للتفكير. ربما يأتي يوم وأغيّر اعتقادي وأعمل بمفردي، لكن هذا ما اختبرته في تجربتي خلال أربعة أفلام، وسأسعى إلى تطبيقه في تجاربي المستقبلية.

تعاوني مع يوهانا كان سابقاً لاكتشافنا استطاعتنا الحصول على تمويل لإنجاز مشروعاتنا السينمائية. صنعنا "قصّ" بلا تمويل تقريباً. بعد ذلك انتبهنا لجهات مانحة وداعمة يمكنها مساعدتنا. لكن، بعيداً من مسألة التمويل، وجدنا أن تعاوننا يجعلنا قادرين على مخاطبة جمهور أوسع، من غير قصدية التوجه لذلك الجمهور العالمي، وإنما انطلاقاً من اختلاف خلفياتنا والاحترام المتبادل. أعتقد أن هذا ما يصنع شيئاً عالمياً: الثقة والتشارك.

باختصار، هناك نقاط سلبية وإيجابية في عملية التشارك الفني والإنتاجي، لكن كل تلك الحسابات لم تكن في بالنا، أنا ويوهانا، حين بدأنا التعاون. بالعكس، انطلقنا من فكرة نودّ مناقشتها، وربما يكون وجودنا معاً للعمل على مشروع الفيلم في مدينة مثل شرم الشيخ، هو ما جعل المشروع يتخطّى التفاصيل الصغيرة التي يمكن ألا تكون مهمة، ليصل بذكاء إلى شيء أكبر عن المدينة والبلد وصناعة السياحة والشباب وأحلامهم والمدن السياحية والغرب والعولمة.


* يُعرض في القاهرة (سينما زاوية) بدءاً من 9 يناير/كانون الثاني الحالي.

** أفلام "قصَ CROP" و"الزيارة The Visit" و "واحد زائد واحد One Plus One" متاحة بشكل مؤقت في صفحة مروان عمارة، في موقع "فيميو" من خلال الرابط التالي: https://vimeo.com/marouanomara

*** الفيلم إنتاج مشترك بين كل من فيج ليف ستوديو (مصر) ومونوكل وفروت ماركت (ألمانيا). حصل الفيلم على منحة تطوير من مهرجان برلين الدولي السينمائي، ومؤسسة كاتابولت فيلم – سان فرانسيسكو، ومنحة إنتاج من الصندوق العربي للثقافة و الفنون مؤسسة "آفاق" – بيروت، مؤسسة الدوحة للأفلام، مهرجان إدفا للأفلام الوثائقية – أمستردام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها