الخميس 2019/01/31

آخر تحديث: 13:49 (بيروت)

حَمْل

الخميس 2019/01/31
حَمْل
increase حجم الخط decrease
أصبحت ريم تمرّ بنوبات اكتئاب متكرّرة منذ أن أعلمتها طبيبتها بأنّ لديها مشاكل في الإباضة تجعلها عاجزة عن الإنجاب، وكان مالك يحاول إخراجها من حالتها هذه ما استطاع. وتعتريها هذه النّوبات معظم الأحيان في شقّتهما الصّغيرة بمدينة المروج الثّالث، حيث يقطنان منذ زواجهما قبل سنتين. أصبحت حياتهما اليوميّة منذ تلك اللّحظة عبارة عن هذا: ريم في مكان ما في الشّقّة تقوم بشؤون البيت اليوميّة بوجهٍ شاحب وبهالتين تحت عينيها، وفجأة تنهار باكيةً، فيسارع مالك إلى احتضانها محاولاً تهدئتها. 

وفضلاً عن علاجها لعقمها الظّرفي بالأدوية التي من شأنها أن تعدّل هرموناتها، فإنّها أيضاً كانت تواظب على حصصٍ للعلاج النّفسيّ مع طبيب من أجل تجاوز الأزمة. ورغم ذلك، فإنّها لم تستطع أبداً الخروج منها. وبدا لمالك أنّ الطّبيب لا يساعدها أبداً، لكنه رفض أن يقترح عليها إيقاف الحصص أو تغيير الطّبيب، لأنّه يعرف أنّه ليس من السّهل مطلقاً التخلّص من الاكتئاب. 

وخلافاً للفتيات اللواتي يزداد وزنهنّ حين يتزوّجن، فإنّ وزن ريم نقص كثيراً. وفي معظم الأحيان، لم تكن لديها شهيّة للأكل. كانت تخرج مع صديقاتها المقرّبات وتزور والديها ووالدَي مالك. وكان ذاك الجوّ العائليّ يرفّه عنها قليلاً، لكنها سرعان ما تعود إلى حالة الاكتئاب من جديد. أخبرها طبيبها أنّ جزءاً من حالتها هذه هو إحساسها بالذّنب تجاه زوجها. ونصحها مرّات عديدة بأن تتحدّث معه بهذا الخصوص. لكنّها لم تفعل. وجدت ذلك صعبا. وكي يسهّل الطّبيب عليها الأمر، أخبره هو بنفسه. ومنذ خروجهما في ذالك اليوم من مكتب الطّبيب النّفسيّ، اصطحبها إلى مدينة الحمّامات وتجوّلا قليلاً وجلسا في مطعم على البحر، وأخبرها أنّها حبّ حياته، وأنّ هذه الأشياء تحدث، وأنّهما يحاولان معاً إيجاد حلّ، وإن لم يستطيعا ذلك، فإنّه لن يتركها مطلقاً لهذا السّبب، وسيعيشان من دون أطفال أو سيلجآن إلى التبنّي. وبعد ذلك، خفّت أزمة الاكتئاب لدى ريم، رغم أنّها لم تتركها تماماً، لكنّها أصبحت تنظر إلى الأشياء بواقعيّة وتقبّلت الأمر. 

عندما لم يُجدِ العلاج بالأدوية نفعاً، أخبرت الطّبيبة ريم أن بإمكانهما الالتجاء إلى الإخصاب المخبريّ وأنّ هذا الحلّ ينجح دائماً. وافقت ريم، ووجد مالك الحلّ مناسباً. آنذاك بدأت إجازة مالك للعطلة الصّيفيّة. كان يعمل في إدارة إحدى الجامعات. وبعدما تمّت العمليّة في كلينيك "ابن سينا" بتونس، راحا يتردّدان على المختبر لمدّة ستّة أيّام، حيث وضعت البويضة في وعاء يحتوي سائلاً خاصّاً. وعندما رأت الطّبيبة أنّ ستّة أيّام وقت جيّد، تمّت عمليّة نقل البويضة إلى رحم ريم من جديد، ثمّ أخبرتها الطّبيبة أنّه ليس عليها الآن سوى الانتظار.

وبعد قرابة أسبوعين، كان مالك يجول في الصّالة مدلّكاً ذقنه في حالة انتظار. وبعد دقائق، خرجت ريم من الحمّام واضعة يديها الممسكتين باختبار الحَمْل وراء ظهرها. كانت تربط شعرها الأسود على شكل ذيل حصان وكان وجهها مبتلاّ بالماء. بقيت تتقدّم نحو مالك بخطى بطيئة ولم تكن تلبس سوى "كيلوت" أصفر و"تي شرت" أسود. قال مالك: 
- ها، ماذا؟ 
وسارعت خطواتها الأخيرة نحوه وارتمت على صدره وقالت: 
- أنا حبلى يا حبيبي.

صرخ فرحاً بذلك، وبدا كأنّ فترة صعبة جدّا من حياتهما قد انتهت الآن. أمسكها من ذراعيها وطلب منها أن تجلس على الأريكة. أخذ منها الاختبار ليتأكّد بنفسه أنّه إيجابيّ. أخبرها أنّ عليها منذ اللّحظة أن تهتمّ بنفسها، وأنّهما سيسعيان معاً إلى توفير ظروف جيّدة للإنجاب. أوّل شخص اتّصلت به ريم لإعلامه بالخبر المفرح هو طبيبتها، وشكرتها على ما قامت به من أجلها، ثمّ طبيبها النّفسانيّ الذي قال لها أنّه لا شيء يدعوها للاكتئاب الآن، ومازحها قائلا بأنّه لا يريد رؤيتها في عيادته بعد اليوم. اتّفقت بعد ذلك مع مالك على إخبار عائلتيهما مباشرة ومن دون هاتف. وفي ذلك اليوم اتّصلت بأمّها وأخبرتها أنّهما قادمان للعشاء، بعدما اتّفقت مع مالك أن يزورا والديه في الغد. 

بدأت ريم تعدّ نفسها. وكان مالك يجول في الشّقّة ويقبّلها من حين لآخر ويحضنها، وكانا يتحدّثان عن الغرفة التي سيخصّصانها لطفلهمام، ثمّ عن الملابس والألعاب وكلّ الأشياء الأخرى التي عليهما أن يعدّاها من أجله.

وأثناء العشاء، أخبرت ريم والديها بالخبر السّعيد، وفرحا كثيراً بذلك. بدآ ينصحانها وينصحان مالك بكلّ ما يجب عليهما فعله من أجل حَمْل جيّد. وفي اليوم التالي، استيقظا منذ الصّباح الباكر وانطلقا بالسّيّارة إلى مدينة المهديّة من أجل غداء في بيت والديه. وهناك أخرجت والدة مالك كلّ ملابسه عندما كان رضيعاً، وبكت وهي تخبر ريم أنّها ظلّت تحتفظ بها من أجل لحظة كهذه، وهي استقبال حفيدها الأوّل. 

لاحقاً، بدأ الزّوجان يضعان اختيارات لأسماء محتملة لطفلهما، بحسب الجنس. كانت ريم تعارض مالك في بعض اختياراته، وهو أيضاً، ولكنّهما كانا يجدان مرحاً وسعادة كبيرين في ذلك. اتّفقا أيضاً على إجازة الحَمْل التي ستأخذها ريم من عملها كمعلّمة أطفال في مدرسة خاصّة. أخبرها مالك أنّ مدّخراتهما كافية من أجل إنجاب مريح في ظروف جيّدة، مثلما كانت كافية لعلاجها، وأنّ عليها ألاّ تفكّر مطلقاً في المصاريف. 

وبعد قرابة أسبوعين، اتّفقت مع والدتها ومع مالك أن يذهبا إلى محلّ "كارفور" التّجاريّ بمدينة المرسى في نهاية الأسبوع، لشراء بعض الملابس والحفّاضات والعطورات والألعاب للرّضيع. قضّوا ساعتين هناك من الحادية عشرة إلى الواحدة بعد الظّهر. وبعدما انتهوا، أوصلوا والدة ريم إلى بيتها وعادوا إلى المبنى. أخبر ريم أنّه سيشتري علبة سجائر فأخذت منه مفاتيح الشّقّة ونزلت. خرج إلى كشك قريب لشراء العلبة، وخلال عودته اعترضه في المرأب جارهم فبقي يدردش معه قليلا ثمّ دخل المبنى وبدأ يرتقي الدّرجات. عندما وصل أمام الشّقّة وجد الباب مفتوحاً والمفاتيح ما تزال في القفل. استغرب من ذلك وفهم أنّ ريم قد تكون بحاجة مستعجلة إلى دخول الحمّام. أخرج المفاتيح من القفل ونادى "ريم؟" ثمّ أغلق الباب. لم يأته أيّ ردّ. تقدّم بضع خطوات ونادى مرّة أخرى "ريم؟" لكن كذلك لم تأته إجابة. كانت الحاجيات التي اشترياها موضوعة على أريكة في الصّالة ومعها حقيبة يد ريم. لاحظ من بعيد باب غرفة الحمّام مغلقاً وهو ما أكّد اعتقاده. همّ بالتوجّه نحوه لطرقه. وهو يعبر الرّدهة بدا له أنّه رأى شيئا من خلال باب المطبخ المفتوح. توقّف والتفت إلى اليمين ونظر نحو المطبخ وصُعق. كان هناك شابّان، واحد يمسك ريم من الخلف واضعاً يده على فمها وممسكا بسكّين كبيرة، والآخر واقف أمامه ممسكاً بسكّين مثل الأخرى أيضاً. أمره الشّابّ الواقف وحده أن يتقدّم. كانت ريم تبكي. تقدّم مالك وهو ينظر إليهما باحتراز شديد، وقد بدأت ذراعاه ترتعشان من الخوف، وعلى جبهته تلمع قطرات من العرق البارد.

نظرت ريم إلى مالك وهو يهزّ رأسه في حركة تهدئة. أمره الشّابّ أن يسحب كرسيّاً ويجلس. كان الشّابّان في العشرينات ولم تكن ملامحهم تعبّر عن أيّ شيء جيّد. كانت هناك ندوب على وجهيهما وذراعيهما. سحب مالك كرسيّا وجلس بكلّ الهدوء الممكن. كانت هناك على الطّاولة إلى جانب علبة حليب وخبز ونصف "كايك" من بقايا فطورهما صباحا، كيسٌ بلاستيكيّ شفّاف يستعمل لوضع خبز "الباغيت" وبداخله كلّ مصوغ ريم الذي كانت تحتفظ به في وعاء فخّاري على منضدة الماكياج بغرفة النّوم، وكذلك بعض ساعات اليد. أشار الشّابّ الثّاني على رفيقه الذي يمسك بريم إشارة برأسه، فوضع يده على عنقها في حركة مفاجئة جعلتها تصدر صرخة وتزداد رعباً وجعلت مالك يقول: 
- أرجوكما اتركانا، خذا ما تشاءان واتركانا.

أمرها الشّابّ الذي يمسكها أن تسكت قائلا "ششششششت" ثمّ بدأ يمرّر يده على عنقها بحثا عن قلادة ولكن لم يجد شيئاً، فأشار برأسه على رفيقه إشارة نافية. أمر الآخر مالك بخلع ساعته ووضعها في الكيس ففعل. قال: 
- أرجوكما الآن اتركانا وشأننا. 
- أغلق فمك وأنت تتباكى كصبيّة. هات كلّ ما عندك.     
أخرج مالك من جيب سرواله الأوراق والقطع النّقديّة التي تبقّت له ووضعها داخل الكيس. نظر الشّابّ إلى ريم وقال: 
- وأنت؟ 
كانت تبكي ولم تجبه فصرخ: 
- تكلّمي. 
قال مالك: 
- ليس لديها أيّ شيء، اتركوها أرجوكما!  
- قلت أغلق فمك. 
ثمّ أشار على رفيقه الذي يمسكها أن يفتّشها، وكانت تتحرّك محاولة التّملّص وتبكي بغصّة ومالك يقول: 
- ليس لديها شيء أرجوكما!  
صرخ الشّابّ مرّة أخرى: 
- قلت لك أغلق فمك!  
ولم يجد الشّابّ شيئاً لديها فعلاً. نظر الآخر إلى مالك وقال: 
- الآن أخبرني ماذا تخبّئان أيضا هنا وإلاّ فتحت بطنك وبطنها.  
- إذا أردتما تفتيش الشّقّة تفضّلا. 

زمّ الشّابّ شفتيه. خرج إلى الشّرفة ونزع حبل الغسيل. عاد إلى المطبخ وقصّه بالسّكّين إلى حبلين. قاما معاً بتكبيل ريم ومالك من يديهما إلى الكرسيّين. جلس الشّابّان متقابلين وأكل الذي كان يمسك بريم ما تبقّى من "الكايك" أمّا الآخر فتأفّفَ وقال ناظراً إلى مالك: 
- لا أعرف ماذا سنفعل معكما الآن. 
- فقط اتركانا وشأننا. 

تبادل ضحكة مع رفيقه ساخرا من عبارة مالك. كانت ريم تبكي فقام الشّابّ الذي يتحدّث بلمس شعرها وهو يقول "ششششششت"، فأغمضت عينيها. سكب الآخر بعض الحليب في كأس وبدأ يشربه مع "الكايك" ويتجشّأ بصوت عال. نهض الشّابّ الذي يتكلّم وفتح باب الثلاّجة وألقى نظرة ثمّ التفت إلى مالك وقال: 
- هل من بيرة؟ 
نفى مالك ذلك بإشارة من رأسه. سحب الشّابّ من هناك طنجرة مغطّاة بمنديل وأغلق الثلاّجة ثمّ وضعها على الطّاولة. نزع المنديل وكانت "سباقيتي" بالدّجاج من عشاء الأمس. قال: 
- تبدو لذيذة. 
ضحك رفيقه بينما جلس هو وأشعل سيجارة ونظر إلى ريم وأمرها بأن تُسخّنها. كانت ريم ما تزال تبكي. تبادلت نظرة مع مالك وأشار عليها برأسه أن تفعل ذلك. نظرت نحو الشّابّ وحركت الحبال التي تربطها قليلاً فنهض ليفكّها. كانا يتصرّفان على راحتهما دون أيّ إحساس بالخوف، وهو ما لاحظه مالك وفهم أنّهما على الأرجح معتادان متعوّدان على هذا. أشعلت ريم موقد الطّبخ ووضعت الطّنجرة وبدأت تحرّك "السّباغيتي" بملعقة خشب. كانت حركاتها حذرة جدّا وكانت يداها ترتعشان. كان الشّابّ الآخر يصدر صوتاً وهو يأخذ جغمات من الحليب بينما بدأ رفيقه يتأمّل السّقف وهو يدخّن. كانت على وجهه ملامح الإعجاب بالمكان وقال "ما كلّ هذا العزّ؟" ثمّ نظر إلى مالك وقال: 
- كيف تتحصّلون على كلّ هذا أنت وأشباهك من أولاد ناناتي*؟      
- لست ولد ناناتي. مثلي مثلك.
ضحك الشّابّ وقال: 
- حقّا؟ وهل تراني مـخنّثا؟ 
ضحك رفيقه أيضا بينما تابع هو: 
- كيف كسبت كلّ هذا؟ 
لم تكن الشّقّة التي يسكن فيها مالك وريم على تلك الدّرجة من التّرف. كانت شقّة عاديّة. ولكنّها بدت شيئا آخر بالنّسبةِ إلى الشّاب. قال مالك: 
- بالعمل. 
مجّ الشّابّ من سيجارته ولم يجب. بدأ صوت "السباغيتي" وهي تسخن ينبعث من الطنجرة. أرادت ريم إطالة الأمر، لا لشيء، فقط لأنّها خائفة ممّا سيقدمان عليه في اللّحظات القادمة. تابع الشّابّ حواره مع مالك: 
- أنت تعتقد أنّك أفضل من الآخرين أليس كذلك؟ 
- ماذا تقصد؟ 
تقدّم بوجهه نحو مالك وقال مثبّتاً نظره نحوه، مطلقاً نفَساً كريهاً جدّاً: 
- أنت تحتقر من هم مثلنا أليس كذلك؟   
ابتسم مالك وقال بقطع: 
- لا.
بدأ الشّابّ يحرّك سبّابته مشيراً بها نحوه وقال: 
- أنت تكذب، يبدو هذا من ملامحك. 
لم يجب مالك. تراجع الشّابّ وبقي يتأمّل مؤخّرة ريم وقال: 
- يا له من فرجْ، كلّها سكس.
كان مالك مطرقاً وشعر بشرايين رأسه تتصلّب. قال الشّابّ لريم بصوت عال: 
- هذا يكفي.

أطفأت نار الموقد. وضعت الطّنجرة على مسند خشبي على الطّاولة. ولكنّ الشّاب أمرها بوضع "السباقيتي" في صحنين وإحضار شوكتين له ولرفيقه. قامت بذلك. كبّلها الشّابّ الآخر من جديد على الكرسيّ وبدآ يأكلان. كان مالك يراقبهما ويفكّر في ما سيفعل. لم يكن باستطاعته الوصول إلى هاتفه المحمول في جيب سرواله وهو مكبّل هكذا. لم تتوقّف ريم عن البكاء. بعدما أنهى الشّابّ الذي كان يتكلّم طعامه، مسح فمه بمنديل ورماه على الطّاولة ثمّ نهض وأخرج من الثلاّجة قارورة ماء. شرب وتجشّأ بصوت عال ووضعها على الطّاولة. أمر رفيقه: 
- اذهب وأكمل تفتيش الشّقّة. 
- دعني أنهي أكلي أوّلاً. 
- قلت لك انهض الآن.
 
ونهض استجابة لأمر رفيقه. لاحظ في الأوّل أكياس الحاجيات على الأريكة ومعها حقيبة ريم. فتّش الحقيبة أوّلاً ولم يجد بداخلها شيئا سوى هاتف "آيفون" أخذه ووضعه في جيبه خلسة، وكانت هناك زجاجة عطر نصف فارغة و"روج" للشّفاه. رمى الحقيبة جانباً. فتّش الأكياس ووجد حفّاضات وملابس وعطورات وألعاب للرضّع. حمل بعضها وسار من جديد إلى المطبخ وقال مشيراً بها على رفيقه: 
- أنظر ماذا وجدت. 
ضحك الشّابّ وقال ناظرا إلى ريم: 
- أوووه أنت حبلى؟ 
ثمّ أمر رفيقه أن يذهب ويتابع التّفتيش ثمّ قال لهما: 
- وماذا ستسمّيانه؟ 
أجاب مالك: 
- ليس بعد. 
ضحك الشّاب وقال: 
- بل قل إنّها هي التي ستختار ها؟ أيّها المخنّث زوجتك تتحكّم بك هاهاا. 
زمّ مالك شفتيه دون أن يجيب. قال الشّابّ: 
- "أنا لا أحبّ الرّضّع في كلّ الأحوال. بكاء الرّضّع يزعجني. أحبّ النّيك فقط. ولا أريد الزّواج لأنّي شبعان نيك. 
ثمّ ضحك بصوت عال. لم يجد رفيقه أيّ شيء في الغرف الأخرى. عاد وأخبره أنّه لم يعثر على شيء. شبّك الشّاب أصابع يديه وقال لمالك:   
- حسناً أريد أن أتّفق معك على أمر. 
نظر مالك نحوه. تابع: 
- بما أنّه لا يوجد شيء آخر في الشّقّة نستطيع حمله غير هذا الذي في الكيس، أريد أن أسألك إن كانت لديك سيّارة، لأنّنا نريد أن نأخذ التّلفاز وآلة الغسيل والمكيّف، أمّا الثّلاّجة فهي على الأرجح لن تتسع. ستخرج معنا بهدوء وسنضعها في سيّارتك وسنقول لك أين توصلنا ثمّ نتركك تذهب.
- ليست لديّ سيّارة. 
نهض الشّابّ وقام بتفتيشه. وجد مفتاح السّيّارة في جيب سرواله الأيسر. رفعه وقال: 
- وما هذا إذن؟ 
وجد هاتفه السمارتفون في الجيب الآخر فأخذه. نظر إلى ريم وقال: 
- وأين هاتفك أنت، ها؟ 
ارتبك رفيقه. لم تجب ريم. أمر الشّابّ رفيقه أن يفتّشها. نهض وتظاهر بتفتيشها وهي تتملّص. أخبره أنّه لم يجد شيئا. سألها الشّابّ من جديد: 
- أين هاتفك؟ 
وعندما لم تجب صرخ عليها من جديد آمراً إيّاها أن تقول له عن مكان هاتفها فقالت: 
- في الحقيبة في الصّالة. 
نظر إلى رفيقه وقال: 
- ألم تفتّش الحقيبة؟ 
أطرق رفيقه ولم يجب. قال: 
- أجبني عندما أكلّمك. 
- بلا فتّشتها.  
- إذن أين الهاتف؟ 
 مدّ يده إلى جيبه بحركة بطيئة مطرقا وسحب الآيفون ووضعه فوق الطّاولة. أخذ الآخر صحن "السّباغيتي" وقذفه على وجهه وهو يشتمه. سقط الصّحن على الأرضيّة وتهشّم. كان الآخر ما يزال مطرقاً وقد لوّثت الصّلصة ملابسه. وضع الشّابّ الآخر يديه على الطّاولة وتأفّف وبقي يفكّر. جلس من جديد على الكرسيّ وأشعل سيجارة ثمّ نظر إلى مالك وقال: 
- حسنا سنفعل هذا. 
 كان مالك مطرقاً. وعندما همّ الشّابّ بفكّ يديه من الحبال قال: 
- لن نفعل شيئا. 
- ماذا؟ 
- مثلما سمعت، خذ صاحبك الحقير واخرجا من بيتي حالاً. 
- وإلاّ ماذا؟
- فقط انصرفا الآن قبل أن تندما. 
- أووو وماذا ستفعل؟ 
- سترى... 
لم يكن مالك يفكّر في حلّ آخر غير تغيير نبرة كلامه معهما. وفي الواقع، كان خائفا جدّا ولا يعرف ما ستكون عواقب كلامه. وكلّ ما أراده هو بثّ بعض الارتباك فيهما. وهما قد استغربا من كلامه المهدّد وشعرا ببعض الارتباك فعلاً، إذ لم يتوقّعا هذا مطلقاً، ووجدا أنّ مالك قد يكون مصدر تهديد فعليّ لهما. تبادل الشّابّ نظرة مع رفيقه. سحب من جيبه قرص "إكستازي" وابتلعه ووضع إثره علكة في فمه. جال قليلاً في المطبخ وهو يمسك بالسكّين ويمرّر يده في شعره. نظر إلى مالك وقال وهو يلوك العلكة: 
- تريد أن تصعّب الأمر، أوكي. 
ثمّ استدار وراء كرسيِّ ريم ووضع السّكين على عنقها. صرخت ووضع يده على فمها لإسكاتها. قال: 
- ستنفّذ ما آمرك به وإلاّ سأجزّ عنقها. 
نظر مالك نحوه وقال: 
- إيّاك وأن تعتقد لوهلة أنّك تخيفني. أنت مجرّد ولد ضعيف يحمل سكّيناً في شقّة شخصين مسالمين لم يستعدّا للدّفاع عن نفسيهما. وبعد أن تخرج أنت وكلبك الذي يتبعك هذا، همِّي الوحيد سيكون إزالة رائحتكما الكريهة من شقّتي. وخذا كلّ ما في الكيس. اقتسما ما فيه بمساواة إن كنتما فعلاً تستطيعان ذلك، فمن الواضح أنّه ليس لديكما أيّ ثقة في بعضكما البعض، ومن السّهل أن يسرق أحدكما الآخر خلسة، هاهااا سارق يسرق سارقاً. لم أر في حياتي شيئاً مثيراً للشّفقة أكثر من هذا. كلّ ما في هذا الكيس أستطيع أن أشتريه من جديد، أستطيع أن أشتري أفضل منه، والآلات التي تريد سرقتها أيضاً، وكلّ هذا المكان الذي لن تحظى به في حياتك، أستطيع أن أحظى بأفضل منه. أمّا أنت وهو، فستظلاّن سارقين إلى الأبد. ولأقل لك بصراحة إذا كنت تصرّ أن تعرف، نعم، أنا أحتقركما. أنتما مجرّد فاشلين لن يحظيا مطلقا بحياة تستحقّ الاحترام. والآن افعلا أيّ شيء تريدان، أعتقد أنّي عشتُ أنا وزوجتي الحياة التي نريدها، وإذا متنا، فسيتذكّرنا الأشخاص الذين يحبّوننا، أمّا أنتما، فلا أعتقد أنّ أحدا سيتذكّركما أبدا، ولست متأكّدا إن كان يوجد شخص واحد يمكن أن نقول أنّه يحبّكما... 
      
كان الشّاب يمسك السكّين على عنق ريم بيد مرتعشة، وبدأ بالتعرّق. تبادل نظرة مع رفيقه. كان لا يعرف ماذا سيفعل فعلا. بدأ الآخر يدلّك جبهته وقال إلى رفيقه: 
- لنذهب، هذا يكفي. 
صرخ الشّابّ: 
- أغلق فمك.     
اقترب منه الآخر وقرّب وجهَهُ من وجهِهِ وقال موشوشاً: 
- هذا يكفي، يجب أن نخرج. أرجوك، نأخذ كيسنا ونذهب. 
- اسكت، قل لك أغلق فمك.

- أرجوك لا أريد أن أعود إلى السّجن. لا تعرف ماذا حدث لي هناك. وجدّتي ستموت لو عدت إلى السّجن مرّة أخرى. 
- أيّها المأبون، إذا كنت لست متأكّدا من نفسك، لماذا أتيت معي من الأوّل؟ 
- اتّفقنا أن نأخذ ما نستطيع ونغادر بسرعة. لم أكن أتوقّع هذا.    
- لقد رأيانا. يجب أن ندغرهما.  
- لا لن نفعل، سنختفي لمدّة. 
ثمّ همس له في أذنه: 
- في بيت جدّتي. 
- لا، سأدغرهما. 
هنا شدّه رفيقه من خناقه ودفعه بقوّة للخلف حتّى اصطدم بخزانة الأواني وراءه. كزّ بأسنانه وقال: 
- قلت لك لن أعود إلى السّجن، فهمت؟ 
حاول إبعاده للوراء، لكنّ الآخر شدّ خناقه أكثر وقال:   
- لن أتركك قبل أن تعدني أن نخرج في الحال. 
- ابتعد. 
- تكلّم. 
- قلت لك ابتعد. 
- قلت لك تكلّم. 

أخذت الشّاب فورة غضب وطعن رفيقه عدّة طعنات وهو يصرخ "قلت لك ابتعد، ابتعد، ابتعد... واغلق فمك." كان الدّم يتطاير منه. اتّسخ به وجه ريم فبدأت تصرخ. طلب منها مالك أن تنظر نحوه ولا تنظر إلى المشهد. سقط الآخر على الأرضيّة فوق قعرة كبيرة من دمه. كان الشّابّ ينظر إلى رفيقه وهو يشخر آخر أنفاسه بعينين متّسعتين. كانت يداه وملابسه متّسخة. ارتبك. مرّر يده في شعره. كان متعرّقا. رمى السّكّين. فتح صنبور المياه وغسل يديه. خلع "التي شرت" النّصفي المتّسخ بالدّم ورماه على الأرضيّة. وبسرعة أخذ الكيس من فوق الطّاولة وسار إلى غرفة الحمّام ليخرج من النّافذة التي دخلا منها بعدما فكّا براغيها. حاول مالك فكّ نفسه ولم يستطع. لم يجد حلاّ غير الإلقاء بنفسه للوراء. انكسر الكرسيّ البلاستيكيّ وجرحت ذراعه. فكّ نفسه من الحبال وسارع بفكّ ريم من قيدها واقتادها إلى الصّالة بعيدا عن مشهد الجريمة. جلست على الأريكة. احتضنها قائلا: 
- شششششششت يا عزيزتي، كلّ شيء انتهى، شششششششت. 
وهناك، من تحت سروال ريم، كان يسيل خيط من الدّم خرج من فرجها وامتدّ إلى ظاهر قدمها اليمنى. 

(*) أولاد ناناتي: عبارة في اللّغة التونسيّة الدّارجة تشير إلى الأبناء المدلّلين من عائلات الطبقة المرفّهة أو المتوسّطة.  (الكاتب)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها