الإثنين 2019/01/28

آخر تحديث: 13:04 (بيروت)

"لازارو السعيد".. أين ذهبت طيبة العالم؟

الإثنين 2019/01/28
increase حجم الخط decrease
في فيلمها الروائي الثالث،"لازارو السعيد"*، تؤكد الإيطالية آليتشي رورواتشر (1981) على أمرين: موهبتها الكاسحة كأهم صوت سينمائي إيطالي ظهر في العقد الأخير، واليقين بأن الفيلم يمكن أن يكون حلماً. "لازارو" يبقى في الذاكرة كرائحة لا يزول أثرها، لأن صوراً وأجواء أخرى، مختلفة للغاية عما بداخله، ستنقلنا إليه كي نعيشها ونعيشه مرة أخرى.


قبل أي شيء، "لازارو السعيد" هو فيلم انغماس، انغماس في منطقة معزولة من لاتسيو نعاين فيها قرية عائلية مملوكة بكامل أرضها وناسها لسيدة إقطاعية تشبه إلهاً بألف ذراع وتبقيهم تحت سلطانها بديون لا تنقص بل تزيد بعد كل موسم حصاد. الحدود الزمنية في الفيلم غامضة، بحيث تصير الحياة البدائية وحالة الاستعباد التي يعيشها سكّان القرية، شأناً عالمياً واحتمالاً ممكناً في أي مكان على هذه الأرض. وفي محاولة إعادة تشكيل الحياة الريفية الإيطالية في ماضٍ مموّه ويصعب تحديد زمنه رغم بعض الإشارات المحجّبة، تشكّل الواقعية الصارمة والانتباه للتفاصيل والشمولية التاريخية، التركيبة الدقيقة التي تتبنّاها رورواتشر لإخبار قصّتها العجائبية والمألوفة في آن. وهي قصة مكونة من شخصيات واضحة المعالم، على حدود الكاريكاتورية، تتغذّى على كامل الخيال السينمائي، لا سيما تراث الواقعية الإيطالية.


ببراعة يمتزج فيها النضج بالجرأة، تبني رورواتشر ملتقى طرق لعلاقات وحالات تبدو مستحيلة: البنية الاجتماعية في أواخر القرن التاسع عشر -التي صوّرها بيرتولوتشي في المشاهد الأولى من "نوفيسينتو" - مصحوبة بموسيقى بوب الثمانينات، ووجود الموبايل كتطفل تكنولوجي على بيئة ريفية يعوزها الكثير تحوّل مصباحاً كهربائياً بسيطاً إلى أداة ثمينة. خطر التبسيط الرمزي موجود منذ البداية، لكن المخرجة تهرب منه كما لو كان الشيطان نفسه.

الساعة الأولى من الفيلم لا تتعدى حدود القرية وعمليات رعاية الحقول والحصاد والذبح والديون التي لا تنتهي. لكن في منتصف الطريق، يقع لازارو ويموت. يموت لازارو، ثم يقوم، مثلما أقام المسيح سميّه لعازر من الأموات (إنجيل يوحنا). عندما يستيقظ لازارو، سليماً وشاباً وساذجاً كما هو، لا يجد أحداً، ليتتبّع بحزن بقايا حضارة منقرضة ووجود مهاجر، على أطراف المدينة، التي كانت دائماً أقرب إليه مما يعتقد.

رورواتشر بنّاءة جسور جيدة. الجسور المستقرة، التي تقود بأمان من جانب إلى آخر، ليست فقط أساسية في بناء الطرق، لكن أيضاً في السينما. تحتاج رورواتشر أيضاً إلى علاقة سردية متينة تجمع بين جزأي فيلمها، الذي يرتكز على زمنين ومكانين مختلفين، وتقودنا إلى الجانب الآخر من حيث يمكننا أن ننظر إلى الوراء. إنها تبنيهم من خلال الجمع بين الواقع والسحر، والنقد الاجتماعي والأساطير الدينية. وبعبارة أخرى ملموسة، تنشئ تسلسلاً معقداً يتماشى فيه المسار الصوتي غير المتزامن مع المستوى المرئي. أولاً، نسمتع من خارج الكادر إلى قصة القديس فرانسيس ونجاته من الذئب الجائع، بعدما تعرّف الأخير على طيبته وورعه. في الوقت نفسه، نرى ذئباً يشمّ جثة لازارو، بعد سقوطه المميت، ويوقظه. لا يتعرّف القديس الحيّ على العالم نتيجة لذلك، لأن العقود مرّت. العالم تغيّر - أو لم يتغيّر على الإطلاق - وهذا هو الهدف من هذا التحوّل العجائبي.

هكذا يتحرّر الفيلم تدريجياً من النبرة الوثائقية المميزة لخطوطه الأولى، لتولّي السمات الأسلوبية لحكاية مجازية ترتبط بمواضيع النقد الاجتماعي. وعبر إحالة ذكية من الفيلم لإستئناف حكايته في التسعينات – وهو زمن متأخر جداً لواقع اجتماعي مؤلف من البروليتاريا والاستغلال والخرافات، لكن أيضا ليس مستبعداً، بالوضع في الاعتبار الخبرة المباشرة للمخرجة التي نشأت في مقاطعة أومبريا - تصبح القصة على الفور استنكاراً وإدانة لحالة التخلّف والفقر في العديد من المناطق الريفية الإيطالية. وبذلك يصبح الأمر أيضاً، تذكيراً بأولئك الذين يعيشون اليوم بميراث الاستعباد وكراهية الغرباء ويرفضون إنسانية المهاجرين "الجدد" في بلد مهاجر مثل إيطاليا. بمدّ التطور الزمني لسرد "لازارو السعيد" حتى يومنا الحالي، يصبح هذا الاستنكار أكثر حدة وتعقيداً، ويترجمه إلى أشكال أخرى من الاستغلال والاستعباد - حضرياً وبيروقراطياً - مع الإبقاء على حالة من "الطبقية الإستاتيكية" من دون تغيير.

إذا كانت عناصر النقد الاجتماعي تلك قادرة على التوهّج في الفيلم من دون حذلقة أو تعليمية، فذلك لأن القصة التي أخبرتها أليتشي رورواتشر تُقرأ عبر طباق منتظم لشخصية لازارو (أدريانو تارديولي في أول أدواره على الشاشة)، الصبي البسيط والطيب إلى أقصى الحدود الذي تحيل لامعقولية وسذاجة تصرفاته إلى وصفه بالأحمق أو القديس. لكن في الوقت نفسه، تتشارك هاتان الصفتان الأخيرتان العديد من نقاط الاتصال، حتى لو كان فقط الجذر المشترك للدهشة الوجودية. ما تفعله هنا السينمائية الإيطالية ذات الأصول الألمانية هو إعادة تأكيد التقليد الإيطالي، والإنساني بشكل عام، عن القداسة والبراءة والبساطة والطيبة، بما يجعل الفيلم صوتاً بعيداً وقويًا ينبثق من الوعي الخيالي والتاريخي للإيطاليين، والبشر بشكل عام.

أيضاً، تعرف رورواتشر كيفية تعبئة هذا الصوت العميق من الإيطالية (Italianness) بفضل عمل مثير للإعجاب من الانتعاش الأيقوني، لأن المشاهد/اللوحات الكلاسيكية التي لا تتوقف عن دفق نبضها على الشاشة، تحيل إلى مراجع سينمائية متعددة. من التغزّل في المناظر الطبيعية إلى إنسانية إيرمانو أولمي، ومن جماليات رسوم الماكيايولي إلى واقعية روبيرتو روسوليني، ومن الواقعية السحرية للأخوين تافياني إلى أفكار ماركس عن صراع الطبقات الاجتماعية، ومن حقيقية الفريسيمو إلى إيمان بيير باولو بازوليني، ومن تجليات كاميرا هيلين لوفار الـ 16 مم إلى حكايات وأسماء الكتاب المقدس؛ يجمع هذا الفيلم تراثاً طويلاً ومتنوعاً، يرفده حسٌّ ديني شعبي يؤمن بالغيب قدر تصديقه الحكايات الخرافية. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن خطاب رورواتشر، غير المتنصل من إيمانيات شعبية، يبقى شفافاً وصافياً ولا ينتهي عند حدود الواقعية المُلطَّفة لفيتوريو دي سيكا، أو الارتكان إلى سرديات فولكلورية تشجّع الفقراء على الرضا بالقليل وتلهيهم بنهايات سعيدة. وربما لن يكون هناك أبلغ من ذلك المشهد الذي يأتي في الثلث الأخير من الفيلم لاختصار مزيجه السحري: مجموعة من المزارعين السابقين يُنقلون إلى مدينة مجهولة، يهيمون في شوارعها ويرشدهم صوت ألحان الأرغن إلى إحدى الكنائس، يدخلونها، لكن سرعان ما يطردهم العاملون فيها. هذه الإهانة اليومية - التي يمكن أن يلاقيها أمثالهم من الساعين واللاجئين والمشرّدين والمهجرّين من أوطانهم - يكون الردّ الانتقامي عليها واحدة من أرقّ وأكثر المعجزات سريالية، حيث تغادر الموسيقى الكنيسةَ وتخرج إلى الشارع، مرتدة - على ما يبدو- من صوت قطار عابر، وتصحبهم. ينفصل عنهم لازارو، الأحمق المقدّس، الذي تقوده الموسيقى إلى شجرة زيتون مزروعة وسط عشب اصطناعي، وهناك يمنح نفسه تنفيساً طال انتظاره.


ما يقنع ويوازن بشكل جيد كثافة المواضيع التي يتم تناولها في الفيلم هو - مرة أخرى - شخصية لازارو، والكيفية التي تمدّ بها الفيلم، حتى على المستوى البنائي، بنَفَسٍ مختلف تماماً عن قصص مشابهة في ملحميتها، تلهث وتلحّ على مشاهدها بالأحداث والتطورات. شخصية لازارو تمارس مغناطيسيتها على بقية القصة، وتغلّفها بسذاجتها وخيالها، مثل السيد تشانس في فيلم "أن تكون هناك" (هال آشبي، 1979). تستفيد رورواتشر من معطيات حكايتها لتقدِّم لحظات من الراحة والتأمل الممتلئة بالصور والأصوات الغامرة. اختيار الفيلم لبدء حكايته في الطبيعة ثم الانتقال إلى المدينة في وقت لاحق، ليس توالياً هامشياً، بل وجوداً/واقعاً حقيقياً وكبيراً وصعباً. هذا التنفس يسمح لواقعية "لازارو" بالوثب والارتداد في حركة منسجمة مع أجواء حكايته، ليصبح النقد (الاجتماعي) أشعاراً (عالمية) سينمائية، تحثّنا على النظر إلى المجتمع وذئابه الطيبين بعيون جديدة. حينها تصبح الحماقة المذهلة للازارو سلاح مقاومة وتغيير، وحينها يمكن البدء من جديد في بعث سؤال الفيلم البسيط والأصيل: كيف ولماذا توقفنا عن احتضان وتقدير الطيبة والخير والجمال؟

(*) عُرض الفيلم في بيروت مؤخراً ضمن فعاليات النسخة الـ25 من "مهرجان السينما الأوروبية في بيروت"، ومن المنتظر عرضه تجارياً في سينما "متروبوليس" شباط/فبراير القادم.
حصل الفيلم على جائزة أفضل سيناريو في الدورة الأخيرة من "مهرجان كان السينمائي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها