هكذا كنت أفكر فيما أتأمل الطوابير الطويلة التي التفت حول مداخل ومخارج المقر الجديد لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الذهبية.
بدأ معرض القاهرة رحلة البحث عن القارئ منذ العام 1969 في أرض المعارض الدولية بالجزيرة، واستطاع خلال تلك السنوات أن يخلق حالة من الترابط مع الجمهور منذ انطلاقته الأولى التي كان شعارها "بناء الإنسان المصري بعد نكسة يونيو". استضاف كبار الكتّاب والمثقفين العرب، واحتضن الكثير من الفعاليات العامة والسياسية بشكل خاص نظراً لطبيعة الظرف الذي كانت تمر به مصر في تلك الفترة. في العام 1984 نقل إلى مقره الجديد في مدينة نصر، ليبدأ من هناك رحلة مختلفة على الصعيد الداخلي والدولي في المساحة الكبيرة والمباني الجديدة والأنشطة غير المسبوقة. توسعت فعالياته وأصبحت ندواته الفكرية منبراً لكبار مثقفي مصر والمنطقة العربية، بالإضافة إلى أنه أصبح موعداً سنوياً للقاء المثقفين بالرئيس. لكن أعواماً كثيرة مرت عليه في مكانه هذا، جرى خلالها الكثير من الأحداث، تغير العمران من حوله وأصبح في المركز بعدما كان على الأطراف، ثم أصابه التكلس الذي أصاب مصر كلها خلال 30 عاماً. ألغي اللقاء السنوي بالرئيس وأصبحت فعالياته تقام تحت مسميات فارغة، وأصبح حضورها مقتصراً على من يريد أن يريح قدميه من الجولات داخل الأجنحة.
وليس سراً أن المعرض تحول في سنواته الأخيرة في المقر القديم، إلى "مولد"، يباع فيه أي شيء، وبالأكلات الشعبية والموسيقى الهادرة من كل مكان، والفوضى التي تحتوى الجميع، أصبح مجرد "خروجة"، فسحة تكسر فيها الأسر روتين الحياة الممل، في مكان رحب على ما تبقى من خضرة تتسع لجلسة لطيفة في مكان مفتوح. بالطبع لا أحد يكره الفسحة، لكن فقط كان من المؤلم أن يتوارى الكتاب في خلفيه تلك المشاهد العبثية وأن يظل دائماً ضيفاً ثقيلاً على تلك الفعالية المقامة باسمه.
في 2010 ربما تغير الوضع قليلا، ليس على مستوى النظام لكن على مستوى القارئ نفسه، ظهرت موضة الـ"بيست سيللر" وأصبح هناك قارئ يمكن ملاحظته بسهولة في حفلات التوقيع التي كانت "موضة" جديدة وقتها. لكن هذا القارئ لم يلبث أن يتورط في الثورة، وضاع في زحام الشارع الذي شغله عن أي شيء آخر.
حتى دورة معرض الكتاب ألغيت في 2011 للمرة الأولى في تاريخه بسبب الثورة. كان عاماً بطولياً وتاريخياً، لكنه لم يكن بالتأكيد عاماً للكتاب. قد يكون الكتاب في خلفية ما جرى دافعاً ومحفزاً ومحركاً، لكنه بالتأكيد لم يكن سلعة رائجة خلال هذا العام.
الناشرون تضرروا كثيراً من إلغاء تلك الدورة لذا كانت الدورة التالية بمثابة الإنقاذ بالنسبة اليهم، وحتى على مستوى الدولة نفسها التي اعتبرت المعرض النشاط الدولي الأول الذي يقام بعد الثورة، وكان من المهم أن يقام وأن ينجح.
الناشرون اعتبروا إقامة المعرض في مخيمات تشبه مخيمات اللاجئين أفضل من لا شيء، فلا أحد تضرر من إلغاء الدورة السابقة بقدرهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى التوقف تماماً وربما تغيير النشاط. غابت الكتب إلى أن قامت الدورة الجديدة بالدور المطلوب، حركت المياه الراكدة واستطاع الناشرون تعويض بعض خسائرهم، وبيع بعض العناوين التي لم يتسن لهم حتى عرضها خلال عام الثورة.
الجمهور كان مفاجأة دورة 2012، حيث شهد المعرض رغم كل الأحداث حضوراً جماهيرياً كبيراً، حتى في الأيام التي شهدت تظاهرات واعتصامات وانتخابات، ربما اشتياقاً إلى الكتب أو إلى المعرض، أو حتى حنيناً إلى ممارسة فعل عادي بعد عام غير عادي.
بعد عام من الغياب، لم يكن الكتاب في خلفية المشهد، لم يكن ضيفاً على الفعالية التي تقام باسمه. بل بالعكس للمرة الأولى بعد غياب طويل، يكون في الصدارة، حيث احتلت كتب الثورات غالبية الرفوف، وتنوعت العناوين بين القصة والرواية، واليوميات، والتحليلات، والمقالات وحتى الكوميكس، وهو ما لم يكن متوقعاً. ففي الوقت الذي يعاني فيه الكتاب، باعتراف الجميع، لا تتوقف المطابع عن إخراج عشرات الكتب الجديدة، والجيدة.
الثورة كانت كلمة السر في هذا كله، هي التي اتهمها الجميع بأنها كانت السبب في موت الكتابة منذ 2011، وهي نفسها التي تتسبب في بعثها من جديد. صنفت وقتها باعتبارها الموجة الثانية لكتب الثورة، تخلى فيها المحللون عن الفرحة السابقة برحيل النظام، فلم تكن فقط تسجيلاً لما جرى، لكنها كانت أشبه بمحاولة للفهم، متجنبة الفخ الذي وقعت فيه القطفة الأولى. الفرح الطفولي والاستعجال وحصر الثورة في رحيل رأس النظام، بالطبع انتهى هذا كله الآن. فإن كانت ثمة تحليلات فهي فقط تشيطن الثورة، وتلعنها، وتخون كل من شارك فيها.
في العام 2013، عام رحيل الإخوان، بدأت طباعة "دون كيخوته"، انتهىاء بـ"الحرب والسلام"، وبينهما عشرات العناوين التي رسمت حال الكتاب في واحدة من أسخن السنوات في مصر. لكن للأسف لم ينتبه أحد هذه المرة، فالشعب كان في الشارع مجدداً، يزيح نظاماً آخر في أقل من ثلاثة أعوام. الشعب كان يصنع التاريخ ولم يكن لديه الوقت ليقرأ، باختصار تم التأكد من أن هذه السنوات هي سنوات الكتب الضائعة. صحيح لم يعد النشر مغامرة كما في الأعوام التي سبقت، لكن الوضع لم يتحسن كثيراً، نظام آخر رحل والشعب في الشارع يؤيد أو يعارض أو يفوض. المهم أنه ما زال في الشارع، حيث لا مجال لشراء الكتب.
يمكن أن نقول إن الملمح الأبرز في عام رحيل الإخوان، كان عودة الكلاسيكيات، حيث أعادت هيئة قصور الثقافة عبر أكثر من سلسلة، نشر مجموعة من الكتب القيمة، وأتاحتها بأسعار رمزية. طبَعت أعمالاً لبيلزاك وألبير كامو، وخوان رولفو، وهو ما استمرت عليه في الأعوام التالية التي ألقى فيها الهدوء السياسي -أو خيبة الأمل الشعبية- بظلاله على المعرض وجمهوره. لكن الملفت كان الحالة التي وصل إليها المعرض بعدما فقد ما تبقى من مبانيه في عملية تطوير لم تتم، وأصبحت الخيام التي لا تقي من الرياح والأمطار مسيطرة على أغلب أرجائه الفسيحة، فبدا وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان لا بد من التفكير في شكل مختلف وفعاليات مختلفة، وبالتأكيد مكان مختلف.
هذا العام في اليوبيل الذهبي للمعرض حدثت النقلة التي تأخرت كثيراً. نقلة دار حولها الكثير من الجدل خلال الفترة الماضية، خصوصاً أنها تمت من دون شرح أو توضيح. فقط "صدر قرار" كما قال رئيس هيئة الكتاب المسؤولة عن المعرض! صحيح شاخ المقر القديم وتهالك، وأصبح المعرض معه كعجوز يحتضر، رغم أنه كان بالكاد قد تجاوز الأربعين، لكن زواره كانوا يستحقون احترام خوفهم من التغيير ومن المسافات التي تصعب زيارة المكان أكثر من مرة، وحتى ذكرياتهم التي حملتها الثنايا المتغضنة للكهل الكبير، بدلاً من اتهامهم بالجهل والوقوف في وجه التطور الطبيعي والنقلة الحضارية الكبيرة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها