الخميس 2019/01/24

آخر تحديث: 15:07 (بيروت)

ثورة جميل السيد

الخميس 2019/01/24
ثورة جميل السيد
(تصوير: عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
...أما وقد استنفد كلام النائب جميل السيد، مراحله الطبيعية الثلاث لدى أي لبناني عاقل، أي الدهشة أولاً، ثم السخط، ثم الضحك من شرّ البليّة، فلا بد أن يستقر طرحه "الثوري" أخيراً في مصفاة الواقع اللبناني. 


فعلاً! إن كانت ثورة لتندلع في البلد، فمَن غير جميل السيد يستطيعها، وبنجاح؟ سواء أقلعَت وتحققت، أم ظلّت رايةً تُغرس صاريتها في رِقاب دون رِقاب..

مَن غير النائب الذي لطالما كان أبرز وجوه ما سُمّي بالنظام الأمني اللبناني-السوري المشترك أيام عزّه؟ الذي هتف مؤيدوه، خلال أحد مهرجاناته الانتخابية، لبشار الأسد، وهو بدوره ذكَّر بـ"صرماية حافظ الأسد"؟ مَن غير الرجل الذي دخل الندوة البرلمانية سائراً على نصل توازنات وتجاذبات دقيقة، بين حزب الله وحركة أمل والنظام الأسدي المنتصر في حربه على السوريين؟ مَن غيره، في لحظة عودة النظام السوري إلى لبنان من نوافذ مفتوحة على إعادة الإعمار، بعدما ظنّ اللبنانيون أنهم أقفلوا الباب خلف قواته المنسحبة ومعها أجهزته الأمنية؟ مَن غيره، في محطة سياسية ملتبسة بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، وبين "التيار" و"أمل"، وفي مأزق رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الذي يتلقى الضربات من خصوم وحلفاء، محاولاً الصمود في برزخه بلا كثير جدوى؟ وجميل السيد، الذي يقوّمه "حزب الله"، كلما دعت الحاجة، رئيساً محتملاً لمجلس النواب، مَن غيره لمخاطبة الرئيس نبيه بري، المشتغل بأعدقائه ومعهم، بميزان الذهب؟

اللحظة اللبنانية الراهنة هي لحظة جميل السيد وثورته.
رئيس الجمهورية ميشال عون يلوّح، هو أيضاً، برسالة إلى المجلس النيابي للبحث في أسباب عرقلة تشكيل الحكومة، كوسيلة للضغط على الحريري للسير في صيغة جبران باسيل، والحريري يستظلّ ببري. العونيون في حاجة إلى ثورة دستورية من هذا القبيل. وحزب الله يرحب بكل ما يُقضم من الآخرين. استدعاء الصحافيين والناشطين للتحقيق، بات سمة عهد "بيّ الكل". بهذا المعنى، الحس الأمني عالٍ، كما أن إحساسه مرهف. لا يفتقر البلد إلى وسيلة إعلام أساسية، هي تلفزيون "الجديد"، تتبنى دعوة جميل السيد، بل وتدبّج له شريطاً دعائياً يتشاركه موظفوه في وسائل التواصل الاجتماعي مع هاشتاغ #جميل_يا_سيد. حضيض الطرف المفترض أن يكون رقيباً نقدياً للأداء في الشأن العام. التظاهرات "الشعبية" في شوارع بيروت بلغت قاعها الصُّوَري، وإن كانت، حتى في ذروة الحراك المدني في ملف النفايات، فاشلة وعقيمة.

تبدو "الديموقراطية الطائفية"، صمام الأمان الوحيد لتفشي الثورة الجديدة هذه، وهي ذاتها علّة البلد والعائق أمام انتظام مؤسساته واجتماعه بالحد الأدنى من الفاعلية والمناقبية. بل وهي نفسها التي يتكئ عليها السيد نفسه للقول بأن "الانقلاب من تحت إلى فوق مستحيل من دون حرب أهلية"، وأن "التغيير من فوق، من الدولة، تكون كلفته أقل في بلد منقسم طائفياً". إنه زمن تحدّث النائب جميل السيد عن الدولة.

فجميل السيد هو الآن صوت الناس، والغيور على تمثيلهم في مجلس النواب. لذلك، يدعو إلى "ثورة نيابية من فوق، من أجل التأليف الحكومي"، داعياً بري إلى جلسة في نهاية الأسبوع، لمناقشة الواقع الحكومي، على أن تنتهي بالتصويت على سحب التكليف من الحريري، فإذا كان بالغالبية، يُسحب التكليف. ويطلب من زملائه النواب أن يضعوا الدستور وتفسيراته، جانباً. الوطني المتحمس لعودة عجلة الاقتصاد والأمن والسياسة، بل والتشريع أيضاً، يطالب بتنحية الدستور. لبنان يعود "جميلاً"، يشبه نفسه قبل العام 2005، ولا غرابة.

يلمّح السيد إلى طرح أخطر من التصويت على سحب التكليف، الذي لا سند دستورياً له، وبالتالي لن يمرّ، بل لن يمرّره بري. يغمز من قناة تعديل الدستور بحيث يوضع إطار زمني للرئيس المكلف لتشكيل حكومته، وإلا فسيُكلَّف رئيس آخر. يرمي الصلاحيات السنّية بحجر، فيما الحريري محشور في زاوية. صلاحيات رئيس الجمهورية "القوي"، المعلّقة على ربابة الحقوق المهدورة المسيحيين، يُمنع حتى التفكير في ما قد يلامس أطرافها، ولو كان اقتراح قانون لتسريع تعيين حراس أحراج بعد تعطيل دام سنوات. والصلاحيات الشيعية مصانة، داخل الدولة – والسيد مرشّح دائم لها – وخارجها يتولاها حزب الله.

وفي مثل هذه الأوقات الثورية، لعل اللبناني العاقل يحمد ربه على نعمة الطائفية، ويدعو بدوامها. وإلا، وكما عيّن جميل السيد مديراً عاماً للأمن العام (1998)، رغم أنه المنصب الذي شغله موارنة منذ الاستقلال، فلربما أصبح رئيساً للجمهورية، ولو أنه لا فرق كبيراً.. لولا الطائفية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها