الأربعاء 2019/01/23

آخر تحديث: 14:18 (بيروت)

مهرجان السينما الأوروبية في بيروت: الحرب والصورة وأشياء أخرى

الأربعاء 2019/01/23
مهرجان السينما الأوروبية في بيروت: الحرب والصورة وأشياء أخرى
غودار
increase حجم الخط decrease
هذا العام أيضاً نحن على موعدٍ مع دورة جديدة من مهرجان السينما الأوروبية من 24 كانون الثاني حتى 4 شباط في سينما متروبوليس أمبير صوفيل في بيروت. خلال الدورة الخامسة والعشرين ستعرض أهم الأفلام الأوروبية لعام 2018 والتي شارك معظمها في دورات المهرجانات الأوروبية الكبرى مثل مهرجاني "كانّ" و"البندقية" وغيرها. نستعرض هنا بعض الأفلام التي ستعرض مثل "دوغمان" للمخرج الإيطالي ماتيو غاروني، "كتاب الصورة" للمخرج الفرنسي جان لوك غودار، ومن فرنسا فيلم "في الحرب" لستيفان بريزيه. أفلام ثلاثة تضاف إلى ثلاثة أخرى سبق واستعرضناها في مقالات سابقة إبّان عرضها الأول في المهرجانات، من فيلم "نهاية سعيدة"* للمخرج النمساوي ميشائيل هانكيه، "حرب باردة"* للمخرج البولندي بافيل بافليكوفسكي، "غروب"* للمخرج الهنغاري لازلو نمش. المهرجان سيعرض فيلماً من خارج الحيز الاوروبي، "كان يا ما كان، بيروت" تكريماً لمخرجته اللبنانية الراحلة جوسلين صعب التي توفيت بداية العام الحالي. 

دوغمان: مأساة رجل بسيط 

في العام 1988 هزت جريمة قتل الملاكم جيانكارلو ريتشي من قبل بيترو دينيغري صاحب محل تصفيف شعر الكلاب إيطاليا. الجريمة اعتبرت إحدى أكثر الجرائم دموية باعتراف القاتل الذي شرح الطريقة الفظيعة التي قتل بها ريتشي عبر قطع اصابعة ولسانه، وتحطيم جمجمته. اعترافات تبين أنّها من نسج خيال دينيغري الذي كان تحت تأثير الكوكايين خلال استجوابه. دينيغري فعلاً قتل الملاكم انتقاماً لما كان الملاكم يجبره على فعله طوال سنوات.  ماتيو غاروني لا يتمسك بالقصة الحقيقة، على الرغم من أنه ينبع منها الا أن المخرج اختار حيثيات وديناميكيات الشخصيتين وصداقتهما الغريبة ومجراها الذي أدّى إلى النهاية المأساوية.

مارتشيلو (مارشيلو فونتي - افضل ممثل في مهرجان "كانّ" 2018) رجل بسيط، هو ليس بغبي، لكنه متواضع، من دون طموحات كبيرة، ذو ابتسامة سهلة، منفصل عن زوجته ولديه ابنة يعتني بها، يلعب كرة القدم مع الأصدقاء ومحبوب في ذاك الحي البائس، ينظف ويصفف شعر الكلاب في متجره، يألف ويحب هذه الكائنات ويطوّع حتّى أكبرها وأكثرها ضراوة. إلّا أنّه غير قادر على التعامل مع سيمونشينو (ادواردو بيشي) الملاكم القوي الغبي المتنمر، يرهب الحي، يسرق ويضرب ويقتل دون ندم أو تفكير، والذي يحكم قبضته على مارتشيلو ويجرجره ليصبح يده اليمنى بسطوة الترهيب والتخويف.

الإغراء والنفور يجتمعان هنا مع عنف أفلام غاروني، كأفلامه السابقة وخاصة "غومورا" (2008). يبدع غاروني ببناء شخصياته، بعضها يسهل التعاطف معها وأخرى العكس فهي شديدة العدائية. هو يقترح وجود طبيعة بشرية عنيفة في جوهر الجميع وظروفٌ تسمح بإطلاقها، بينما تتقدم قصصه نحو انفجار ينشأ من المواجهة بين القلب والعقل. "دوغمان" هو هذا اللقاء بين رجلين متناقضين، خلال ثلثي الفيلم على الأقل نشاهد علاقة خضوع وعدوانية، طرفٌ يهاجم كثيراً، وآخر يتلقى كثيراً. هذا التفاوت الوحشي يفرض تقنية عمل سينمائي يبرع بها الإيطالي، فكاميرته الملتصقة بالوجوه، تعبّر من الندوب الجسدية القديمة إلى الجروح الداخلية إلى الأذى الحديث، حوار شخصيات باللكمات وقضبان الحديد والطلقات، على وقع أصوات المحركات ونباح الكلاب وارتطام السلاسل واصطكاك الأبواب الحديدية في إطارٍ أعمّ لصورة معتمة وموحلة لقرية شبه مهجورة متسخة ومتآكلة.

قبل الإنتقام "دوغمان" هو عن العلاقة مع الذات قبل العلاقة مع الآخرين، ما نحن عليه وما لا نريد أن نكون عليه. مارتشيلو جزء من أناسٍ كثر، الجزء الذي يظهر عندما لا نمسك زمام أنفسنا لنقول لا، عندما نتغاضى عن الخيار الصحيح لأسباب مفهومة وغير مفهومة، وعندما نسقط في الامتحان أمام ذواتنا فنفقد احترام نفسنا ومنطقية تفكيرنا وصوابية تصرفنا. ينشأ سخط مارتشيلو من وعيه، ليس فقط من الإهانات التي عانى منها من سيمونشينو بل أيضا من ضغط إجتماعي أكبر متأتٍّ من عدم مقدرته على فرض احترامه بين أصدقائه وزوجته السابقة وحتى ابنته مما أطلق زناد العنف. هذا العنف الذي يؤدي إلى هزيمة، لأنه يأتي نتيجة فورات غضبٍ سريعة تتفاقم بسبب القمع وخلال البحث عن مهربٍ وانتقام، فيحلّ هذا الانتقام ثقيلا عليه كثقل جثة ملاكمٍ شرس.

غودار الذي لا يشبه أحداً
ليس غريباً على غودار أن يكون مايسترو أعماله الفنية. لكنّ "كتاب الصورة" (سعفة ذهبية خاصة، للمرة الأولى في تاريخ المهرجان) كرّس المخرج بشموليّة أكبر، هو ليس مايسترو وعازفاً فحسب بل وآلة موسيقية كذلك. هو يرقص على أنغام صور فوتوغرافية، يلاعب اللقطات، يسقط الأصوات، يضبط ايقاع الرسوم، يلوّن بالأبيض والأسود فيمزجها بالحاضر الملون ثمّ يربطها جميعاً لتصبح كتلة واحدة يصعب تجزئتها. فيلم غودار يصعب وصفه لكثرة التداخل والشوائب، لكثرة تشويهه للعناصر بين يديه، يمكننا القول بأنها الفوضى الخلّاقة. يبدأ باليدين، بالأصابع التي ترتفع واحداً تلوَ الآخر لتصبح خمسة، تماماً مثل انسيابية فصول الفيلم الخمسة. "كتاب الصورة" مقال رائع عن عالمنا ربما، ونقول ربما لأن غودار قد يفاجئنا غداً بتفسير آخر بعيد عمّا نظنّ أنه أراده.

المخرج الثمانيني يخرج عن كلّ الخطوط السردية المألوفة، لا تسلسل للأحداث. على مدار ساعة ونصف الساعة، يرسم المخرج الفرنسي لوحة فنية مركبة غير متجانسة ومضطربة، من الصور المتراصّة. مشاهد لتقارير وثائقية أو إخبارية، تتنوّع بين التاريخ والإجتماع والسياسة. ليست اللقطات محصورة بالكاميرات المحترفة، تحضر صور وأفلام من كاميرات الهواتف.. نلاحظ تركيزه على الحروب والثورات، استحضر غودار تنظيم الدولة الاسلامية، الصراع بين العرب والغرب.. نجد اقتباسات من الصحف، أو لمقاطع أدبية عن أندريه مالرو ثم غوته فآرثور رامبو وغيرهم، ثم يُدخِل مقاطع سينمائية من أفلام فرنسية، أميركية، وإسبانية من فينومينا ثم فريكس وجوني غيتار ونوتوريوس فسالو وصولاً لفيرتيغو وغيرها. على وقع الصور المتشابكة، تعليق سردي متفاوتٌ بصوت غودار، ثم ضربات موسيقية كلاسيكية لباخ وغيره، ثمّ فجأة لحظات صمت تقطع الصخب.

أفكار المخرج الفرنسي المخضرم كثيرة، يخوض هنا نوعاً من المقال المصوّر، من النقد السياسي للقوة والتسلّط في عصرنا، للقوة "البلهاء" برأيه. هنا يستحوذ غودار على كلّ شيء، كلّ أنواع الصور، من مختلف الحقبات. حكى عن المجتمع والسياسة والفن والصحف، انتقل إلى الحروب والأزمات. المآسي هيمنت على الصورة، طرحها أيديولوجياً بذكاء وغرائزياً بمرح. فجمع بطمعه المعهود ثراء المادة بالغرابة، لعب في مساحته الخاصة المميزة، المغايرة لصناّع الافلام. عوّدنا غودار على سينماه التي لا تشبه أحداً ولا شيئاً، وفي "كتاب الصورة" أضاف غرابة أكبر خارجاً عن الحدود السينماتوغرافية وعن أطر الزمان، ليكون عمله الفني ومضات من ذاكرته المجنونة التي تحنّ إلى الماضي.

"في الحرب": رؤيا مظاهرات فرنسا 
"من يقاتل يمكن أن يخسر، من لم يخض القتال فقد خسر بالفعل"، من هذه العبارة الشهيرة لبرتولت بريشت، يفتتح المخرج الفرنسي ستيفان بريزيه أحدث أفلامه "في الحرب". هي معركة موظفي مصنع "بيران" ضد أصحاب الشركة والحكومة للمطالبة بحقوقهم بعد قرار إغلاق المصنع، وبعد تضحيات الموظفين الجللة للإبقاء على نشاط المصنع ووظائفهم ووعود مرؤوسيهم بأمان مهنهم. لكنّ زيف الوعود اتضح، ولم يعد أمام لوران (فنسان ليندون) وومئات الموظفين سوى القتال.

فيلم بريزيه هو حقا فيلم حرب: مكان العمل هو ميدان المعركة، العمال هم الجنود الذين يتقدمون هدفاً تلو الآخر، كلماتهم طلقات نارية وقرارات المدراء قنابل حارقة، والمعركة لا تخلو من الإنقسام في الجبهة الداخلية. بريزيه يعود للسينما المتشددة لقضية حية وحاضرة، لفرنسا ضد ماكرون.

باستخدام تقنية الفيلم الوثائقي، قدم بريزيه الفيلم غالبا بكاميرا محمولة باليد، نلمح لوران يتكلم ويشجع زملاءه، نعيش المظاهرات ونخوض بين نقاشات الزملاء واختلافات وجهات النظر. يستخدم بريزيه لغات سمعية وبصرية لتوصيل الفكرة والمشاعر، توليفة من لغة نشرات الأخبار، مشاهد مصنوعة باستخدام الهاتف المحمول وكل ما يلزم لتكون المظاهرات حقيقية على شاشات السينما. بعد كل مشهد نتنفس الصعداء ، كرد فعل غريزي حدده المشهد. هذا هو إيقاع الفيلم الذي أراده بريزيه كثيفا ومزدحما بأحداثٍ كثيرة، بمقابلات، اجتماعات ومشاجرات تتجه نحو الانفجار. فيلم جدي بجدية القضية التي يتحدث عنها والموقف السياسي الذي يتبنّاه ويقاتل لأجله منذ بداية الفيلم وحتى آخره.

لعشّاق السينما في بيروت، لا تفوّتوا فرصة عرض تحف العام 2018 التي لن تجدوها بسهولة في متناول أيديكم...  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها