الثلاثاء 2019/01/22

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

"وهم" كارلوس شاهين.. مسرح الاستماع

الثلاثاء 2019/01/22
"وهم" كارلوس شاهين.. مسرح الاستماع
تعامل المخرج والممثلون مع النص كأنه جزءٌ لا يتجزأ من كينونتهم
increase حجم الخط decrease
يندرج عرض "وهم" للمخرج والممثل اللبناني كارلوس شاهين، ضمن العروض التي تجعل النص الركنَ الأكثر حضوراً وأكثر تأثيراً في العرض، وهذا ليس أمراً مستغرباً على شاهين، الذي ينحاز للكلمة، وغالباً ما يعتمد اخراجاً كلاسيكياً قوامه أداء الممثلين. فبعد "مجزرة" لياسمينا ريزا، و"بستان الكرز" لتشيخوف، و"كيف كان العشا" لدونالد مارغيليس، يقدّم شاهين نص "أوهام" Illusions لايفان فريباييف، المخرج والممثل والكاتب الروسي، الذي يصنف البعض أعماله بأنها مزيج بين روح تارانتينو وتاركوفسكي.


في "وهم" كارلوس شاهين، يحتل أربعة ممثلين في سن الثلاثين، مسرح "مونو"، من دون ايلاء فضاء الخشبة أي فائضٍ في الحركة، ومن دون التفاعل في ما بينهم عبر حوارات. فهذا العرض ينقل عبر أفواه ممثليه حكاية ثنائيين (عجوزين) تربطهما صداقة وطيدة: ديني وزوجته ساندرا وآلبرت وزوجته مارغريت. كل من الممثلين سيحكي حكاية الحب. الحب الذي توهم به أو تمسك به أحد هذه الشخصيات للآخر أكان الزوج أو صديق الزوج. والحب الذي لا يتمظهر الا لحظة وفاةِ كلٍ من هذه الشخصيات التي تستدعي اعترافاً من نوع الإعترافات التي وردت في "وهم". أتحدث عن النوع الذي يقلب كل المسلمات وكل المفاهيم. في كل حكاية رواها كل من سيلينا الشامي وجوزيف زيتوني وكارول الحاج ووسام فارس، هنالك تبدّل لحقيقة الحكاية وتناقلٌ لمعنى الحب.

في الثالثة والثمانين من عمره، يدعو ديني ساندرا ليشكرها على الحياة التي عاشاها معاً.  يشكرها لأنها علمته الحب الذي لا يمكن أن يكون الا متبادلاً، هو جهد ومسؤولية وامتنان معاً. يقول لها "بحبك" ثم... يموت. ساندرا حين تصل الى فراش موتها تستدعي أعز صديقٍ لزوجها آلبرت لتعترف بحبها له. لأنها أحبته بصمت تمكنت من حب زوجها: "العطاء أهم من انك تطالب بشي لإلك... الحب ما بيطلب شي بالمقابل. قلبي مليان... الحب اللي عندي ياه لإلك عطيتو لداني". سرعان ما يعود ألبرت الى زوجته مارغريت ليخبرها أنه كان يعتقد أنه يحبها، وأنه مغرمٌ بساندرا واذ بالأحداث تتعقد بين سرديات كل من الممثلين التي يتضح أنها تحوي هامشا من المزاح والتخييل، ولا يبقى من حبكة حكاية حب ديني لزوجته. وحب هذه الأخيرة لصديقه، وتوهم الصديق لحبه لساندرا، وردة فعل مارغريت التي انتحرت، بعد أن اختلقت كذبة تورطها مع ديني بعلاقة سرية، الا متاهة تحاول فهم معنى الحب وعبثيته وجدواه. لا يدور سرد الأحداث في نص فيريباييف على نحوِ ميلودرامي. على العكس هو عابق بالبوح، وهو بوح أحادي الجانب في معظم الأوقات. لم تستقطع أي من الشخصيات لحظات البوح هذه الا في ما ندر. كما لو أن تلك الحالة العصية على الفهم التي يبنيها الحب، هي فعل ذاتي ذهني تخيلي تهيَّأ له الظروف الخارجية، وقد يكون وهماً تختلقه، ولكنه في كل الأحوال حاجة لا مناص منها  ولا يمكن حسم التعريف بشأنها.



على تماسٍ من اعترافات الحب هذه تقاطعت حكايا غرائبية فيها من الرمزية، ما يمتّن فكرة اختلاق الوهم الذي يحوم حول حالة الحب وما ينفيها في نفس الوقت: حكاية مارغريت التي تحبس نفسها داخل الخزانة حتى يغني لها زوجها الأغنية السحرية. حكاية الصخرة التي جلس عليها ديني ووجد أن هذه الصخرة تمثل مكانه في الحياة، وبقي جالساً عليها لساعات طالباً من زوجته أن تجد مكانها في الحياة أيضاً. حكاية الشريط الزهري الذي رأته ساندرا في أستراليا والذي سبب لها راحةً ما، وقال لها زوجها ديني أن هذا الشريط تحوّل الى مجموعة خطوطٍ متشظية، ليتضح لاحقاً أن هذا الشريط الزهري ليس سوى مغيب الشمس. حكاية الضوء المتوهج والمركبة الفضائية التي رآها ديني في صغره والتي قرر على أثرها أن لا يكذب يوماً في حياته، حكاية رخاوة العالم وسيجارة الماريغوانا... كل تلك الحكايا ايحاءات يجمعها قاسم مشترك واحد، هو البحث عن السعادة ورغبة الإنسان بالشعور بشيءٍ من الطمأنينة... حتى لو كان الوصول اليهما بشكل مطلق هو مجرد وهمٍ ايضاً وهذا ما تفسره غرائبية الحكايا.

تكمن جمالية نص فيريباييف في هذا التنقل السلس والشفاف والحقيقي بين مفاهيم متعددة لمعنى الحب التي تتقاطع مع الحكايا الغرائبية دون إطلاق أي أحكام. هناك لطفٌ مخيفٌ في سورياليته وامتنان قد يشعران بالريبة أحياناً، وقد يدفعان للتساؤل ماذا يريد العرض من كل هذا البوح؟ لربما تكون الجملة النهائية في العرض التي نطق بها آلبرت قبل أن يموت والتي كتبتها مارغريت مئات المرات على رسالتها قبل أن تنتحر: "لا بد أن يكون هنالك استمرارية ما في هذا الكون الذي يتغير كل الوقت.. لا بد أن يكون هنالك استمرارية ما في هذا الكون الذي يتغير...". هل في هذه الجملة تمسّك معلن بالحب؟ الحب المتبادل الذي يستمر لسنوات دون أن يعكّره شي؟ تبقى النهايات مفتوحة.



تعامل المخرج والممثلون مع النص كأنه جزءٌ لا يتجزأ من كينونتهم. سيرينا الشامي وكارول الحاج وجوزيف زيتوني ووسام فارس، كانوا على مستوى حِرفي عالٍ في الأداء الذي بدى عفوياً وصادقاً لدرجة استثنائية. ساهم في تلك عفوية اشتغال جوزيف زيتوني على لبننة نصٍ حيوي غني جداً بالمفردات وبالجمل البسيطة والشاعرية في آن. أما من الناحية الإخراجية،  فقد اعتمد المخرج كل العناصر التي تحيل الى ابراز النص: فضاء المسرح خالٍ من أي سينوغرافيا باستثناء شاشة في الخلف، تقدّم بين كل حكاية وأخرى مادة أرشيفية، تعود لعائلة كارلوس شاهين غالباً ما تظهر رجلين يحيطان امرأة أو امرأتين تحيطان رجلا. ليس هنالك ما يميز أزياء الممثلين. تقشف شاهين بصرياً، وابتعد  قدر الإمكان عن المسرحة. قد يعيب البعض هذا التقشف في الطرح الإخراجي. يستطيع أي مخرج مسرحي أن يلجأ الى ذاكرته البصرية الفردية أو الى الذاكرة الجماعية للمسرح ليطرق باب مراجع بصرية، يستلهم منها لصالح مسرحة عرضه وهنا أتحدث عن مطلق عرض: من الممكن أن يستوحي من الكثير من العوامل التي تبتعد عن النص ليبنى نسقاً استطيقياً خاصاً به مستفيداً من عناصر السينواغرافيا وجماليات الصوت والإضاءة ومن أنماط متعددة في إدارة التمثيل وتقنيات الفيديو وقد يغالي في استخدام تلك الأدوات، كما قد يكون الإستغناء عن معظم مكوّنات المسرحة خياراً استطيقياً آخر ينحو نحوه المخرج.

الخياران مشروعان طالما هنالك عمل مسرحي بخياراتٍ مبررة درامياً وفنياً وغير مستهلكة، وطالما هنالك ما يدعو الجمهور الى طرح تساؤلاتٍ جديدة حول كل ما يحيطه. ولا يبدو خيار عودة عدد من المخرجين الى النص المسرحي الأدبي كالعنصر الأساس والأقوى في عملية المسرحة خياراً مستغرباً: قد تكون هنالك عوامل عديدة لعودة النص، ولعل أهمها مرتبط  بحالة الشرذمة والتشتيت الذاتية النابعة عن فيض التلقي التي تخلقها التكنولوجيا وسائر أدوات التواصل الإجتماعي التي تؤدي الى حاجة الفرد للنص -أكان بسيطاً أو معقداً في جدليته- ككتلة متماسكة لا تستوجب أي إضافات أخرى وتتأتى كنقيض لكل هذا الفيض الرقمي ولكل الطوفان البصري.

لربما أراد شاهين أن يتماهى مع فيريباييف الذي عرّف عن عرضه في وارسو أن ما سيراه الجمهور هو أقرب الى اجتماعٍ منه الى عرض، وأنه مسرور لدعوة الحاضرين الى هذا الإجتماعٍ طالباً منهم الإستماع الى هذا القصص، "لأنها جميلة للغاية ومؤثرة... وهو مقتنع بأن مناقشة مثل هذه المواضيع، لا تقدّر بثمن في عصرنا الحالي". الإستماع ميزة أساسية في "وهم" بل حوّله شاهين الى فعل استطيقي بإمتياز!

*  نال العرض جائزة أفضل عمل مسرحي في المهرجان الوطني للمسرح في لبنان.

** تستمر العروض حتى 27 كانون الثاني الجاري، في مسرح "مونو" الأشرفية-بيروت. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها