الإثنين 2019/01/21

آخر تحديث: 12:02 (بيروت)

رحلة استكشاف قُصير عمرة المتواصلة

الإثنين 2019/01/21
increase حجم الخط decrease
يُعتبر قصير عمرة من أبرز المواقع الأثريّة في الأردن، ويتميّز بجدارياته التي تشكل أهم نموذج للفن التشكيلي الأموي. بقي هذا الموقع مجهولا في الصحراء إلى أن اكتشفه فريق من علماء الآثار في نهاية القرن التاسع عشر، وظل منسياً إلى أن رممه علماء من المتحف الوطني الإسباني في سبعينات القرن الماضي. أُدرج ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة الأونيسكو العام 1985، ثم وثّق "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى" جدارياته، وتتواصل اليوم عملية استكشاف معالمه.


في نهاية القرن التاسع عشر، قدِم العالم التشيكي، ألوييس موزيل، إلى المشرق على رأس بعثة للآثار بدعم فاعل من أكاديمية فيينا. ألقت هذه البعثة الضوء على مواقع عديدة، أهمّها مبنى مهجور في بادية الأردن وصل إليه موزيل بعدما حدّثه عنه أهل المنطقة من البدو. يقع هذا المبنى في وادي البُطم، شرقي عمّان، ويُعرَف باسم قُصير عمرة، وهو في الواقع منتجع ملكي من العهد الأموي يتألف من ثلاثة إيوانات معقودة وحمّام كبير مؤلف من ثلاث غرف. يتميّز برسومه الجدارية التي تلفّ جدرانه وسقوف حجراته بصورها الزاخرة بالمواضيع المختلفة. تجمع هذه الصور بين المشاهد الآدمية الحيوانية والنباتية، وتشكل امتدادا لما نراه في سوريا الرومانية، خلال العقود التي سبقت دخول الإسلام إلى بلاد الشام. تمتدّ هذه الرسوم 380 متراً مربعاً وتشكّل أكبر برنامج إيقونوغرافي مدني معروف من الألفية الأولى في العالم المتوسطي بأقاليمه الوثنية والمسيحية والإسلامية، وهو ما يجعل منها مادة استثنائية لدراسة تطور فن الرسم التصويري في القرن الثامن للميلاد، ونشوء الفن التصويري الأموي.

اكتشف ألوييس موزيل هذا القصير في العام 1898، وعاد إليه مرتين في فترة وجيزة، ثم زاره ثالثةً العام 1901 برفقة الرسام ألفونس ميليخ الذي أنجز مجموعة من النسخ التوثيقية تنقل جزءاً كبيراً من صوره الجدارية. صدرت هذه النسخ في العام 1907 في مؤلف ضخم، وشكلت مادة دراسية اعتمدها البحاثة خلال العقود الأولى من القرن العشرين. بعد فترة وجيزة، قام الكاهنان العالمان، أنطونان جوسين ورافاييل سافينياك، بزيارات متكررة إلى قصير عمرة، بين 1909 و1919، والتقطا مجموعة من الصور الفوتوغرافية شكّلت تكملة لعمل موزيل، وصدرت هذه الصور في العام 1922 في دراسة علمية تناولت ثلاثة مواقع أموية. في تلك السنة، أصدر العالم الكبير سالومون راينش، موسوعة كبيرة خاصة بفن التصوير اليوناني والروماني، وحوت هذه الموسوعة رسوماً بالخط لبعض من جداريات قصير عمرة تعتمد على اللوحات التي أنجزها ألفونس ميليخ.

في المقام الأوّل، بدت جداريات القصير الأموي، بالنسبة الى الدارسين، وكأنها آخر تجلٍّ لفنون التصوير في العالم الإسلامي الناشئ، وهذا ما فسّر إدراجها في موسوعة التصوير اليوناني والروماني التي ضمت 2720 رسماً تخطيطياً. حضرت رسوم القصير الأموي في هذه الموسوعة كأنها الشهادة الأخيرة لتقليد راسخ في المشرق قضى عليه الإسلام المُعادي للصور، ورسّخت هذا الاعتقاد طبيعة الصور التي تزيّن القصير، ومنها صور تمثل عاريات وعراة في وضعيات مختلفة. أسقطت الاكتشافات الأثرية اللاحقة هذه المقولة، وكشف المنقّبون عن شواهد أموية أخرى في مبان مدنية مهجورة في سوريا وفلسطين والأردن، إلا أن هذه الاكتشافات بقيت معدودة، قياساً إلى حجم مجموع جداريات قصير عمرة.

أثارت هذه الجداريات اهتمام البحّاثة في الغرب، إلا أنها بقيت مهملة ومنسية في موطنها. على مدى عقود من الزمن، ظل القصير الأموي استراحة يلجأ إليها الرعاة من بدو الأردن، واسودّت جدارياته بفعل النيران التي كانت توقد فيه، وهو ما أدى إلى تآكل أجزاء من الصور وتلفها. بعد 70 عاماً على اكتشاف قصير عمرة، كلّفت دائرة الآثار الأردنية فريقاً اسبانياً بمهمة تدعيم البناء وتنظيف الجداريات المسودّة، وترأس فريق المصورين والمرممين والمهندسين، العالِم مارتن ألماغرو. قامت هذه البعثة بثلاث حملات بين 1971 و1974، وأصدرت في العام 1975 كتاباً يتناول بناء قصير عمرة، يضم 59 صورة لجدارياتها التقطت بعد أعمال الترميم، ترافقها شروح مقتضبة. أعاد هذا الكتاب الاعتبار إلى قصير عمرة، وساهم في التعريف به بشكل واسع.

في العام 1985، أُدرج القصير الأموي في قائمة مواقع التراث العالمي التي تعدّها الأونيسكو، وساهم ذلك في إرساء شهرة الحمّام الأموي المليء بالصور. في العام 1989، عُهد إلى "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى" مهمة توثيق رسوم القصير، وكُلّف الدكتور كلود فيبر بهذا العمل الشاق، فبدأ بتنفيذه العام 1989 وأنجزه في العام 1996. استغل الفريق الفرنسي العامل، هذه الفرصة، لمحو بعض ما أُضيف من خطوط وألوان في السبعينات، وتبعت هذه المهمة في العام 2002 طبعة جديدة للكتاب الإسباني الذي صدر في السبعينات ضمّ إضافات خاصة بوضع الموقع ورسومه بعد "إعادة" ترميمها.

لم تسمح ظروف العمل الصعبة، لألوييس موزيل وألفونس ميليخ، بتوثيق كامل يشمل كل جداريات المنتجع الأموي، والغريب أن هذه المهمة ظلّت مؤجلة عقوداً طويلة من الزمن، رغم صدور كثير من الدراسات تناولت أجزاء محددة من هذا البرنامج الإيقونوغرافي الكبير. لم يحقق الكتاب الإسباني في طبعتيه هذا الغرض كما يبدو، واقتصر على عرض عام مع تقديم مختصر بالإنكليزية والفرنسية والألمانية، إضافة إلى خاتمة موجزة بالعربية.

في العام 2017، أصدر "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى" بمشاركة "دائرة الآثار" في الأردن مجلّداً من الحجم الكبير بعنوان "رسومات قصير عمرة، حمّام أموي في البادية الأردنية". حمل هذا المجلّد تواقيع كلود فيبر وغازي بيشة وفريديريك إمبر، وجاء على شكل كشف توثيقي شامل لكل الرسوم الجدارية التي تزيّن هذا الحمّام الأثري. رصد هذا المجلد مجمل البرنامج التصويري، وقدّم صورة توثيقية دقيقة لمواضيعه المتعددة التي عجز البحاثة عن تحديد جلي للرابط الذي يجمعها. تواصلت رحلة استكشاف قصير عمرة بعد هذا الإصدار في 2010، حيث باشر فريق إيطالي من "المعهد العالي للحفظ والترميم" العمل في الموقع بالتعاون مع مديرية الآثار الأردنية، وأدى هذا العمل إلى ترميم نحو 100 متر مربع من مساحة الجداريات التي تبلغ 380 متراً مربعاًكما أشرنا. كشف هذا الترميم عن أجزاء جديدة من الجداريات، كما كشف عن كتابة تحمل اسم صاحب المجمّع، وحسم بذلك الجدل القائم حول هويّة مالك القصير، وبات من المؤكد أن المبنى يعود إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الذي كان يستخدمه عندما كان ولياً للعهد في زمن خلافة هشام بن عبد الملك.

يجمع قصير عمرة بين حمّام كبير مؤلف من ثلاث غرف، ومجلس مكوّن من ثلاثة إيوانات معقودة. يحضر اسم صاحب البناء في كتابة كوفية خطّت في ثلاثة أسطر فوق نافذة في أعلى واجهة الرواق الأيمن. تآكلت هذه الكتابة مع الزمن للأسف، ولم تسلم منها إلا الكلمات الأولى: "اللهم أصلح الوليد بن يزيد". تحت النافذة، يحضر صاحب القصير كما يبدو في مشهد جماعي يحتل القسم الأوسط من هذا الجدار، وقد ظهرت ملامح هذه اللوحة بشكل جلي بعد أعمال الترميم الحديثة العهد. يظهر بطل الصورة في صدر التأليف، ممدداً فوق ديوان طويل، مادّاً يمناه نحو الأعلى. تحوطه من جهة، جارية ترفع مروحة، ومن الجهة المقابلة رجل ملتح يعتمر خوذة ويحمل في يده عصا. ويحضر عند طرف الديوان شابان أمردان يجلس كل منهما أرضاً على أريكة. يحلّ هذا المشهد الجماعي تحت ظل ستارة تمتد في الأعلى وتنسدل على شكل خيمة. في القسم الأسفل، تحت هذه الصورة الجماعية، توجد لوحة تحمل كتابة أخرى بالخط الكوفي على ثلاثة أسطر. تآكلت هذه الكتابة كحال الكتابة التي تعلو النافذة، وبقي منها مطلعها: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله (...) الله".

يُعرف الرواق الأوسط بـ"قاعة العرش"، وفيه تظهر أحدى أشهر صور قصير عمرة، وتمثّل رجلاً ملتحياً يجلس مستويا على عرش مرصّع، تحت قبّة تقوم على عمودين بتاجين، وذلك وفقاً للمثال الايقونوغرافي الروماني الامبراطوري الذي ورثه التصوير المسيحي الأول. يحوط الملك شخصان ينطويان على ملامح أنثوية جعلهما الرسام أصغر حجماً، مما يشير إلى علوّ رتبة الشخصية الرئيسية التي تحتل الوسط، وتؤكد هذه الرتبة السامية الهالة التي تحيط برأسه. يرفع الشخص الواقف يميناً ذراعه في اتجاه الملك المستوي على عرشه، بينما يظهر الثاني في وضعية مشابهة، ممسكاً بيديه قضيباً تعلوه مروحة. تأخذ هذه الجدارية دلالتها الخاصة مع الكتابة العربية المدونة على قوس قبّة العرش. صحيح أن ما بقي من هذه الكتابة لا يسمح بقراءتها كاملة بشكل جليّ، إلا أنه يشير إلى تضمّنها كما يبدو دعاء بالعافية والرحمة للولي الجالس على العرش: اللهـ(م) أ(غفر) لولي (عـ)هد المسلمين والمـ(سلـ)مات (...) وعافية من الله ورحمة (...).

في الرواق الثالث، فوق النافذة التي تعلو الجدار المواجه، نقع على كتابة كوفية رابعة باتت مقروءة جزئياً بفضل أعمال الترميم الأخيرة، ونصّها: "اللهم بارك على الأمير كما باركت على داوود وإبراهيم وآل ملته (...) أعطية (...)". ويتضح في الخلاصة أن هذه الكتابات العربية تسمّي صاحب البناء بـ"الوليد بن يزيد"، وتصفه بـ"الأمير" وبـ"ولي عهد المسلمين والمسلمات"، وليس بالخليفة، مما يُرجّح أنه شيّد هذا المجمع أثناء ولايته للعهد، في فترة زمن خلافة عمّه الملك هشام بن عبد الملك، التي استمرت من 724 إلى 743.

تسلّم الوليد بن يزيد مقاليد الخلافة بعد رحيل عمّه، وعُرف في التاريخ بالعديد من الألقاب كالفاتك والبيطار وخليع بني مروان، وكانت مدة خلافته سنة واحدة وبضعة أشهر، إذ قُتل وهو ابن 36 عامًا على أيدي أبناء عمه وأعوانهم. نقل الإمام شمس الدين الذهبي طائفة من أخباره في "تاريخ الإسلام"، وقال في الختام: "ولم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة. نعم اشتهر بالخمر والتلوط، فخرجوا عليه لذلك".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها