الأحد 2019/01/20

آخر تحديث: 10:34 (بيروت)

"المعرض العام" في مصر.. خريطة الأحزان والقهر

الأحد 2019/01/20
"المعرض العام" في مصر.. خريطة الأحزان والقهر
ريمون واصف
increase حجم الخط decrease
 
يأتي "المعرض العام" للفنون التشكيلية في دورته الأربعين المنعقدة على مدار يناير/كانون الثاني الجاري في متحف الفن المصري الحديث بالقاهرة حاملًا في جُملة معطياته مؤشرين سلبيين، يبدوان الأبرز والأعمق في فضاء تجلياته.

المؤشر الأول هو "المؤشر الفني"، وهو قصير المدى، إذ لا يتخطى حدود الحركة التشكيلية كمشهد جمالي وتقني متجمِّد. والثاني هو "المؤشر المجتمعي"، وهو بعيد الأمد، حيث يختص بحركة البلاد برمّتها والمشهد الحياتي الراهن، في ظل واقع مأزوم وإدارة متحجرة وتحكمات سلطوية نافذة.

الإحباط والتراجع والتكلس والدوران حول الذات المتشرنقة، عناوين قليلة من بين منظومة مسمّيات عريضة يمكن إطلاقها على المؤشرين معًا؛ الفني والمجتمعي. من الوجهة الفنية، فإن المعرض العام يفتح قوسين واسعين تندرج بينهما قائمة مشكلات وعراقيل نجم عنها هذا التذبذب في المستوى والأداء والطرح لدى نخبة التشكيليين بمصر.

في الوقت ذاته، فإن الأعمال القليلة المتفوقة والنابهة فنيًّا في المعرض تنكأ جراحًا مجتمعية أكثر قسوة، فهي مفتوحة ببساطة على خريطة الأحزان والقهر في هذا البلد المتعطش إلى الخبز والدفء والحرية.

هما مؤشران أحلاهما مُرٌّ، فالمعرض القومي العام الذي يتضمن إبداعات قرابة 300 تشكيلي من فوق سن الثلاثين عامًا (وفق شروط المعرض) من ذوي المشاركات الخاصة والجماعية والدولية في مجالات التصوير والتصوير الجداري والتصوير الضوئي والخزف والنحت والرسم والغرافيك وفنون الميديا "فيديو آرت" والكمبيوتر غرافيك والتجهيز في الفراغ والبيرفورمانس والفنون الفطرية، جاءت نسبة غير هينة من أعماله سابحة في فلك النمطية واجترار تجارب الرواد والسابقين واستيحاء الموروث البصري والنتاج الإنساني بفجاجة المدرسيين وجفاف الأكاديميين والمقولبين.

أمور أخرى تتعلق بالمؤشر الفني، منها كثرة الغياب عن المعرض والاعتذارات والانسحابات من جانب الفنانين المرموقين أصحاب الأسماء اللامعة، لأسباب مختلفة، ومنع اللجنة العليا للمعرض بعض الفنانين المتميزين من المشاركة، اعتراضًا على أعمالهم الطليعية ورؤاهم المخالفة للسائد والمألوف، على الرغم من أنهم فنانون متحققون محليًّا ودوليًّا، مع أن شروط المعرض تنص صراحة على الحرية التامة للفنان في الأفكار والأطروحات، وفي استخدام الخامات والوسائل التقنية الملائمة.

من هؤلاء الفنانين، الذين جرى منعهم من المشاركة، التشكيلي جلال جمعة، صاحب الأسلوب الفريد في "التكوينات الزلطية"، القائمة على دمج الحديد والأسلاك والأحجار والزلط والأخشاب وغيرها، وهو صاحب رؤية فلسفية في التعاطي مع الخامات البيئية، ويبدو أن لجنة المعرض قد خلطت بين دورها في اختيار الفنانين وفق ضوابط ومعايير مجردة، وبين سلطة تقييم الأعمال وإبداء وجهة نظر فيها، وهذه السلطة ليست من صلاحياتها أصلًا.

من المشكلات والعقبات الأخرى، التي أثّرت على المستوى الفني والأدائي والإجرائي، التنظيم السيئ في هذه الدورة المكدّسة، التي انعقدت بشكل طارئ في طابقين من طوابق "متحف الفن الحديث"، بدلًا من "قصر الفنون" بدار الأوبرا المصرية كالمعتاد، وذلك بسبب أعمال التحديث والإصلاحات في السقف الزجاجي بالقصر.

بالرغم من هذا الانحدار النسبي في فنيات المعرض وجمالياته وتقنياته هذا العام، قياسًا بالدورات السابقة، فإنه لا يزال بنظر مسؤولي وزارة الثقافة الحدث التشكيلي الأبرز والأكثر أهمية بمصر، وفي هذا التصور قدر من المنطق، ولو على الصعيد الكمّي بوجود هذا الحجم من المشاركات المتنوعة، فضلًا عن زخم المعرض كملتقى يتسع لفعاليات متعددة في إطار "البرنامج الثقافي الموازي"، منها المحاضرات والندوات حول "الأصالة والمعاصرة"، و"عصر الصورة وواقع الحركة التشكيلية"، و"فن الفوتوغرافيا بين المحلية والعالمية"، وغيرها من الأنشطة.

هكذا، فإن المعرض، في وصف الوزيرة إيناس عبد الدايم هو "محفل تلاقي الأجيال ومنصة إلقاء الضوء على الظواهر التشكيلية المصرية المتفردة، الثرية، المتنوعة الاتجاهات"، وهو بتعبير خالد سرور رئيس "قطاع الفنون التشكيلية" (الجهة المنظمة للمعرض) مساحة خصبة لإبراز "الموقع المتقدم للتشكيل المصري على الساحتين؛ المحلية والعالمية"، فيما يعتبره الفنان طه القرني، القوميسير العام، إطلالة على "الرؤية المستقبلية للفن التشكيلي في مصر".

أما المؤشر الثاني "المجتمعي" للمعرض العام، فإنه يبدو أكثر مرارة وضراوة، حيث تعكس الأعمال الأصيلة المتميزة في المعرض، على ندرتها، وجه مصر الحالية كخريطة للحزن والقهر وافتقاد الحرية والبسمة وعناصر الحياة الكريمة، ومن عوامل نبوغ أصحاب هذه الأعمال من الفنانين المتمردين، قدرتهم على التخييل والإبهار في سائر الاتجاهات، والتعبير الجريء عن المأساة المحدقة، بعيون حديدية صادمة، وألوان وخامات صريحة، وبغير مواربة.
من هذه المعروضات، التي تعرّي حقائق كثيرة يتعامى عنها الكثيرون، ما صوّره الفنان يوسف محمود (نحت) من نموذج أنثوي لامرأة تضع يدها على خدها من الحسرة، وعلى وجهها ترتسم أبجدية الأسى، بما يحيل إلى هيئة الوطن "الأم المكلومة".

وتقيّد الفنانة ليلى عبد الرحمن (تصوير ضوئي) يدي فتاتها بحبال غليظة، فيما تتحدى العينان والشفتان الأسر والقهر والسواد رانية صوب مستقبل مجهول. وترتدي فتاة نجوان مجدي (تصوير ضوئي) السواد مطلقة صيحة الهلاك المدوية. وتتحول الوجوه الآدمية إلى أقنعة وجماجم ورؤوس حيوانات في عمل الفنان إبراهيم حنيطر (رسم)، وكأنما الميادين غابات للوحوش ومقابر جماعية للأحياء.

وبعيون الفنان جوزيف الدويري (تصوير)، فإن الضوضاء والعشوائية تستعمران الطريق وتحتلان الحواس، فعربات الكارو بجانب المركبات العامة والدراجات وسيارات الإسعاف، وفي الاتجاه العكسي يحمل المارة نعش الميت ويمضون به إلى مثواه الأخير، وإلى جوارهم كلب ضال يطارد شخصًا. وفي عمل أحمد شبيطة (تصوير ضوئي)، يكتسي وجه المرأة، والفراغ من خلفها، بأبجدية التمييز والظلم: "مكانك في البيت".

وتستخدم رانيا علام (كمبيوتر غرافيك) الحروف والزخارف العربية والأشكال الهندسية من أجل صيغة عصرية للألم والسجن داخل دوائر مغلقة ودوامات من الخوف، ويعبّر السيد عبده سليم (نحت) عن السلام الأبيض والحرب السوداء بتمثالين لامرأتين مقطوعتي الرأسين، ويجعل للصاروخ المعدّ للانطلاق الكلمة العليا.


وتتشح النساء بالسواد في عمل محمود منيسي (تصوير)، متجهات إلى أفق غائم. وتحط حمامة عابرة فوق رأس امرأة الفنانة أحلام فكري (تصوير)، مجسدة أحلامها المبتورة في طيران لا يكتمل. ويقطع إيهاب الأسيوطي (نحت) رؤوس حماماته وطيوره كلية في عمله المركّب، ويفرّغ عبد الحي طلعت (خزف) رأس طائره من محتواه.

وفي مجسّمات الفنانة سماء يحيى (نحت)، فإن الحاضر السيئ يبدو منفيًّا إلى غير رجعة، والحياة الحقيقية مرهونة بالمُهْمَل والقديم والبالي في قبضة الماضي الحاكم المتسلط، وتستعدي الفنانة الموروث الشعبي الأصيل بصياغات مبتكرة خاصة متعددة الحقول والخامات، وتستحضر الأشجار المحتفظة بالقيم الغائبة في الوقت الحالي، ومعها مناجل الحصاد.

وفي عمل ريمون واصف (تصوير جداري) لا مخرج من حائط الحاضر الكابوسي إلا من خلال نافذة ضيقة، مفتوحة على الوهم والسراب. وتلتقي المرأة والشجرة لدى أسماء الدسوقي (رسم) في التبدد والامّحاء، فمع تساقط أوراق الشجرة، يأتي خريف المرأة بذبول أعضائها وضمور ملامحها الغضة.

ومن نافذة تتعمد القوى المتسلطة إغلاقها بضراوة، تطل فتاة الفنان صبري أبو عجيلة (تصوير ضوئي)، بعينين تحتفظان بالأمل الباهت. وتتشرنق الذات حول نفسها في عمل نهاد خضر (تصوير جداري)، معذّبة بالانكواء. ويتخلى الجسد عن أطرافه عند مروة رضوان (خزف)، فهو لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم.

وتأتي القرية صمّاء من الجفاء والجفاف والبرودة وغياب الدفء العائلي لدى الفنان مراد عزيز (خزف). وتتماهى الأحلام الملونة المتبقية، ورقصات الأشباح في عالم الفنان أحمد رجب صقر (خزف).

"المعرض العام"، أعمال قليلة ناضجة، بمثابة الإبر المضيئة وسط تلال من القش، وبقدر ما غزلتْ هذه الإبرُ حالاتٍ فنيةً واعيةً، بقدر ما جرحت وأدمت قلوبًا ترجو للوطن السلامة والنجاة من وعثائه وعثراته. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها