الجمعة 2019/01/18

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

معرض القاهرة للكتاب: الرحلة الطويلة

الجمعة 2019/01/18
معرض القاهرة للكتاب: الرحلة الطويلة
مجدداً.. المعرض الذي سيفتتح خلال أيام، أصبح، في انتقاله ومنطق إدارته، مرآة لما يحدث خارجه
increase حجم الخط decrease
"الفضاءات والمساحات الكبيرة التي ميزت معرض الكتاب في مدينة نصر، جعلته يتحول إلى رحلة، وأظن أنه خلال السنوات الأخيرة، حافظ على كونه رحلة، فالأولاد والبنات يتحابون ويغنون ويرقصون تحت مظلة المعرض، فتتحول إلى طقس". 

في تقرير نشره موقع "بوابة الأهرام" المصرية، الأربعاء، بمناسبة اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة للكتاب، يلتقط الشاعر عبد المنعم رمضان واحدة من أوجه المعرض العديدة، وطبيعته شبه الطقوسية. فالانتقال الأول إلى المعرض في العام 1983 من أرض الجزيرة - موقع الأوبرا المصرية الحالي في وسط القاهرة، إلى أطراف المدينة الشرقية في مدينة نصر، كان قد حول زيارة المعرض إلى رحلة، عبر طريق طويل يتطلبه العبور إلى المنطقة التي تتقاسم أحياءها السكنية مع الضباط متوسطي الرتب والمهنيين العائدين من الخليج. 

كان الانتقال إلى الموقع الجديد مدفوعاً بأغراض عملية. فالمعرض، الذي تضاعف عدد رواده والمشاركون فيه، يحتاج مساحة أكبر. وإذ عارض رمضان، كغيره من المثقفين، ذلك الانتقال، فإن المسافة، والرحلة التي تطلبتها بالترام في معظم الأحيان، والشعور الخفيف بعدم الألفة في المنطقة التي تتوزع في أرجائها المؤسسات العسكرية المسورة شاسعة المساحة، كان قد أضاف إلى طقوسية الحدث السنوي، وتحوله إلى "ذكريات سعيدة" أضحت جزءاً رئيساً وحميماً من تاريخ العاصمة وسكانها. وربما تفسر تلك الحميمية جزءاً من الغضب الذي أبداه البعض تجاه نقل المعرض هذا العام، إلى منطقة التجمع الخامس، الأبعد من وسط المدينة، والتي معها ستتحول الرحلة إلى سَفَر.

لكن رمضان يتكلم عن الرحلة بأكثر من معنى للكلمة. فخلال السنوات الأخيرة، أضحى المعرض مكاناً وموعداً لنزهة للكثيرين. وبين حضور الأفلام والعروض المسرحية والغنائية، وأحياناً المحاضرات الدينية والتسوق، أو مجرد اللقاء لوجبة خفيفة رخيصة أو للتمشية، اكتسبت المناسبة زخماً كافياً لاعتبارها مهرجاناً، بالمعنى الشعبي للكلمة. فبأربعمئمة ألف زائر يومياً، وأربعة ملايين من الزوار إجمالاً، لا يعد معرض القاهرة واحداً من أكبر معارض العالم للكتاب فحسب، بل الحدث الجماهيري الأضخم الذي تشهده القاهرة بشكل دوري، منذ عقود خمسة.

في العام 1969، وبعد عام ونيف فقط على النكسة، افتُتح معرض القاهرة للكتاب احتفالاً بالذكرى الألفية لتأسيس القاهرة، والتي تزامنت أيضاً مع اليوبيل الذهبي لثورة 1919 التي كللت المحاولة اليائسة للتغلب على مهانة الهزيمة بالنجاح، وقرر للمعرض أن يكون حدثاً دورياً. تحقق دور النشر المصرية، إجمالاً، نصف مبيعاتها السنوية للجمهور، في أيام المعرض، بالإضافة للمبيعات بين الناشرين. ومع أهمية معرض القاهرة الجوهرية في حركة النشر وسوق الثقافة في مصر، فإن الدوافع السياسية لانطلاقته، ظلت تلاحقه دورة بعد أخرى، لتكون ساحاته مرآة للمعارك خارجه، وعاملاً حاسماً في تشكيلها أيضاً.

افتتح حسني مبارك المعرض بنفسه، للمرة الأولى، العام 1983، ليغدو طقساً سنوياً للقاء لفيف من المثقفين والكتّاب في افتتاح كل دورة. كان المعرض واحداً من أهم أدوات تدجين الثقافة التي اتبعها مبارك خلال عقود حكمه الثلاثة. فبالإضافة إلى تصويره كرئيس قريب من النخب الثقافية وقادر على الانصات، كان شرف الدعوة للقاء الرئيس أو الحديث في فعاليات المعرض، أداة للفرز والعقاب والمكافأة، وإنتاج نخبة رسمية بختم الاعتراف الحكومي. لعبت ندوات المعرض دورها كساحة للتنفيس، فهي كانت المكان العام الوحيد، المسموح فيه بانتقاد النظام أمام جمهور حي، وبمباركة رسمية. لكن الأجهزة الأمنية لطالما لعبت دوراً في التحكم في ذلك النقد وحدوده. فعلى سبيل المثال، وُضع اسم محمد حسنين هيكل في اللائحة السوداء، بعد نقده مبارك في إحدى ندوات المعرض العام 1995، ولم تتم دعوته بعدها إلى أي من دوراته اللاحقة. وقبل ذلك بعامين، أُوقف طالب قبطي للتحقيق معه، بعد مواجهة بينه وبين وزير الداخلية حينها، عبد الحليم موسى، حول معضلة بناء الكنائس، في إحدى الندوات.

استدعت أزمة المشاركة الإسرائيلية في دورتي 1981 و1985، تدخلاً من الإدارة الأميركية، ليصبح المعرض بنداً رئيسياً في الاجندة الدبلوماسية للولايات المتحدة وإسرائيل في مصر. وكان للمظاهرات التي شهدها المعرض، والمواجهات مع الأمن وانسحاب الناشرين بسبب تلك المشاركة، أن تجعل منه، في فترة الثمانينات، الساحة الرئيسية لمعارضة اتفاقية السلام ورفض التطبيع. وفي العقد اللاحق، ومع تغير محددات الصراع السياسي، أضحت ارض المعارض ساحة للمعركة الأخيرة بين النخبة العلمانية والإسلاميين. ففي العام 1990، انتهت مناظرة علنية شارك فيها الكاتب فرج فودة في المعرض، باغتياله لاحقاً. وتبع تلك الجريمة المروعة، المزيد من التدخلات الأمنية لمنع ومصادرة مطبوعات لم ترض المؤسسات الدينية أو جماعات الإسلام السياسي. وفي افتتاح دورة 2001، أعرب مبارك عن غضبه من بيانات المثقفين بخصوص تلك الممارسات، نافياً تهمة "الرقابة"، ودعا المثقفين لمراعاة الآداب العامة وتقاليد المجتمع.

وكان إقرار مبارك شبه الرسمي هذا، بهزيمة النخبة العلمانية ووقوف الدولة ضد مثقفيها، مجرد تحصيل حاصل. ففي نهاية دورة 1998، كان قد أُعلن أن أكثر الكتب مبيعاً في المعرض هي الكتب الإسلامية، وبعدها بسنتين كان الظهور الأول للدعاة الجدد في أرض المعارض، بدعوة عمرو خالد إلى إحدى ندوات معرض الكتاب، وهي الدعوة التي تكررت لاحقاً.

خلال العقد الأخير من حكم مبارك، تغيرت نوعية المواجهات داخل قاعات المعرض. ففي العام 2002، قرر النظام أن يكون الظهور الرسمي الأول لجمال مبارك، الوريث المرتقب، في معرض الكتاب. ولم يكن مفاجئاً، أن تصل معارضة مشروع التوريث إلى المعرض نفسه. ففي دورة 2005، اعتقلت الأجهزة الأمنية عدداً من الأشخاص بتهمة رفع شعارات حركة "كفاية" الصفراء، وشهد افتتاح الدورة نفسها مواجهة، سجلتها الكاميرات، بين مبارك  والدكتور محمد السيد سعيد، عضو الحركة. وفي يناير 2011، كان اندلاع الثورة سبباً في إلغاء فاعليات المعرض، ليتزامن سقوط مبارك مع تعطيل المعرض للمرة الأولى، في رمزية مدهشة وغير مقصودة بالطبع.

كسر عبدالفتاح السيسي القاعدة التي كرسها مبارك، وغاب عن افتتاح المعرض في دوراته السابقة. ويبدو الانتقال الأخير للمعرض إلى التجمع الخامس، تجميداً مؤقتاً لساحاته كمكان لمهرجان شعبي. احتفى العديد من الناشرين بالتنظيم الجديد، والإدارة الأكثر احترافية، والقاعات الأوسع والأفضل تجهيزاً للمعرض الذي سيفتح أبوابه بعد أيام قليلة. ربما سيكون الموقع الجديد أفضل لصناعة النشر، ولخبرة أكثر امتاعاً وأقل إجهاداً لرواده.. وربما لا. لكن الأكيد هو أن المعرض مرة أخرى، في انتقاله ومنطق إدارته، يضحي مرآة لما يحدث خارجه، وصورة مصغرة لصراعات المجتمع ومنطق السياسة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها