الأربعاء 2019/01/16

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

"عودة إلى رانس": السوسيولوجي ومغني الراب.. صوتان متساويان

الأربعاء 2019/01/16
"عودة إلى رانس": السوسيولوجي ومغني الراب.. صوتان متساويان
الحوار لا يتشعب.. لكنه يستحضر "السترات الصفر"
increase حجم الخط decrease
ثمة وضعان أساسيان لمشاهدة مسرحية الألماني توماس اوسترماير، التي استند في تأليفها إلى كتاب الفيلسوف والسيوسيولوغ الخلاق ديدييه إيريبون، "عودة إلى رانس"، والتي حملت عنوانه (مسرح المدينة، باريس). 

الوضع الأول، ألا يكون المشاهد قد قرأ الكتاب من قبل، وعندها، يتابع المسرحية لكي يقرأه، أو بالأحرى ليقرأه ويسمعه، وعندها، وعلى الأغلب، سينجذب اليه عبرها. الوضع الثاني، أن يكون المشاهد قد قرأ الكتاب مسبقاً، ومعه، كتاب آخر، بعنوان "عودات على عودة إلى رانس"، أصدره إيريبون العام 2011، ليستكمل النقاش الذي أثاره كتابه يوم نشره في العام 2009. 

بين قوسين، وللأسف، إيريبون غير معروف عربياً سوى بذلك الكتاب الذي احتوى مقابلته مع الانتروبولوجي، أو الأنّاس بحسب حسن قبيسي، كلود ليفي استروس، وأحياناً، بالبيوغرافيا التي سجل فيها قصة حياة ميشال فوكو. أما باقي كتبه القيمة، لا سيما التي تدور حول المثلية الجنسية، والاجتماع، واليسار، فلا أثر لها طبعاً. إغلاق القوسين.
 
إذاً، في الوضع الثاني، وضع قراءة "عودة إلى رانس"، يدخل المشاهد إلى المسرحية، ويجد أنها دبلجة للكتاب، أي أنها ليست تحويلاً درامياً له، أو لبعض وقائعه، وليست وضعاً له، أو لخلاصته، على خشبة. إنما هي بمثابة عرض بصري له، عرض مكون من جزئين يرتفعان فوق بعضهما البعض: فوق، شاشة تعرض شريطاً وثائقياً صوّره اوسترماير مع إيريبون في رانس. وتحت، استديو، يجلس فيه الممثلان، البلجيكي سيدريك ايكهوت، الفرنكوسينغالي بلاد مك ألمباي، وفي مواجهتهما، طاولة، تجلس خلفها الممثلة الفرنكوسويسرية ايرين جاكوب.

الأدوار: ايكهوت هو مخرج الوثائقي عن ايريبون في رانس، يسجل الصوت المرافق للشريط في استديو ألمباي، وذلك، بمساعدة ومعية جاكوب التي تقرأ مقاطع من الكتاب المذكور آنفاً.
كل المسرحية هي عرض لهذا الكتاب، تصوير وتصويت له، بحيث أن الكاميرا، وتماماً كصوت جاكوب، تأخذ المشاهد إلى رانس، الذي عاد إليها إيريبون مع موت والده، وذلك، بعد أن هجرها في عمر العشرين إلى باريس، محدثاً قطيعته مع عائلته وطبقته ومجتمعه عموماً.

في رانس، يلتقي إيريبون أمه، كما يسير قليلاً حول منزلها، وطوال ذلك، يرافقه صوت جاكوب التي تتكلم بلسانه السردي عن القمع، والعمال، والعار الذي يشعر به المنتسبون إلى طبقات متدنية في حين تغييرهم لمحيطهم، بالإضافة إلى انقلاب منطقته من الشيوعية إلى اليمين المتطرف نتيجة انهيار اليسار الفرنسي.

تأدية الممثلين دقيقة، وربما، ساعدهم في ذلك أن الحوار بينهم ليس متشعباً البتة، لكنه يدور حول علاقة الوثائقي بالنص. فكيف من الممكن جعل المعنيَين متطابقين من ناحية الوقع، من دون إقحام أي تناقض أو مفارقة بينهما؟ كيف من الممكن استعمال المونتاج ليكون مصاحباً للسرد وليس ملخبطاً لتأريخه؟ استفهامات لا يمكن القول أنها مبتكرة، بل إن طريقة طرحها حوارياً كانت مقتضبة وبسيطة.

فجأة، يتوقف الوثائقي، وتنطفئ الشاشة، لتصير خشبة المسرحية من دونها، وهذا، قبل أن تغدو خشبة غناء. إذ إن ألمباي ليس ممثلاً فحسب، بل إنه مؤلف وراقص، بالإضافة إلى كونه مغني راب أيضاً. يقف على الخشبة، ويُسمع ايكهوت أغنيته وهي سياق أغنياته الأخرى التي يتناول فيها العنصرية ضد السود في فرنسا. تبدو أغنية ألمباي، أو أغنياته تحديداً - ما دام سيعود ويقدم غيرها، وحينها، لن يتوقف الجمهور عن التصفيق - تبدو أنها تواصل نص إيريبون، لا بل انها تكاد تقوله بطريقة حماسية اكثر.
 

لقد "مَنتَجت" صورة الوثائقي، وبعيداً من تصوير إيريبون فيها السرد، لا سيما عندما تضعه على علاقة مع تظاهرات "السترات الصفر" اليوم. كما أن صوت جاكوب جعل السرد متلائماً مع المسمع، الذي سرعان ما يحمل على الانخراط فيه. أما مَغنى ألمباي، فقد قال كل السرد، وقال كل معناه على إيقاع هو إيقاع عالم المقموعين، الذين ولد إيريبون فيه، وليس هو فقط، بل ألمباي ايضاً. ففي نهاية المسرحية، يروي قصة جده الذي أتى من السنغال إلى مرسيليا حين كانت الدولة الفرنسية تحتاج إلى متطوعين في الجيش.

ربما، أهم ما في استدعاء اوسترماير للراب إلى المسرح، بعد سرد مكتوب بنبرة المثقف الباريسي الذي يعود إلى مسقط رأسه، هو أنه استدعاء للمساواة بين هذه النبرة وذلك المغنى، بين المثقف والمغني. إذ إنهما يسجلان، كل بحسب فنه ولغته، مقالب القمع نفسه، وفي الوقت نفسه، يواجهانه.

تصح الإشارة إلى نص إيريبون قد طغى على مسرحية أوسترماير، التي، حتى لو أضافت إلى سرده صورة وصوتاً ومغنىً، تبقى دبلجة له. فوضع مشاهدتها الأول، أي من دون الإطلاع على الكتاب، يرادف وضع مشاهدتها الثاني، أي مع الاطلاع عليه. وهذا، من ناحية كونهما سبيلاً إلى قراءة "عودة إلى رانس"، أو إعادة قراءته من جديد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها