الثلاثاء 2019/01/01

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

مريم في "الكتاب الإسلامي".. نبيّة؟

الثلاثاء 2019/01/01
increase حجم الخط decrease
وجدت قصة مولد النبي عيسى ترجمتها التشكيلية عبر مجموعة كبيرة من المنمنمات الإسلامية. تعود أقدم هذه المنمنمات إلى مخطوطات "قصص الأنبياء" المزوقة التي أنجزت بين القرن السادس عشر والقرن السبع عشر، وفيها يحضر الطفل إلى جانب أمه وسط روضة مزهرة تختزل جمالية فن التصوير الإسلامي في هذه الحقبة الذهبية.


في أوائل أيام العباسيين، عهد الخليفة أبو جعفر المنصور إلى محمد ابن إسحاق بتربية ابنه المهدي، وقال له: "اذهب فصنّف له كتاباً منذ خلق اللّه آدم عليه السلام إلى يومنا هذا". وضع ابن إسحاق الكتاب وأسماه "المبتدأ والمبعث والمغازي"، وجمع في القسم الأول منه قصص آدم وما كان بعده من أخبار الأنبياء والرسل على ترتيب ذكرهم في التوراة، وخصّص القسم الثاني لسيرة النبي من المولد حتى السنة الأولى للهجرة، وأكمل هذه السيرة النبوية في القسم الثالث من كتابه.

شكّل "المبتدأ في قصص الأنبياء" بداية لسلسلة من المصنفات التي جمعها كبار المؤرخين من العرب والعجم والترك على مدى قرون من الزمن، ووجدت هذه الروايات ترجمتها التشكيلية في مجموعة كبيرة من المنمنمات الإسلامية يعود أقدمها إلى مطلع القرن الرابع عشر. تحوّل رسم "قصص الأنبياء" إلى تقليد في القرن السادس عشر، وبلغ القمة الفنية في زمن الصفويين والعثمانيين، كما تشهد المخطوطات المزوقة المحفوظة في كبرى المكتبات العالمية.

في القسم الأكبر من هذه المخطوطات، يحضر المسيح طفلا مع أمه مريم تحت عنوان "مجلس في مولد عيسى" في منمنمات تتميّز بطابعها الإسلامي الخالص. تتكرّر صورة مريم وهي تجلس أرضاً، حاملة بين ذراعيها طفلها، في تأليف تشكيلي يتبنى قواعد الرسم والتلوين المتّبعة في فن الكتاب الإسلامي. تحضر قصة مولد عيسى استثنائيا في نسخة من "القصص" محفوظة في مكتبة "شاستير بيتي" في دابلن في إيرلند، وفيها تظهر مريم منتصبة على قدميها وهي تهز نخلة نصف أغصانها عارٍ ونصفها الآخر مورق. ويظهر في القسم الأسفل من الصورة نهر ينبثق عند قدم جذع النخلة تحديداً، وقد تأكسد لونه الفضي وأضحى أسود بفعل مرور الزمن..

بحسب الرواية القرآنية، فاجأ ألم المخاض مريم في الصحراء، وكانت بالقرب من نخلة يابسة، فبكت من ألمها وتمسكت بالنخلة، فناداها صوت من تحتها، وقال لها: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا" (مريم 25). وأجرى الله ماءً متدفقاً من الأرض تحت قدمها لكي تشرب. استعاد الثعالبي هذه القصة في "عرائس المجالس"، وأضاف: "أجرى الله لها نهراً من ماء عذب بارد إذا شربت منه، وفاتر إذا استعملته". ونقل عن ابن عباس قوله: "ضرب عيسى، وقيل جبريل عليه السلام، برجله الأرض، فظهر الماء، وحييت تلك النخلة بعد يبسها، فتدلّت غصونها وأورقت وأثمرت وأرطبت".

في منمنمة أخرى تعود إلى مخطوط من محفوظات "سراي توبكابي" في إسطنبول، تحضر مريم مع طفلها وسط جمع من يتألف عدة أشخاص، ويظهر في وسط الصورة نبي تحوط برأسه هالة ذهبية، وهو زكريا. وفقا للرواية الإسلامية، حُملت مريم عند ولادتها إلى الأحبار من أبناء هرون، وتكفّل بها زكريا الذي كان رأسهم ونبيهم، وبنى لها محرابا. بعد حملها وولادتها،عادت مريم بعد تمام اربعينها، ودخلت على اهلها ومعها الصبي، فبكوا وحزنوا لما فعلت وشرعوا في مساءلتها، فأشارت الى عيسى ليكلموه، فغضبوا وقالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، و"أتاها زكريا عليه السلام عند مناظرتها اليهود، وقال لعيسى انطق بحجتك إن كنت أمرت بها". فردّ الطفل وهو ابن اربعين يوما، وقال:"إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا" (مريم 30-32).

في نسخة أخرى من "قصص الأنبياء" مصدرها أصفهان، وهي من محفوظات المكتبة الوطنية الفرنسية، تتكرّر صورة البتول وهي تجلس مع ابنها على صخرة تحت النخلة المثمرة على ضفاف النهر، وفقا للتقليد المتبع في تصوير هذا المجلس. في الجزء الأعلى من المنمنمة، نرى رجلاً ملتحياً يحدّق من خلف الصخور في البتول وولدها. للوهلة الأولى، يخال الناظر أنه يوسف النجار، إلا أن مقارنة الصورة بالمنمنمات الخاصة بقصص الأنبياء تُظهر بأن هذا الرجل يشغل المكان الخاص بإبليس. وفقاً لرواية الثعلبي، حاول الشيطان أن يدرك عيسى من الأعلى فلم يقوَ على ذلك، وسعى إلى الوصول إليه من تحت الأرض، "فإذا أقدام الملائكة راسية"، فذهب إلى أصحابه وقال لهم: "ما اشتملَت قبله رحم أنثى على ولد إلا بعلمي، ولا وضعته إلا وأنا حاضرها، وإني لأرجو أن يضل به أكثر ممن يهتدي به، وما كان نبي أشد عليّ وعليكم من هذا المولود".

في هذه المنمنمة، خصّ المصوّر مريم بهالة نارية أسوة بابنها وبسائر الأنبياء الذين ظهروا في منمنمات هذا المخطوط، بينما حرمها رسّام نسخة مكتبة شاتر بيتي من هذه العلامة. وعند مراجعة سائر المنمنمات التي تصور مريم مع طفلها، نلاحظ بأن مريم تحضر تارة مع هالة النبوة، وتارة من دونها. تذكّر هذه الثنائية بمسألة "تلقي مريم الوحي من الله" التي شغلت كبار المفسرين، فقبلها البعض، ورفضها القسم الأكبر منهم. دافع القرطبي عن نبوة مريم، ورأى أن "ظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله عز وجل بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء، فهي إذاً نبيّة، والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء: الأولين والآخرين مطلقا. ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية". في المقابل، أكّد ابن كثير بـ"أن النبوة مختصة بالرجال وليس في النساء نبية"، ورأى أن مريم قد تكون "أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها، والله أعلم".

في حقل "فن الكتاب" الإسلامي الشاسع، نقع على صور أخرى تصور عيسى الطفل مع مريم البتول في مخطوطات كتاب آخر حمل عنوان "فالنامه"، وهو كتاب في استطلاع قراءة الطالع والفال يُنسب للإمام جعفر الصادق، راج في أوساط الإيرانية والتركية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. تشكل هذه الصور امتدادا لتلك التي تزين "قصص الأنبياء"، وتماثلها في صياغتها التشكيلية بشكل جلي. في المقابل، نقع على منمنمات مغايرة تماما تعود إلى الحقبة نفسها، ومصدرها الهند حيث اتبع المصورون أسلوبا مختلفا في الرسم والتلوين.

بحسب أهل الاختصاص، دخلت المواضيع المسيحية الغربية عالم المنمنمات الإسلامية في عهد سلطان الهند جلال الدين أكبر، وتحولت إلى نماذج ثابتة يتناقلها الرسامون من جيل إلى جيل، مما ساهم في شيوعها وانتشارها بشكل واسع في جنوب آسيا. تحتلّ صورة العذراء والطفل يسوع مركز الصدارة في هذا الحقل، وتبرز في نماذج عدة أبرزها تلك التي تنقل وقائع الميلاد. تتنوّع هذه النماذج وتتبدّل، فمنها ما هو مقتبس بشكل مباشر عن رسوم طباعية حملها المبشرون من أوروبا إلى الهند، ومنها ما أعاد الرسامون المحليون صياغته في حلل مبتكرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها