وعلى عكس الأيام الاندماجية الثلاثة السابقة، حيث توافرت الترجمة، لا سيما للمجموعة التايلاندية، فلا مترجمين في هذا اليوم. كما أعيد تشكيل المجموعة، لتنضم إلينا ثلّة من بنغلادش، وأخرى من المغرب، من مصر والجزائر وفيتنام والسنغال وغيرها، نِصفُهم تقريباً لا يمتلك من الفرنسية إلا نزراً محدوداً، أو أنه يجهلها تماماً. وهذا ما جعل مدربنا "باسكال"، الرجل الخمسيني صغير البنية، رياضي الجسد و"شبابلك" المحيا، يخاطب بعض أفراد مجموعته السياحية هذه بتؤدة، معتمداً التكرار وتقطيع الكلام. وفي مقابله، تجمّدت وجوه كثيرة، أو ارتسمت فيها تلك الابتسامات البريئة من أي فهم، إلى حين تطوّع أحدهم للترجمة ووَصل ذات البَين. رجال ونساء، في عمر الشباب أو الكهولة، يبدون، في جلستهم تلك على مقاعد "الدراسة"، وفي حيرتهم التي يستقبلون بها تلك العبارات الفرنسية كما يستقبل الغربالُ الماءَ، ككائنات مولودة لتوها. وقد يفكر المرء: اللغة.. هرمون النمو الذي لم يفِه علماء الأحياء حقّه.
في النهاية، وبعد مقدّمات وتعليمات، انطلقنا إلى منطقة مونمارتر، حيث ساحة الرسامين، ودرَج الفنانين الطويل، وبازيليك "ساكريه كور" (القلب المقدس).
عايشة المغربية تعيش في باريس منذ 17 عاماً، تزور المكان للمرة الأولى. و"آييشة"، كما ناداها باسكال تيمناً بأغنية الشاب خالد الشهيرة، وصفَة للمرح والتفاؤل، تبرّعت برفع مظلتها الضخمة التي اصطحبتها عبثاً في يوم بدأ غائماً وتطور إلى دافئ ومشمس، لتكون راية المجموعة فلا يضيع أحد أو يشتّ. لكن لماذا ما زالت تطلب بطاقة الإقامة بعد كل هذه السنوات، ولم تحظ بالجنسية الفرنسية؟ "الأوراق"، تقول الأم لفتى مراهق لا يتحدث العربية "لكنه يفهمها" كما تسارع للتأكيد. لم تمتلك الأوراق "المضبوطة" إلا قبل سنوات قليلة، وكل سنة تزداد الإجرءات تعقيداً، بحسبها.
صديقتها السنغالية أيضاً هنا منذ 15 عاماً، في باريس تزوجت وأنجبت أولادها الثلاثة وما زالت ربة منزل، ولم تنل الجنسية بعد. تعارفتا هنا، في "أيام الاندماج". وعايشة جَدَعة، ظلت "تنق" على باسكال لانتظار وصول صديقتها المتأخرة في المواصلات، حتى أنقذتها من احتمال ألا تنال "الإفادة الرسمية"، وبلاتالي إعادة الأيام الأربعة كلها من البداية! فللتعاضد هنا مفهوم مختلف. البقاء همّ مشترك، المشقّة المُفَكَّر دوماً في تخفيفها. والبيروقراطية والإجراءات الرسمية، عمل فعليّ، تكراره مرهق.
أمام البازيليك، شرح باسكال قصة "أقفال الحب"، تلك التي يحفر فيها العشاق أسماءهم وقلوباً ورموزاً، ليعلقوها في السياج المحيط بـ"القلب المقدس". حتى أربعة أعوام مضت، كانت وِجهة أصحابها "جسر الفنون" الباريسي الشهير، لكن ثقل علّاقات الأحبة المعدنية، المتزايد، هدد الجسر بالانهيار. ففُكّت كلها، ومُنع تعليقها هناك. لكن، يقول باسكال، وكي لا يُكسر فأل المحبين، لم تُرمَ أقفال "جسر الفنون"، بل صُنع منها تجهيز فني، وانتقل العشاق وأقفالهم إلى مونمارتر... "فباريس مدينة الرومانسية".. نطقها باسكال كخلاصة أولى وأساس لجولتنا الثقافية الاندماجية.
لكن هانية المغربية، لم تبدُ كثيرة الاهتمام بالبُعد الغرامي لباريس، فانشغلت بالتقاط الصور. فالصبية العشرينية "تقنية المطبخ"، كما تصف نفسها فيما تصلح هندامها الأقرب إلى ما يرتديه الفتيان الرياضيون، غرامُها كرة القدم. هي في باريس منذ عامين تقريباً، وهذه زيارتها الأولى للمنطقة السياحية الأشهر في باريس. فعطلاتها تقضيها في إسبانيا لمتابعة مباريات "ريال مدريد". باريس مدخلها إلى مدريد، لا إلى فرنسا، وهو، بالمناسبة، أمر ليس نادر المصادفة في هذه مدينة تقدّم نفسها نبضاً لأوروبا. أما الكهل المغربي الذي لم أتبيّن اسمه، فابتسم لأخبار الحب وأقفاله، وإن كانت ابتسامته من النوع الذي نساير به مَن يخبر نكتة متوسطة القدرة على الإضحاك. لكنه، لما دخلنا البازيليك وجلنا فيه، بدا منزعجاً: لماذا ندخل كنائسهم وهم لا يدخلون مساجدنا؟ وعبثاً حاولت أن أذكّره بأنهم (أي الأوروبيين) يدخلون الجامع الأموي في دمشق مثلاً، ومسجد السلطان أحمد في اسطنبول، للفرجة، كما نفعل نحن هنا. لكنه أصرّ: لا، لا، لا يدخلون. ولم يعجبه حديث كانت قد انخرطت فيه إيمان الجزائرية مع جارتها في المجموعة، عن أن العبادة أمر فردي وشخصي، والمُسلم الذي لا يصوم رمضان مثلاً، لا أحد يحق له اعتبار إسلامه ناقصاً. فصفن قليلاً في الصبية المتخصصة في المعلوماتية، ثم استدار مبتعداً بصمت.
وأكملت قافلتنا مسيرتها السلحفاتية عبر ساحة الرسامين Place de Tertre. بدا باسكال أكثر شغفاً في حديثه عن فنان بعينه يقصّ البورتريه/البروفيل الخاص بك بالمقص، بدلاً من رسمه. الرسامون العاديون نالوا منه مديحاً أقل. لكن الشاب البنغالي السائر بجانبي بدا مهتماً بواحد من الرسامين، فاقترب مني هامساً بالانكليزية وهو يشير إلى الرجل الستيني ذي الشعر الأبيض الطويل والمنهمك برسم امرأة ضخمة البُنية جلست قبالته: "تنين!"، قال البنغالي واضعاً سبابته على شفتيه ليفهمني ألا أُفسد تركيز الفنان، قبل أن ينفجر ضاحكاً، وأضحكتني ضحكته وفرحه بتلك "القفشة". فهنا، الخيال جواد بَرّي بلا لجام، في هذا المكان الباريسي الساحر، وفي هذا اليوم الذي جعلته مجموعتنا الاندماجية فسيفسائي الحلّة، ورفيقنا البنغالي رأى تنيناً وضحك.. فليكُن.
ووصلنا إلى بيت داليدا. دليدا الأشهر، ربما، من برج إيفل، بدا أن نصف أفراد مجموعتنا لا يعرفها. نيكي، الفتاة الإفريقية التي صبغت شعرها أشقر بلاتينياً، وعبّرت مراراً عن استعجالها انتهاء "الزيارة الثقافية" لتركض إلى المتجر حيث تعمل بدوام مسائي، لم تفهم: لماذا انتحرت؟ حاول باسكال أن يشرح لها تأثير انتحار اثنين من عشاقها. وحكت لها إيمان ما يشاع عن أنها أرادت الموت وهي في قمة جمالها وفنها، بدلاً من خوض دمامة الشيخوخة. لكن نيكي لم تقتنع، وتمتمت بما معناه: "حمقاء!" فزعل باسكال: ألستِ مغرمة يا نيكي؟ سألها، وهزت رأسها نافية، فهز رأسه بدوره كمَن فهم أخيراً مفتاح أحجية صعبة. أما ما لم تفهمه هانية، مشجعة "ريال مدريد"، أمام تمثال نصفي لداليدا وسط ساحة صغيرة باسمها، فهو: هذه التي تقولون عنها جميلة الجميلات؟
في هذه الأثناء، كانت إيمان تحكي كيف أنها زارت إيطاليا، وأغرمت بفلورنسا أكثر من روما، لكنها رفضت زيارة البندقية لأنها مدينة "لا تُزار إلا مع حبيب!". إيمان التي وصلت إلى باريس، منذ أشهر، للعمل، وانغمست في ترتيب شؤون عيشها، لم ترَ من مدينة باسكال، بأقفال أفئدتها ومنازل فنانيها شهداء الغرام، إلا الركض خلف مهام متراكمة. وهذا أيضاً من معلَم من معالم المدينة... للمقيمين.
وعند زاوية الطريق، فكّت نشوة المصرية، وزميلتها الفيتنامية، رباط ذراعيهما اللتين كانتا مشبوكتين طوال النزهة التي استمرت أكثر من ساعتين، لشراء البوظة. وكل منهما لا تتحدث إلا لغتها. وكل منهما صامتة منذ بداية اليوم. كأنهما كانتا تسيران نائمتين، وتفاهمتا، حُلُمياً، على اتكائهما، كل على الأخرى، كصغيرتين انطوائيتين في ركب عائلة ضاجّة.
وكانت نهاية المطاف الاندماجي في ساحة ريكتوس، أمام "حائط أحبك"، حيث كُتبت العبارة الكَونية ألف مرة، على ذمة باسكال، وعلى ذمته أيضاً بألف لغة. لكنك سترصد، بالعربية، "أحبك" و"نحبك" و"نبقيك"... أي بشتى لهجات المغرب والمشرق العربيين، أكثر من ست مرات. هذه ساحة كلنا يزورها للمرة الأولى، وهذا ما بدا مفرحاً لباسكال كولومبوس. وعند هذا البرهان الدامغ على أطروحته عن مدينة الرومانسية، وعلى زاوية الساحة المخضوضرة الصغيرة، تسلمنا "الإفادات" التي تمهر تخرّجنا جميعاً بنجاح من دورة الاندماج في باريس التي لا بد أنها، هي أيضاً، تندمج بنا وفينا.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها