الأحد 2018/09/09

آخر تحديث: 11:47 (بيروت)

"مدينة" أليساندرو باريكو... عملاقة مثل نيويورك

الأحد 2018/09/09
"مدينة" أليساندرو باريكو... عملاقة مثل نيويورك
يمتحن أليساندرو باريكو نقيضي اللهفة في الكائن المفرد: الصمت والصخب
increase حجم الخط decrease
صدرت عن منشورات المتوسط في ميلانو الترجمة العربية، التي أنجزها ببراعة كاصد محمد، لرواية "مدينة" لأليساندرو باريكو. الرواية، في نصها الأصلي، باللغة الإيطالية، تحمل عنوان "مدينة"، هكذا من دون أل التعريف أو حتى أداة النكرة. أكثر من هذا أنه، أي العنوان، مدون بالإنكليزية city بدلاً من الإيطالية Cita. 

يذكرنا هذا بالرواية الأولى لباريكو، "حرير". هناك أيضاً كان العنوان مجرداً. لم يكن ثمة أل التعريف أو أداة النكرة. كأن الأمر يتعلق برغبة في استحضار المسمى في بعده الوجودي الواسع بعيداً من أي تحديد أو تعريف.

هذا الملمح التجريدي في العنوان يشكل قاسماً مشتركاً بين الروايتين. لكنه القاسم الوحيد في واقع الحال. فرواية "مدينة" هي كتاب الصخب بامتياز. إنها تجسيد لرغبة المؤلف في تحرير الصخب من عقاله وتحويله إلى حياة قائمة بذاتها، ذات حركة ونبض وإيقاع، بالعكس من  "حرير" التي هي رواية الصمت، بوصفه الغلالة السرية التي تحيط بالحياة.

وإذا كان الصخب يرتبط، بالضرورة، بالحشد والضجيج والحركة، فإن الصمت يسود حيث القلة والسكون والهدوء. الصخب خاصية مدينية والصمت سمة ريفية.

أي شيء يضمر الصمت أكثر من الحرير؟ وأية مدينة تجبل بالصخب أكثر من نيويورك؟

تجري أحداث "حرير" في جزيرة متروكة لنفسها، في نهاية العالم، ينشغل أهلها بأرقّ وأغلى مهنة: تربية دود القز وصنع الحرير الطبيعي. كأنما العلاقة المنسوجة بين الحرير والصمت هي ذاتها العلاقة التي تقوم بين الرقة والبذخ.

البذخ، ههنا، ينطوي، في أحد أبعاده، على السكون. فأن تكون باذخاً، مرهفاً، رقيقاً يعني أن تكون، في الوقت ذاته، صامتاً، سرياً.

العامل الفرنسي هرفيه جونكور، الذي يعيش في قرية صغيرة، هادئة، في الجنوب الفرنسي، يستحصل رزقه من تربية دود القز. ينشأ عمله في اللحظة التي يلتقي فيها النظر واللمس. ليس الحرير سوى قناع لروح تستقر في قاع الصمت.

يستمد هرفيه جونكور أسباب الحياة من رحلات طويلة، صامتة، يقوم بها وحيداً، تقوده إلى نهاية العالم، اليابان.

الرحلات تشده إلى منبع العيش. لكن، أيضاً، إلى شغف خفي بشيء مجهول: الحب أو الموت أو الضياع أو الهروب إلى الغامض. هو شغف بشيء لم يختبر قط.

الفتاة التي تجلس في حضرة المعلم هاراكي، تاجر الحرير الياباني، تمثل ذلك الشغف.
فتاة وحيدة، رقيقة، صامتة، لا اسم لها، لا صوت. فقط تعابير صامتة تختزن معاني جيّاشة تتسرب في طقوس ملونة مدفونة في طيات الحرير.

الطبيعة الهاربة للحرير، الذي لا يمكن الإمساك به فينفلت من بين الأصابع، هي قرينة اللحظة التي لا يمكن رصدها والحديث عنها بالكلام. الحرير يشبه الهواء. تختفي الألوان حالما تلمس الأيدي قطعة الحرير الملونة.

مرة واحدة تهمس الفتاة لهرفيه بكلام غامض، وتنظر إليه من طرف عينها فيكون، ذلك نذيراً بخراب كل شيء. يأتي الحريق ويأتي على كل شيء في طريقه.

أما في رواية "مدينة"، فإن أليساندرو باريكو، يذهب إلى الطرف الآخر من العالم بعيداً عن غموض اليابان وسحر طقوسها ورقة حريرها. هو يذهب إلى وقاحة نيويورك وشساعة حضورها وصخب حركتها.


تشبه الرواية، في بنيانها، المدينة من حيث غموضها، وتشابك عوالمها وتنافر مفرداتها وتناقض أقطابها. في الرواية تتجاور وقائع يكاد لا يربطها رابط، وتسير كل واقعة في اتجاه يروح يشتط ويبتعد عن مساره الأولي، فكأنه اتجاه الزوغان والضلال. هناك الفتاة الثرثارة شاتزي شل التي تريد أن تصير مؤلفة سيناريو لسينما الوسترن فتكتب ثلاث حكايات من طراز أفلام كلينت إيستوود. وهناك البروفسور موندريان كيلروي الذي يقضي الوقت كله وهو يشرح حركة لاعبي كرة القدم متخيلاً مباراة بين فريقين تستمر إلى الأبد. وإلى جانب ذلك يلتقي ملاكمان في حلبة الملاكمة في مباريات، تستنزف قواهما من دون أن يؤثر ذلك في عنادهما ورغبتهما في مواصلة المعركة.

يهيئ أليساندرو باريكو لكل نص دفقاً سردياً يلائم مناخ الوقائع التي تتألف لتشكل كيان الرواية.

"حرير" واحدة من الكلاسيكيات الحديثة ذات البناء الواقعي - الرومانسي. إنها تذكرنا بالسمفونية الرعوية لاندريه جيد، مثلاً. يخيم على الصفحات القليلة من الرواية جوّ آسر من الإنهماك العاطفي، يسير كجدول عذب في هدوء ثقيل. الشخصيات قليلة في الرواية. باستثناء هرفيه والفتاة الصامتة، هناك حضور قليل للآخرين، وهو، اي هذا الحضور، يتم من خلالهما، أي من خلال هرفيه والفتاة، وهي بذلك تتحاور، منفصلة عن بعضها بعضاً، في مونولوجات مهذبة من دون إثارة درامية للإنفعال. كل شيء يمضي بطيئاً ويندثر تماماً مثلما يمضي دود القز في مسيرته، ومثلما ينساب الحرير على الجسد ويلامسه برقة تكاد لا تحس.

أما "مدينة" فهي رواية ما بعد حداثية، تعلن عن ذاتها منذ أول صفحة. ثمة حوار شبه سريالي بين فتاة تعمل في شركة تعلن عن مسابقة غريبة، وفتى في الثالثة عشرة من عمره يعد عبقرياً يتفوق بذكائه، وخبثه، على ذاته، والآخرين معاً. وثمة أشخاص وأفعال ووقائع وأمكنة وأزمنة تتلاقى وتتصادم في معمعة صاخبة.

تتصادم آليات السرد كلها هنا: الحوار والوصف الإنشاء والتقطيع والترقيع والمقال والشعر والحكاية داخل الحكاية واللقطات العابرة للفنون جميعاً من رسم وموسيقى ورقص وغير ذلك.

في الروايتين يمتحن أليساندرو باريكو نقيضي اللهفة في الكائن المفرد: الصمت والصخب. هو يحاول اختبار الكتابة في استخراج مكنونها للإحاطة بالحالين معاً. أن تحكي عن الصمت بالكلام. أن تفصح عن الصخب بالكتابة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها