السبت 2018/09/08

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

"غُروب" لازلو نمش: بودابست عشية الحرب..والأسئلة تتجاوز الإجابات

السبت 2018/09/08
"غُروب" لازلو نمش: بودابست عشية الحرب..والأسئلة تتجاوز الإجابات
"غروب" يجمع التاريخ بالغموض بالفن والسحر
increase حجم الخط decrease
عندما ترتقي السينما، عندما لا تكتفي بأن تكون ملجأ أو مهرباً أو حيزاً للترفيه. عندما تسمو لتكون حلم يقظة ينقلنا إلى عالم آخر بعيد، عالم بطبائعه المختلفة.. في هذه الفسحة نجد بلا شك سينما المخرج الهنغاري لازلو نمش. "غروب"، هو فيلمه الطويل الثاني، بعد تألّق فيلمه الأول "ابن شاوول". من مهرجان البندقية السينمائي، يأخذ المخرج بأيدينا إلى بودابست التي تقف الحرب العالمية الأولى على أعتابها، هي المرحلة الانتقالية من عاصمة رائعة وحياة صاخبة إلى الانهيار.

نحن في الإمبراطورية النمساوية - المجرية العام 1913، قبيل بداية الصراع. ملامح الحياة واضحة، أعمدة الإنارة الكهربائية، الترام الأول على السكة بجوار عربات الخيل. تعود إيريس (جولي جاكاب) إلى مسقط رأسها للمرة الأولى منذ رحيلها إلى فيينا، بعد حريق أودى بحياة والديها وقضى على متجر القبعات المرموق الذي بنته عائلتها. تعود لتحاول العمل في المتجر الذي بني من جديد وحافظ على العلامة التجارية واسم العائلة. المالك الجديد، أوسكار بريل (فلاد إيفانوف)، يرفض رفضاً قاطعاً ومريباً، بل ويحاول وضعها على أول قطار للعودة.

لم يرحّب مسقط رأسها بها، بل استُقبلت بعدائية غامضة من الجميع وتكررت على مسامعها جملة "ماذا تفعلين هنا؟ يجب ان ترحلي". ترفض ايريس العودة، تصرّ على البحث، على معرفة إجابات عن شقيقها الذي حُبكت حول اختفائه القصص، وتصرّ على تقصي أسباب المناخ العدائي المبهم المحيط بها. من هنا تبدأ رحلتها الكابوسية.

إيريس تصرّ على سلوك هذا الدرب الغامض. تمشي كثيراً، تسأل، تغضب، تبحث عن تفسيرات، تهرب، تُفاجأ، تركض، تنتظر، ثم تعود للمشي والركض من جديد. هي تتخبط في هذه البيئة العدائية. بات هذا المسار المشوش محور حياتها، تواصل الركض خلف الحقيقة، السعي وراء شخص ما، ثمّ لا تلبث أن تختبئ أو تهرب. يلحق نمش الفتاة، يغوص عبر قصّتها في خصوصيات المجتمع، فيدخل متاهة تحث المُشاهد على طرح اسئلة كبيرة، بينما لا يمنحه إلا إجابات صغيرة. الجُمل تتقطع فجأة، ما يحدث أكبر من الإجابة.


العنف، الاغتصاب، القتل، النيران. هي الفوضى التي تحكم فتخرّب كلّ ما يقف في طريقها، وايريس تقف وسط دوامة الفوضى. نرى الشابة محاصرة، أصوات تهمس لها بعبارات غاضبة، وأيدٍ تتقاذفها. فيلم نمش يرمينا في حقبة تاريخية قلّةٌ تحدّثت عنها، عن الحركات التي سبقت شرارة الحرب العالمية الأولى. تتسع التجربة السينمائية الفريدة من نوعها، لتصبح كابوساً نادراً تحت عدسة المخرج الهنغاري الذي يتقن تمرير الارتباك والشك في كل المشاهد بسلاسة فائقة. انّه عمل ملعون، يُخرج التناقض الذي فينا، فنترتعد ونفتتن في الوقت نفسه. إنّه فيلم ينقل، في جو سينمائي هيبتونيزي، توترات شعب ينتظر سيناريو أسود، وينتظر إلقاءه بين فكَّي حرب شعواء.

مشهدية "غروب" مثل الأحلام او الكوابيس: كلّ ما فيها غير واضح، بينما نشعر أننا مشاهدون، ثمّ أننا في قلب الأحداث في الوقت عينه. حالة من الجمود تعترينا مع التحولات الشخصية لإيريس في بحثها عن شقيقها وعن نفسها، يساورنا شعور سيء إزاء السر الرهيب الذي يأبى التكشّف. تنقطع الأنفاس مع توالي الأحداث ولا نستردها إلا في النهاية، لكنها نهاية غير شافية، فهي تخلط الأوراق لنستيقظ مع الإدراك الكامل بأننا لا ندرك تماماً.

نادراً ما يبعد نمش الكاميرا عن وجه إيريس البارد والحازم. وعندما يفعل، يذهب إلى المَشاهد طويلة التي يستعيد عبرها بودابست المجنونة والمخيفة، فيخلق تتالياً دائرياً وجهنمياً من المَشاهد التي تبقى غير واضحة أو مفهومة. يتقن المخرج تضييعنا وترك الأحداث تائهة، حتى طريقة تقديم الفيلم وتوليف السيناريو تسير في الاتجاه التائه ذاته. هناك عدم يقين يحيط بالأحداث. كيف وصلت إيريس الى هنا؟
بقصة صانعة القبعات والغموض المحيط بها، بمشاهد طويلة تارة وملتصقة بوجه ايريس تارةً أخرى، بحوارات متقطعة، بموسيقى تصنعها جوقة من همسات مزعجة ومربكة وصيحات تخرج من كل الاتجاهات وترفض المغادرة، يكون "غروب" تجربة شاملة عنيفة لا تُنسى وتبقى ضبابية عمداً. يرفض نمش الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها.. في كل سؤال من إيريس تتأخر الإجابة، يهرب الشخص، لا يعطي الإجابة الشافية، يخاف من الإجابة أو يستهين بها. فهي بالنسبة اليهم امرأة مبرمجة على طاعة أوامر الرجال.
"غروب" يجمع التاريخ بالغموض بالفن والسحر، هو الحالة المثلى التي تميّز السينما، بل إنّه التجلّي الأسمى لما لا يمكن قوله أو التعبير عنه أو تخيّله أو إيصاله إلّا عبر السينما. مرة أخرى، يروي نمش رعب عالمنا، يجعل كل شيء يبدو مذهلاً ومثيراً للقلق، رعب مع جمال وترف وأناقة التصاميم الداخلية وقبعات الرأس والأزياء الجميلة والألوان الناعمة. رعب كامن أيضاً في شوارع المدينة الجميلة، هذه المدينة التي يتخذها خلفية مثالية لرحلة مليئة بالتناقضات بين الضوء والعتمة والسلام والحرب والظلال والوجوه. هذا فيلمٌ تجدر مشاهدته، مرة واثنتين وثلاث، عندها سنتمكن من إزالة بعض الإبهام والتقاط الكثير من الإشارات التي مرت من دون ملاحظة. انّه عمل متقن منذ الثانية الأولى، وحتى الأخيرة. نحن مشاهدون نتابع السيناريو الغامض، ثمّ نحن رفاق درب إيريس في رحلتها، نشاركها الضياع. لا نسبقها ولا تسبقنا، لكننا نفترق حاملين التساؤلات ذاتها.

(*) عُرض في مهرجان فينيسيا السينمائي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها