الخميس 2018/09/06

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

"ديسكوتيك نانا"... ترفيه الحرب

الخميس 2018/09/06
increase حجم الخط decrease
بين "هشك بشك" و"بار فاروق" و"ديسكوتيك نانا"، ثمة استحضار للنوستالجيا التي ينصِّبها هشام جابر كعنصر أول وأساس بنيت لأجله كل عناصر هذه العروض. لا فذلكة ولا أحداث. في نهاية الأمر، هذا النوع من العروض ينتمي الى مسرح المنوعات والكاباريه الذي يجمع بين المسرح والترفيه والرقص والأغاني، والذي يحتم وجود فضاء حميمي مرن يجمع بين المأكل والمشرب والأحاديث الجانبية، وهذا ما هو عليه فضاء "مترو المدينة".

تزامن نشوء عروض وفضاءات الكاباريه مع اندلاع الحروب أو بعدها: أتت عروض الكاباريه في فرنسا، على سبيل المثال، كرد فعل عى الإستعراضات الصاخبة والمنوعة خلال الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، بدأ الجمهور يتوجه الى الصالات الصغيرة التي قد تقتصر أحياناً على مغنٍ أو فنان واحد. وهي غالباً ما تتميز بالهجاء السياسي والنقد اللاذع، ككاباريهات مونمارتر في الخمسينيات. وفي ألمانيا، كانت الكاباريهات الأكثر شعبية خلال الحربين العالميتين، وقد كانت هذه الفضاءات حاضنة لأسماء ذاع صيتها لاحقاً، مثل مارلين ديترش وغيرها.

وان كان "مترو المدينة" قد تأسس العام 2012، أي بعد عام ونيف على اندلاع الثورات في العالم العربي، من دون أن تتضح قوة الرابط معها، فإن هذا الفضاء شكل ظاهرة لناحية العلاقة المختلفة التي بناها مع جماهير متنوعة ومغايرة عن سائر المسارح والفضاءات الثقافية في لبنان: إذ يبني "مترو المدينة" فكرة فضائه على فقدان الهوية الوظيفية، لصالح هوية بصرية أخاذة. أي أن هذا الفضاء ليس مخصصاً لنمطٍ معين من العروض، إنما هو فضاء مفتوح على المدينة بمختلف هوياتها ومنتجاتها الثقافية... ما يجمع فعلاً هو خفة هذا المكان وسعة ترحابه وحميميته، بالإضافة الى تصميم بصري قادر على الإستقطاب. سمح هذا الأمر ببناء جمهور من خلفيات متنوعة، ووفيّ لما يقترحه "مترو المدينة" من عروض ينتجها أو أخرى يتم تقديمها بمعيته. خلق هذا الأمر نوعاً من التلاقح بين جماهير من اهتمامات مختلفة، اذ ليس مستغرباً في "المترو" أن يشاهد جمهور الراب حفلة "انت فين والحب فين" لعبد الكريم الشعار، والعكس صحيح. وباعتماده برمجة خلاقة، وسياسة تسويق ذكية، نجح "مترو المدينة" في بناء رابط قوي مع جمهوره يعتمد على شباك التذاكر.  
ربما لذلك، يشكل كل عرضٍ ينتجه "مترو المدينة" تحديداً، رهاناً جديداً على تمتين هذا الرابط والحفاظ عليه.

إذا ما عدنا إلى العروض المذكورة أعلاه، تنحو الأخيرة لصالح تقديم أغانٍ علقت في الذاكرة حيث تظهر المدينة أو المكان، من خلال بعض الإيحاءات وعناصر السينوغرافيا، كخلفية  خصبة لزمن الأغاني. يلعب هشام جابر، المدير الفني وكاتب ومخرج العروض الثلاثة الواردة أعلاه، على عناصر محددة وثابتة: يراهن دائماً على الذاكرة الجماعية التي تنبثق من خيارات أغان أخذت نصيبها من الإحتفاء الشعبي الجماهيري في ما مضى. يبني قالباً بصرياً يتمتع بالبهرجة والإبهار في الحركة والأزياء، مستعيناً بالكيتش. يعود الى الفيديو كعنصر يضفي جمالية الى المشهدية، ويضيف بُعداً في بعض الأحيان، يلجأ الى اختزال حس الفكاهة في أداء كاريكاتوري ساخر يمتزج بـ"تسطيحٍ" مفتعل. 
 


هذا "التسطيح" ليس سلبياً بالضرورة، اذ يشكل عنصر مفاجأة غير متوقع لدى المشاهد، وعنصر المفاجأة يصبح في حد ذاته باعثاً على الضحك، إذا ما اقترن مع عناصر أخرى. في عرض "ديسكوتيك نانا" مثلاً، يشرح "الملحن العبقري إلهام الناشف" (بول سعدو) مناهل إبداعه الموسيقي، قائلاً إنه يستعين بـ"الطبلية" وهي "مصنوعة من خشب الليمون". كذلك تخضع تسمية الشخصيات، وتفسير التسميات أحياناً، الى منطق التسطيح ذاته بحيث نجد شخصية الناقد بإسم "الأخطل الوسط" (خالد صبيح)، والفنان يحمل اسم "جميل جمل الجامل" (ايلي رزق الله). وما يجمعهما هو البرنامج التلفزيوني للمذيعة "نانا" (ياسمينا فايد). لمدة ساعة ونصف الساعة، يستحضر "ديسكوتيك نانا" أغاني من الفترة بين العامين 1982 و1989. وهذان تاريخان، وفق هشام جابر، يشيران إلى الإجتياح الإسرائيلي (1982) وما تبعه من أحداث الحرب الأهلية، حتى العام 1989 حيث وُقّع اتفاق الطائف. حضرت الحرب في خلفية العرض الذي قدّم مشهدية ساخرة للبرامج التلفزيونية الترفيهية آنذاك، مع التركيز على أغاني تلك المرحلة، واستحضار طريف جداً لإعلانات تلك المرحلة المؤججة للعاطفة، باستحضار دعايات وجُمل علقت في الذاكرة مثل "شو بطاريتك... رايوفاك"، ودعاية "بيف باف".

حضر الفيديو بشكل أساس، كمادة نقيضة للمشهدية الساخرة، إذ عاد بالمُشاهد الى أرشيف الحرب الأهلية، والى مَشاهد ممثّلة عن محاربين ومواطنين يعطون آراءهم بضيوف حلقة "ديسكوتيك نانا". السخرية في أداء الممثلين ضمن مشاهد الفيديو، تحيل الى شعور عبثي لا راحة فيه ولا استسلام مطلقاً لضحك كان مسيطراً منذ برهة.

ورغم من متعة الإستماع الى أغاني حقبة الثمانينات، ورغم وجود شخصيات ديناميكية في العرض، كشخصية "سهام" (كوزيت شديد)، الفنانة المتزوجة من مقاول والتي تنتهز الفرص دائماً للتسويق لخدمات وشركات زوجها الجديدة، الا أنه كان هناك شيء ناقص في "ديسكوتيك نانا": كما لو أن العرض أصبحت عناصره متوقعة من دون أن يضاف ما يفاجئ أو يدهش المُشاهد. فطنة هشام جابر في اللعب على عناصر نصه، مستعيناً بكودات من الذاكرة الشعبية لمعيوش الحرب الأهلية، كانت تحتاج إلى مزيد من التكثيف في المواقف، تحديداً في ما يتعلق بالنصف الثاني من العرض.

(*) تألفت الفرقة الموسيقية من: فرح قدور، ضياء حمزة، أحمد الخطيب، مكرم أبو الحسن. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها