الأحد 2018/09/30

آخر تحديث: 09:21 (بيروت)

عندما تتردد الصحف في موتها القديم

الأحد 2018/09/30
عندما تتردد الصحف في موتها القديم
موت الصحافة الورقية(عن الانترنت)
increase حجم الخط decrease
ثمة أمر يتكرر دائماً في وصول كل صحيفة من الصحف اللبنانية الآفلة إلى حتفها، وهو أن هذه الصحيفة تبدو في لحظة نهايتها مترددة في نهايتها نفسها. فمرةً، تعلن أنها ستتوقف، ومرةً، تعلن أنها مستمرة، من ناحية، تطلق طقس توديعها، ومن ناحية ثانية، تشدد على مواصلتها، بالتالي، لا تحسم في موتها، تتأرجح بينه وبين نفيه. لكن، هذا التردد لا يحتفظ به القيمون عليها، لا يعالجونه في مكاتبهم، ثم، وحين يرسون على قرار محدد، يحملونه كخبر إلى موظفيها. على العكس، يبثون التردد ذاته بين هؤلاء، فلا يعلمون، هم الذين أمضوا جل أعمارهم فيها، إن كانت ستغلق أبوابها أم لا، ونتيجة ذلك، يصيبهم نوع من الإرتباك، الذي لا شك في قسوته.

قد يكون من السانح رد أمر الصحف هذا إلى أنها لا تسرع في إذاعة خاتمة رحلتها لأنها، في أثناء تأجيلها لها، تنتظر إسعافها من منقذ ما، كما أنها لا تسرع في إذاعتها لكي لا تجعل موظفيها على بينة مسبقة أو مضارعة منها، الوضع الذي يخولها الإلتفاف على حقوقهم. سانح هذا القول فعلاً، لكن، أمر الصحف إياه يقع قبل انتظارها أو احتيالها، وهو، حين يجرها إلى الفعلين، فلأنه يتفاقم ويبتلعها. فقبل أن تترقب طرفا من الأطراف لكي يخلصها، وقبل أن تخدع موظفيها، لا تستطيع القطع في موتها، الذي، وحين يحدث، لا تدري ماذا تفعل.

وضع الصحف هذا حيال حدوث موتها ليس عارضا، بل إنه من تشكيلها، فلما يقع، ولا تستوي على حسم فيه، هذا يعني أنه يكشف عن كون التردد لطالما سكنها، أو بالأحرى لطالما سكنت فيه وإليه. وهذا السكون منعها، وبدون أن تشعر بعنف المنع، إنما براحته، من دراسة سوق نشرها، والانشغال به دائما، فربما اكتفت بدراسته في بداياتها، ولم تتابع أطواره، التي غالبا ما تبدو أقوى منها. فمن الملاحظ أن القيمين على الصحف الآفلة، وفي حديثهم عن هذا السوق، يظهرون بعيدين عنه، كما لو أنهم ليسوا من منتجيه، وكما لو يهب بتغيراته على مؤسساتهم، محطما اياها. إذ إنه في عيونهم الزلزال، الذي لا ضرورة لدراسته، ليس لمشاركة طاقته، ولكن، لتلافيه حتى. غريبة عن موطنها الأوليّ هذا، يتحكم بمصيرها بدون أن يبالي بها. لا تتردد عليه، فيرتد في النهاية عليها.

ولكن، سكون صحفنا الآفلة إلى التردد لا علاقة له بالبون الذي يفصلها عن سوقها، حيث لا بد لها من الاندفاع، فقط، بل بروحها المهنية أيضا. فإذا كانت الصحافة، وعلى تعريف بديهي، صانعة أحداث، فتلك الصحف، ومنذ زمن بعيد، لم تعد تصنعها. فمتى كانت المرة الأخيرة التي صنعت خلالها صحيفة حدثا في البلاد؟ ولأنها على هذا المنوال، فبدل أن تصنعها، اما تنقلها، أو تتظاهر بصناعتها، عبر الركون إلى اثارة النوازع بأخبار القتل والجنس أو بالتحول إلى نشرة ما يسمى تسريب أو إلى مكتب بريد يبعث رسائل من جهة سياسية إلى غيرها. وعندما لا تصنع الصحف أحداثا، تتقهقر، ولا يعود في وسعها أن تتحمل الحدث الذي لا يكون من انتاجها، يعني اي حدث، فتصير ضده سلفا أو تتقصاه لكي تلغيه، فلا تتفاعل معه سوى بهدف  تغطيته" بإحكام لدرجة خنقه.

تخاف الصحف كل حدث، وأمامه، وفي اثره، ترجع إلى الوراء، ترتد على نفسها، ما يجعلها تدور على بعضها البعض، وتقفل على بعضها بعض. معلومة هي دعابة أن كل صحافي يكتب لصحافي ثان، الذي، وبدوره، يقرأه صحافي ثالث، ليكونوا جميعهم كتاب وقراء ذواتهم لا أكثر ولا أقل. الصحف التي لا تصنع أحداثا، والتي لا تتفاعل مع أحداث، ينتابها الشلل، يتخثر دمها، تتعطل، وعندما يحدث موتها، لا تكون عالمة، ليس به فقط، بل بطريقة التعامل معه أيضا. إذ ليست مجهزة لتلقيه، ولا لابعاده، ولا لتأكيده، كل ما تستطيع فعله هو التردد، أن ترتد إلى داخلها، وتوصده على فراغها.

وليس بالشيء السهل أن تتخلص الصحف من كل هذا، فإما، تلجأ من ورقها إلى افتراضها، حيث تتكشف عن ذلك الفراغ، أو تنقل التردد إلى الموظفين، الذين، وتحت وطأته، يزول موقعهم كعاملين من دون أن ينتقلوا إلى موقع العاطلين عن العمل. فيؤدون وظائفهم بلا أن يدركوا أن كانت مؤسساتهم ماتت أو لم تمت بعد، ان صرفوهم منها ام لا، أن كان بمقدورهم أن يطمئنوا إلى كونها لن تتوقف أو إلى تحصيل حقوقهم إن توقفت. وهكذا، يعملون كعاطلين عن العمل، وفي بطالتهم، يكونون عمالاً، فلا يجزم واحدهم أن كان يعمل ام لا، وان كان سيعمل ام لا. تعميم هذه الحالة عليهم يندرج في سياق انهاكهم بفعل الإبهام، ونافلة الإشارة إلى أن هذا ضرب من ضروب الإذلال.

لا تحسم الصحف اللبنانية في موتها، وحتى حين تغلق أبوابها، تقدم على ذلك كأنها ليست على يقين أن كان رحيلها حدث ام لا، وهذا إلى أن يأتي بعض منها ويحاول جعله خبراً محزناً! 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها