الأحد 2018/09/30

آخر تحديث: 09:40 (بيروت)

جمهور السينما في مصر.. لا أحد يسأل عنه

الأحد 2018/09/30
جمهور السينما في مصر.. لا أحد يسأل عنه
الجمهور يحدد بداخله الهدف المرجو من تجمعه
increase حجم الخط decrease
صناعة السينما في مصر مبتسرة، وكذلك الحال في كل الدول التي لا تنتج أدوات الصناعة الاستراتيجية، وتكتفي باستيرادها، فيما توفر باقي عناصر الإنتاج من رؤوس أموال وأطقم عمل ونصوص، لكنها كواحدة من أضخم الصناعات في الشرق الأوسط كانت ناجحة.
ربما لثماني سنوات مضت لم تشهد السينما المصرية فيلمًا أخفق في تغطية تكاليف إنتاجه حتى وإن لم يحقق شيئًا في شباك التذاكر.

في حوار قديم، شرح لي أحد مديري الإنتاج، أن الفيلم قد لا يحقق أرباحًا لكنه يستطيع أن يغطي –على الأقل- تكلفة إنتاجه، لدى طرحه في صورة أقراص مدمجة وبيعه للعرض الفضائي الحصري، الأمر الذي كان يشجع بعض المنتجين على إنتاج أفلام غير تجارية، لكن الصناعة التي بدت للكثيرين وسيلة ناجحة للاستثمار حتى عام 2010، تلقت ضربات قاصمة منذ اندلاع ثورة يناير، بسبب الاضطرابات السياسية التي أدت لتوقف كثير من الاستثمارات في مجالات عدة –من ضمنها السينما بالطبع- إضافة إلى ظهور العشرات من قنوات القرصنة التي قضت تمامًا على حصرية العرض الفضائي للأفلام، وهو ما كبد صناعة السينما خسائر فادحة، أدت لاحقًا إلى تسرب كثير من رؤوس الأموال إلى مجال الدراما التلفزيونية مضمونة الربح، واقتصار الإنتاج السينمائي على الأفلام التجارية مأمونة النجاح.

ما يمكن استخلاصه من حالات ازدهار الصناعة وتدهورها، هو أن عنصر التوزيع السينمائي يعدّ العامل الأهم في إنجاح الفيلم من عدمه، وأن ازدهار صناعة السينما يصب في صالح تدعيم التجارب السينمائية الجديدة، لكن ذلك كله كان يتم بعيدًا عن قياس تفضيلات الجمهور (شباك التذاكر).

فعلى الرغم من مرور أكثر من 120 عامًا على أول عرض سينمائي في مصر، إلا أن مسألة الجماهير ودراسة أنماطها لا تزال غائبة عن منظومة صناعة السينما، بحسب ما تشير إليه الباحثة المصرية نور الصافوري في كتابها "رصد جماهير السينما: مصر"*، الذي يلخص مشروعًا بحثيًا أنجزته على مدى عامين، لرصد العادات والأنماط المرتبطة بالمشاهدة الجمعية للأفلام وتجارب الجمهور في الذهاب إلى السينما، والذي يكشف –إلى جانب ما يضمه من تحليلات واستنتاجات مهمة- عن مفارقة لافتة في علاقة الجمهور بالمنظومة السينمائية، من حيث تبادل الأدوار واضطلاع الجمهور في النهاية بدور المنظومة في سعيه نحو تحقيق إتاحة ثقافية أكبر.

تنعكس تلك المفارقة، من خلال تتبع تاريخ إنشاء نوادي السينما في مصر، والتغير الذي طرأ على دوافع تأسيسها بالتزامن مع صعود وازدهار وتدهور الصناعة السينمائية، ففي أوقات صعودها كمجال ناجح للاستثمار، أنشأ السينمائيون المصريون نادياً للسينما، كرد فعل على ما اعتبروه سيطرة تجارية أدت إلى تحول الفن السابع من "أداة خارقة لنشر المعرفة إلى مرآة تشوه الواقع وتزيف ميول المجتمع ورغباته"، ليعرض "الأفلام التجريبية وروائع الإنتاج السينمائي العالمي، كلاسيكية كانت أم حديثة"، ويقول الناقد السينمائي أمير العمري "أنه بعد نكسة عام 1967، كانت هناك حالة من المراجعة الثقافية والسياسية التي اجتاحت البلاد، وشغلت المثقفين تحديدًا، بالبحث في أسباب الهزيمة، والرغبة العارمة في التحرر من الثقافة التقليدية العتيقة، والتطلع إلى ثقافة أخرى، أكثر حداثة، وكانت هناك رغبة في تطوير السينما، ومد تجربة تدخل الدولة في الإنتاج والتوزيع والعرض من خلال ما عرف بـ(القطاع العام السينمائي)، على استقامتها، والتطلع أيضًا إلى ربط العملية الإنتاجية، بالعملية الثقافية، أي إتاحة الفرصة لظهور ثقافة سينمائية جديدة يمكنها أن تساهم في تطوير الذوق والوعي بحيث تتغير نظرة الجمهور في تعامله مع الفيلم".

وتوحي تلك الرغبة التي حركت السينمائيين –تحت مظلة النظام- في ستينات وسبعينات القرن الماضي، لحماية الجمهور "غير الواعي" من تحكمات التجارة في اختيارات "الفرجة"، باضطلاعهم بالدور نفسه بعد تدهور الصناعة وانحسار إنتاجها كله في الأفلام التجارية، خوفا من الخسارة وليس طلبًا للمزيد من المكاسب، لكن الجمهور هذه المرة هو الذي "خرج إلى الشوارع وبدأ في التنظيم الذاتي، بحيث أصبحت الحكومة من بعد صراعات طويلة، وبعد رفضها دعم الإنتاج الثقافي المستقل عن المؤسسات، بلا فائدة في نظر الشباب المنغمس في العمل الثقافي والإبداعي". حسبما ترى نور الصافوري.

يقول المفكر مايكل وارنر: "إن الجمهور هو مساحة خطاب ينظمها فقط بغض النظر عن بنية هذا الخطاب ذاته، فالجمهور يحدد بداخله الهدف المرجو من تجمعه وهو المبتغى الذي من أجله تكتب وتنشر الكتب وتذاع البرامج وتتحدث المواقع الإلكترونية وتخلق الخطابات وتنتج الآراء. فالجمهور مرهون في استحضاره على لحظة مخاطبته". وعلى هذا الأساس فإن الجمهور الذي اعتاد على إطلاق الصفير خلال المشاهد التي تظهر بها الممثلات المتأنقات، في بدايات القرن العشرين، أو الصياح لدى احتدام حرارة مشهد رومانسي مثلما حدث بين عبد الحليم حافظ والنجمة نادية لطفي في فيلم "أبي فوق الشجرة" (إنتاج عام 1969)، كان امتدادا لخطاب أسس للسينما كمساحات للتسلية في المقام الأول، يكشف عنه ما سجله المخرج الأميركي هومر كروي، الذي زار سينما بالقاهرة عام 1914، أنه بينما كان في طريقه لمشاهدة الفيلم اعترضته دستة من الصبيان الذين كانوا "يحملون بطاقات في أيديهم، بدت وكأنها بطاقات تخفيض على شراء السجائر (...) وضعوها أمام وجهي باندفاع وصاحوا بأقصى طاقة لأصواتهم بأنه يجب علي شراء البطاقات (...) إذا قصدت مقصفا واشتريت قطعة شيكولاتة بقيمة عشرة قروش، كان يعطيك معها البائع بطاقة تخفيض. إذا أخذت البطاقة إلى شباك بيع التذاكر بدار السينما، تنال تخفيضًا بمقدار خمسة قروش على أي مقعد تحجزه هناك. حاول أولئك الصبية الذين اندفعوا تجاهي بيعي تلك البطاقات"، كان جمهور السينما الذي التقاه هومر كروي "من كل شكل وصنف"، فقد كانت نشرات العروض تمتلئ بحروف من اللغات اليونانية، والعربية، والإنكليزية، والفرنسية، كما أدهشته شاشات العرض الإضافية والتي كانت تعرض عليها الترجمة العربية، فبينما كانت لوحات النصوص المصاحبة للأفلام الصامتة تحتوي على كتابات باللغات الأوروبية، كانت أجهزة بروجيكتور إضافية تعمل على إرضاء الجماهير القارئة للغة العربية بعرض ترجمة موازية. وصف كروي أيضًا –حسبما نقلت عنه الكاتبة إفضال الساكت، "حجرات خاصة" كانت تمكن النساء من الاستمتاع بمشاهدة الأفلام دون التعرض إلى "نظرات الرجال غير اللائقة".

لكن ذلك الجمهور، الذي تطورت نظرته إلى السينما، بات يواجه منظومة سينمائية لا تملك أي خطاب تتوجه به إليه، حتى إنها عزفت عن استثمار الخطاب الذي امتلكه غيرها، حيث تشير نور الصافوري إلى أنه أثناء انعقاد جلسات النقاش المتعددة التي تضمنها بحثها ذكر البعض الأفلام البوليوودية، والتركية، ضمن تفضيلاتهم للمشاهدة، وهو أمر طبيعي في ظل ما حظيت به تلك الأفلام من شعبية جارفة في السنوات الأخيرة، لكنه على الرغم من ذلك يبدو مستحيلا "العثور على عروض لتلك الأفلام في دور السينما المصرية اليوم. بالإضافة إلى ذلك، خارج المدن الكبيرة مثل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، لا تعرض دور السينما الأفلام الأجنبية على الإطلاق لأنها غير مجهزة تقنيًا بشكل مناسب لعرض صيغ مختلفة من الأفلام. وبالتالي لا تشاهد الغالبية الأفلام التركية وأفلام بوليوود في السينما وإنما على شاشة التلفزيون".

ولا يبدو غياب الخطاب سمة تختص بها المنظومة التجارية وحدها، وإنما تمتد كذلك لتطال المؤسسات المستقلة، التي لا تزال – رغم ما تبذله من مجهودات لـ"تطوير شبكات عرض وتوزيع موازية للشبكات التجارية السائدة وفي تثوير مفهومنا لماهية شاشة العرض"- غير قادرة على امتلاك خطاب يتوجه بشكل واضح إلى الجمهور بصفة عامة، وليس فئة صغيرة منه من المهتمين أو العاملين بمجال السينما، وتشير الصافوري، خلال حوار لها مع القائمين على إدارة سينما "زاوية"،  إلى تجربة فاشلة قامت بها الأخيرة لعرض فيلم "برّة في الشارع" في حلوان، وهي المنطقة التي تدور فيها أحداث الفيلم، ولا يتبدى فشل التجربة في عزوف الجمهور عن مشاهدة العرض، ولكن في تفسير القائمين على زاوية أنفسهم لأسباب ذلك العزوف.

ترى ملك مقار –منسقة المهرجانات والبرامج الخاصة في زاوية- أن"الناس كانت تشعر بالخوف من متابعة الفيلم. الكثيرون من الساكنين في المحافظة من الطبقة العاملة، والفيلم يهاجم أصحاب المصانع والدولة. شعرت الناس بالقلق من متابعة الفيلم"، وهو تصور قاصر ينم عن عدم دراية كافية بالتركيبة السكانية للمدينة من ناحية ونوعية الجمهور الذي يتردد على صالتي حلوان الوحيدتين: "ماجدة" و"مروة" من ناحية أخرى، فمع الوضع في الاعتبار أن تجربة الذهاب إلى السينما تعد بمثابة نزهة، فإن سكان حلوان يتطلعون لمفارقة حيّهم إلى أحياء أخرى قريبة كحي المعادي مثلا، الذي يمتلك صالات عرض أفضل بكثير من صالتي حلوان المتهالكتين والفقيرتين، ولأن حلوان تتميز بالمصانع مثلما أشارت مقار، ولأنها أيضًا أقرب حاضرة إلى بعض قرى الجيزة وأول الصعيد، فإن غالبية زوارها القادمين من مناطق نائية لا تملك أي دور للسينما، لن يبددوا نزهتهم في مشاهدة فيلم "مستقل" لا يعرفون أياً من أبطاله، ولا يحمل ملصقه الدعائي أي وجه من وجوه نجومهم المفضلين، حتى وإن لم يتطرق لأي محاذير تشعرهم بالتهديد. 

إن استبعاد الجماهير من حسابات المؤسسات السينمائية، وخلو خططها من دراسة أنماطهم بشكل متعمق، لا يصب في صالح إدراكها لأهدافها، ربحية كانت أو تنموية، وهو ما تؤكده نور الصافوري التي قررت ألا تكتب خلاصة لمشروع بحثها، أو تضع له أية استنتاجات، لأن موضوعاته يجب أن تظل "محلًا للنقاش المستمر"،  على أمل أن تكتسب "مسألة الجماهير وزنًا أكبر، وأن تتكشّف تفاصيلها وتتطور مع تغيّر ظروف واحتياجات كل من الجماهير والمؤسسات السينمائية، مع استمرار تواتر المد والجزر التكنولوجي وتيارات التحولات الاجتماعية".

(*) "رصد جماهير السينما: مصر" كتاب يلخص مشروعًا بحثيًا، قادته نور الصافوري، وُزع ملحقًا بالعدد الخامس عشر لمجلة الفيلم (عدد يونيو 2018)، ينظر إلى السينما ككيان ثقافي واجتماعي، مع التدقيق في العادات والأنماط المرتبطة بالمشاهدة الجماعية للأفلام وتجارب الجمهور في الذهاب إلى السينما، تضمن البحث الميداني للمشروع إجراء أربع عشرة جلسة نقاش (7 للنساء، ومثلها للرجال)، في سبع مدن مصرية (أسيوط، المنيا، الإسكندرية، طنطا، بورسعيد، دمياط، القاهرة)، كما تضمن إجراء سلسلة مقابلات مع أفراد من خلفيات متعددة في التوزيع والعرض السينمائي، ومع باحثين وباحثات في المجال، ويمكن الاطلاع عليه هنا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها