الإثنين 2018/09/03

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

سفور حلا شيحا: مصر المتحوّلة

الإثنين 2018/09/03
increase حجم الخط decrease
أعلنت الفنانة المعتزلة والمنتقبة، حلا شيحا، خلعها الحجاب وعودتها إلى الفن، وحرّك قرارُها مواقعَ التواصل الاجتماعي بشكل مثير للدهشة. احتفل البعض بهذا القرار، ورأى فيه نصراً مبيناً لمبادئه. وتلقاه البعض الآخر بمرارة، ودان صاحبته بقسوة، وعلت الأصوات "الإسلامية" المنددة، وبدت أشبه بـ"لطمية سقوط الخلافة وسقوط الأندلس"، كما قيل. تشهد هذه الواقعة للتحوّل الجذري الذي عاشته مصر في السنوات الأخيرة، ويمكن القول إنها تمثل صورة معكوسة للصورة التي جسّدها المجتمع المصري في الماضي القريب.

وُلدت حلا شيحا في الإسكندرية العام 1979. والدها الفنان التشكيلي أحمد ذو الفقار شيحا، وأمها لبنانية. دخلت عالم الفن في أواخر التسعينات، وشاركت في عدد من المسلسلات التلفزيونية. توالت أعمالها السينمائية في السنوات التالية، وكان آخرها فيلم "كامل الأوصاف" الذي ظهرت فيه محجبة في 2006. أعلنت النجمة الشابة اعتزالها في ذروة نجاح أعمالها الفنية، وتحولت إلى داعية، ثم ارتدت النقاب، ودعت له، وها هي اليوم تعلن خلعها الحجاب وعودتها إلى الحياة الفنية بعد غياب 12 عاماً.

استنكرت الداعية أميرة عزت قرار صديقتها، وكتبت معلّقة في رسالة موجهة إلى الفتيات المحجّبات: "يا إماء الله اثبتْنَ، فمن كان يعبد محمداً فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، أكتب هذا المنشور لإنكار المنكر ثم رفقاً بقلوب الصالحات، أعلم ما تشعر به كل أخت منكن عندما رأت صورة لأختٍ كنا نحسبها على خير". تحوّلت حلا شيحا بين ليلة وضحاها إلى قضية اجتماعية، ورأى التيار الإسلامي في تخليها عن الحجاب هزيمة له، فيما اعتبر التيار الليبيرالي والعلماني أنه يشكل نصراً له في مواجهة السلفيين والأخوان.

منذ أكثر من قرن، رفعت مصر شعار "السفور" وجعلت منه عنواناً لنهضتها. في العام 1915، أصدر عبد الحميد حمدي، جريدة أسبوعية سمّاها "السفور"، وجعل منها منبراً لأدباء المدرسة الحديثة، وعلى رأسهم الشيخ مصطفى عبد الرازق وشقيقه علي عبد الرازق وطه السباعي. تحت عنوان "نقد السفور"، كتب الشيخ مصطفى عبد الرازق في العدد الرابع من هذه الجريدة: "يقول بعض الفضلاء إن اسم السفور يخيّل للناس أن هذه الصحيفة ليست إلا صيحة مكررة إلى تمزيق البرقع عن وجه المرأة المصرية، ويرون أن البيان الذي صدَّر به صاحب الجريدة أول عدد من أعدادها ليس كافياً في دفع هذا الوهم. ولا يريد أنصار هذه الصحيفة أن ينكروا أنهم جميعاً من أعوان الدعوة إلى حرية المرأة، ولكنهم يريدون أن يفهم الناس أن للسفور معنى أشمل مما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذه الكلمة التي جرت بها أقلام الباحثين في مسألة المرأة المصرية. وإن هذه الصحيفة تريد أن تكون مظهر التقدم الفكري في هذه البلد ومضماراً لكل دعوة حرة صالحة".

انتصر السفور خلال بضع سنوات في مصر، وبات الحجاب من الماضي، وظهر كبار المشايخ المصريين إلى جوار زوجاتهن سافرات. فاخر المصريون بهذا الانتصار، ودأبت المجلات على إبراز هذا الانتصار، ونشرت بشكل مستمر صوراً لنجماتها السافرات بين جمهور من المحجبات والمنقبات في العراق، كما في الجزائر ومراكش. في صيف 1932، جالت نجمة المسرح فاطمة رشدي في الجزائر ومراكش قدمّت فيهما مسرحياتها "مصرع كليوباترا" و"العباسة اخت الرشيد" و"مجنون ليلى"، ونشرت مجلة "الصباح" لهذه المناسبة مقالة بعنوان "ردّ السيدة فاطمة رشدي على الخطباء الذين طالوها بالحجاب". بحسب هذا التقرير، استُقبلت النجمة المصرية خلال جولتها بحفاوة بالغة، وأقامت "جمعية التلاميذ المسلمين" على شرفها حفلاً في "نادي الترقي" حضره حشد غفير من الأعيان والأدباء. رحّب رئيس هذه الجمعية، أحمد توفيق المدني، بالضيفة، "وذكر ما لها من الشأن والفخر في ميدان التمثيل العربي، وما كان لمصر من الفضل على الأمم العربية لأنها حاملة لواء النهضة العربية"، ورأى "ان الجزائريين لم يتعاموا عن الروح الجديدة التي تسري منذ حين من الدهر في الأقطار الإسلامية، وأن في الجزائر نهضة قيمة مباركة". وقال إن العروض التي قدمتها فاطمة رشدي مع فرقتها "تبين للجزائريين المتعاطين لفن التمثيل ان هذا الفن غير ما يزعمون".

في المقابل، شكر مدير جريدة "المرصاد" السيد عباسة، الممثلة على جولتها في الجزائر، "غير انه عاب عليها ان تبدو بادية الوجه، وأن تمثل رواية لم تطابق التاريخ الصحيح الا وهي رواية العباسة اخت الرشيد". ردّت النجمة المصرية مباشرة، وقالت بثقة تامة: "إن فاطمة رشدي مسلمة عربية، ولا أقول مصرية لأن البلاد الإسلامية انما هي أمة واحدة تربطها لغة القرآن الكريم، أما الحجاب فإني محتجبة ومحتجبة تماماً، ولو كنت أخرج بادية الوجه فإن الحجاب عندي هو الأخلاق والفضيلة". وأضافت في الختام: "وأخيراً أرجو أن يكون لبني جنسي في الجزائر نهضة مباركة. علّموا المرأة وامنحوها التعليم الحقيقي، لا هذا التعليم السطحي الذي تتزين به بعض النساء. علّموها الإرادة، وعلّموها كل ما يقوّي نفسها وعزيمتها، فإنها المدرسة الأولى للأولاد".

كذلك، نشرت "الصباح" رسالة وجّهها مولاي حسن، شقيق ملك مراكش، إلى النجمة المصرية من الدار البيضاء في 8 آب/أغسطس، مادحاً نشاطها وجهدها، وفيها: "إلى نابغة الجيل وزعيمة النهضة التمثيلية السيدة فاطمة رشدي المهذبة. لقد كان لتلك الرسالة الواردة منك ما يذكي الثقة بكل الأخلاق الرزينة والكياسة البالغة التي أوتيتها حضرتك على علم وأدب ويقين تجعل مكاناً ممتازاً بين المتأدبين ومقاماً رحباً في دوائر الفن والاعجاب به. ان الثقافة العربية تنتظر من خادميها في كل قُطر، مجهوداً شريفاً يتعيّن بذله لإحياء المندثر من معالم آداب ومباني فنونه، وإنك بصنيعك ورقّتك وشعورك المتدفق، تعملين معنا على أداء جانب من هذا الواجب المفترض في كل حين. ثقي بأنك تركت من جميل الذكر ما يُسجَّل لك انك قد كنت خير مثال للمرأة الشرقية المهذبة المتحضرة للنهوض في صون وعفاف. فدومي على عملك وواصلي سعيك في خدمة التمثيل العربي وآداب العربية المحبوبة".

من جهة اخرى، نشرت "الصباح" في تقريرها رسالة من كاتب تونسي يؤكّد فيها ان جريدة "الزمان" التونسية نشرت "كلمة قالت فيها أن لديها صوراً للسيدة فاطمة رشدي تدلنا على الخروج عن أحكام الدين، وأنه ظهر معها في هذه الصور أشخاص أغراب بحالة منافية للآداب. وقالت الجريدة إنها على استعداد لعرض هذه الصور على كل من يريد". نقل الكاتب التونسي هذا الخبر، وأضاف معلقاً: "اطلعت على هذه الصور فرأيتها صوراً عادية مألوفة للسيدة فاطمة بملابس الاستحمام اثناء استحمامها على أحد الشواطئ، وهي كسائر صور بنات العائلات والفنانات والممثلات اللواتي يقصدن إلى أي شاطئ للاستحمام. وقد نُشرت للسيدة فاطمة رشدي مثل هذه الصور تماماً في كل صحف ومجلات مصر. وليس فيها ما يدعو إلى النقد".

نشرت "الصباح" صورتين من هذه الصور، وكرّرت كلام الكاتب التونسي في تعليقها. ويتّضح ان هاتين الصورتين لا تختلفان عن الصور التي دأبت المجلات المصرية على نشرها في موسم "الصيف والبلاج" منذ منتصف العشرينات. في مطلع أيار/مايو 1926، تحت عنوان "على شاطئ البحر"، بدأت مجلّة "المسرح" بنشر صور لأشهر ممثلي مصر وممثلاتها على الشاطئ بلباس البحر، وقالت في تعليقها: "قد يكون في نشر أمثال تلك الصور بعض الشيء مما لا يقرّنا عليه بعض الناس، لكنها عادة شائعة في المجلات الإفرنجية فلا تتصفّح مجلة إلا وتجد فيها عشرات الصور وخصوصاً للممثلات وهنّ أنصاف عاريات أو أكثر من ذلك عند شواطئ البحار وفوق القوارب في الأنهار".

استمرّت مجلّة "المسرح" بنشر صور "الممثلين والممثلات على شاطئ البحر بعد الاستحمام"، وقالت إن الرسائل تنهال عليها "بعد البدء في نشر هذه الصور البحرية، بعضها يشجع وبعضها يعارض". ونشرت "رسالة معارضة" تقول: "هذا عمل يخالف الذين الإسلامي من كل الوجوه ولا تقرّه تقاليد بلد إسلامي مثل مصر، نعم هذه بدعة فيها ضلالة وكل ضلالة في النار. لذلك نرجو الكف عن نشر مثل هذه الصور ولكم الشكر". دعت المجلة الممثلين والممثلات إلى إرسال صورهم البحريّة لنشرها، فانهال عليها "سيل من الصور الجديدة"، وتحوّلت صفحة "على شاطئ البحر" إلى زاوية ثابتة ظهر فيها معظم النجوم بلباس البحر. تكرّرت صور فاطمة رشدي وهي "تضحك للبحر والبحر يضحك لها وهي في غاية النشوة والسرور"، وبرزت شقيقتها كبيرة ممثلات فرقة "الماجيستيك"، رتيبة رشدي، والنجمة ماري منصور، في لقطات عديدة على شاطئ رأس البر، كما حضرت "زينب صدقي على رمال البحر الأبيض المتوسط".

كان ذلك في العقود الأولى من القرن العشرين، وها نحن في العام 2018 نحلّل ونتساءل: "لماذا يشعل حجاب حلا شيحا كل هذا الصخب؟"، "هل خلع الحجاب حرية شخصية أم سلاح ثقافي؟".  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها