الجمعة 2018/09/28

آخر تحديث: 10:37 (بيروت)

"بيت" نادر سراج.. تسكنه المدينة ونسكن إليه

الجمعة 2018/09/28
"بيت" نادر سراج.. تسكنه المدينة ونسكن إليه
increase حجم الخط decrease
قبل سنوات أصدر المهندس جبران يعقوب كتابه "معجم الهندسة المعمارية في لبنان"، وتضمن الأحداث المعمارية وتخطيط المدن والبنية التحتية. يعرف المرء متى بدأ التراموي في لبنان وأين انتهى؟ وما الأثر الذي تركه في الحياة الاجتماعية والثقافية والمعمارية. بل كيف تطوّرت الاوتوسترادات في المدن اللبنانية وأثرها على الحياة العامة، وصولاً إلى وسط بيروت وورشة الإعمار، والمباني التي هدمت وصارت في الذاكرة.

وثق يعقوب العمارة في لبنان، فجعلنا نغوص في تاريخها ومشهديتها، بل عرفنا أين حسنها وموضتها ودرجتها ولغتها، والأسباب التي جعلت بعضها بشعاً وأنها أنتجت لغة. فالعمران لا ينفصل عن اللغة، والعمارة لا تنفصل عن الأحداث المحلية والحرب والحياة الاقتصادية والتحولات العالمية، ولا تنفصل عن الأحداث السياسية المحيطة بها. فذاكرة أهالي بيروت لا ترتبط فحسب بأحداث 6 ايار 1916 وجمال باشا، إبان الحرب العالمية الأولى، بل بوجه آخر للعثمانيين لا يقل أهمية، هو ما حدث العام 1915 والذي سُمّي آنذاك مشروع والي بيروت عزمي بك لتخطيط شوارع العاصمة، ومنه نتجت كلمة "حداثة الدغري" التي دوّن حولها أحد المهندسين مقالاً، والدغري تعني المستقيم، ومشروع عزمي في شكله هو إزالة ما مساحته ثلثي المدينة التقليدية العثمانية، من ساحل البحر غرباً إلى ساحة رياض الصلح شرقاً. وترجع بداية المشروع إلى أوائل العام 1914 حيث كان الاقتصادي شديد التداخل بما هو سياسي، حينها كانت التحولات صاخبة على المستوى العمراني، خرجت بيروت التقليدية من سورها العام 1860، اما ساحة البرج فستحمل تسمياتها المتعاقبة صورة عن هذه التبدلات.

في 30 ايلول 1918 انتهى تاريخ بيروت العثماني، وقام الحلفاء بإكمال المشاريع وهدموا المدينة القديمة. وأعلن الجنرال غورو ولادة لبنان الكبير في قصر الصنوبر، وعاش لبنان مراحل الانتداب والاستقلال والستينات. في العام 1975 اشتعل فتيل الحروب الأهلية، وكاد يُهدم وسط بيروت في سنة واحدة، وحصل التحول الديموغرافي الذي غيّر وجه بيروت ومبانيها، كبرت أحزمة البؤس، وازداد التشوه العمراني. في العام 1990 انتهت الحرب وحصيلتها تأخر لبنان في جميع القطاعات بسبب الهدم الذي أصاب بناه التحتية، وصار لبنان بين خيار "الأوزعة" (نسبة الى منطقة الأوزاعي)، و"سوليدير" (وهو اسم الشركة التي تولت إعادة الإعمار، وتطلق أحيانا على منطقة وسط بيروت، الى جانب تسمية "البلد" و"داون تاون").

على أن الأزمات السياسية الانتدابية وغيرها، تركت وراءها البيوتات السياسية (الجميّل، حمادة، فرنجية، شمعون، سلام، جنبلاط، كرامي، الأسعد). فلكل طائفة أو عشيرة زعيمها وقصره وداره وسوره ولقبه (بك، أفندي، شيخ، أمير وحتى سيد). ولما كان الزعيم يسكن في محلة، او بلدة، فالإعلام الحديث يستدل على المكان الذي يسكن فيه، كعلامة سياسية وتتحول طريقة كتابة الصحافي عن دارة الزعيم نوعاً من موقف سياسي في السلبي والإيجابي. فنقول بنشعي والرابية والمختارة وعين التينة وكليمنصو وقريطم ومعراب وحارة حريك، ومرات يكون للقصر اسم كـ"بيت الوسط" لسعد الحريري (للمفارقة سمى النائب فؤاد المخزومي بيته بـ"بيت البحر"). والبيوتات هذه قابلة للتحول، فبعضها يفتح وبعضها يرمم وبعضها الآخر يقفل، تبعاً للتحولات والسياسات والرياح. وليست البيوتات السياسية سوى نموذج من نماذج كثيرة عن لغة "البيت" وموروثها المتراكم الجامع والمتعدد، وهذا ما يبينه الباحث نادر سراج في  كتابه "البيت - السوسيولوجيا واللغة والعمران - دراسة لسانية تطبيقية"، حيث يرصد المسارين التعاقبي والتزامني لمفردتَي "البيت" و"الدار" ونظرائهما، في خطاب المجال العام. ويبين تطورها في الاستعمال، عبر مجموعة منتقاة من شواهد الإثبات والتغيير الموثقة، ولهذه الغاية استقصى مختلف تعريفاتهما ومعانيهما وسياقات استعمالها، كما عالج التبدلات اللاحقة بنيوياً ودلالياً ووظائفياً، بمقابلاتهما ومشتقاتهما، وما انسل منهما. ويعرض نماذج لمروحة مفردات السكنى الأخرى (بيت، منزل، دارة، شقة)، ومصطلحاتها في اللسان العربي. انه دعوة مفتوحة للقراء للتعرف إلى أنماط السكن، الكلاسيكية منها والمستحدثة، لديهم ولدى أسلافهم، منطلقين بالطبع من البيئة اللبنانية الرحبة والمتنوعة التي لا تختلف كبير اختلاف عن مثيلاتها العربية.

حين نقول "شقة" فهي تحمل دلالة واضحة ومقتصرة، أي المسكن والمأوى. أما حين نقول البيت، فتتشعب المعاني والدلالات والاستعارات في أكثر من اتجاه: فالبيت "يكون سكناً وسكينة ومبيتاً، أي إقامة واستقراراً" بتعبير رضوان السيد، و"البيت مؤنث وعائلي وخاص" بتعبير الشاعر بسام حجار، ونقرأ في "لسان العرب": "وبَيْتُ العرب: شَرَفُها، والجمع البُيوتُ، ثم يُجْمَعُ بُيوتاتٍ جمع الجمع. ابن سيده: والبَيْتُ من بُيُوتات العرب: الذي يَضُمُّ شَرَفَ القبيلة كآل حِصْنٍ الفَزاريِّين، وآلِ الجَدَّيْن الشَّيْبانِيّين، وآل عَبْد المَدانِ الحارِثِيّين؛ وكان ابن الكلبي يزعم أَن هذه البُيوتاتِ أَعْلى بُيوتِ العرب. وقال ابن الأَعرابي: العرب تَكْني عن المرأَة بالبَيْت؛ قاله الأَصمعي وأَنشد: أَكِبَرٌ غَيَّرَني، أَم بَيْتُ؟ الجوهري: البَيْتُ عِيالُ الرجل؛ قال الراجز: ما لي، إِذا أَنْزِعُها، صَأَيْتُ؟ أَكِبَرٌ غَيَّرني، أَم بَيْتُ؟ والبَيْتُ: التَزْويجُ؛ عن كراع. يقال: باتَ الرجلُ يَبيتُ إِذا تَزَوَّجَ".
البناء اللغوي والبناء المعماري اللذان يتمحور حولهما الكتاب هما "شكل من أشكال التجاور والتحاور والتناغم التي تقوم بين اللغة والمكان". إنما تتماثلان إلى حد كبير لجهة الوظيفة التعبيرية والهوية الجامعة والدلالة المؤشرة للاجتماع الثقافي. وقد التفت العالم الفرنسي أندريه مارتينه، إلى المواءمة بين هاتين المنظومتين. فوازن بين البنية اللغوية الماثلة في سلوك المتكلمين، وبين بنية العمارة الكامنة بين خطوط القوة التي تثبتها في المكان. فالمؤلف يهدف في محصلته إلى تقصي الدلالات الثقافية العمرانية وتلك الاجتماعية العرفية لمفهوم البيت، مع التوقف عند الدلالات النفسية المعنوية الناشئة عن توظيفه للإشارة، إلى مفهوم استمرارية العائلة او العشيرة الواحدة ضمن أجيال. كما يحيط بجملة من المعاني اللغوية المختلفة المترافقة مع مسألة السُكنى والتي تتراوح بين الخصوصية والاستقلال والأمان والاستقرار، ويحدد النظر في تجلياتها في الموروث اللغوي العربي، تماماً مثلما في الاستخدامات الحالية.

واذ حللنا المفردات السكنية ذات التداول السياسي، سنلاحظ أن مصطلح البيت ومتضايفاته، ونظائره، وما ينسل منها من توصيفات، لا تغيب عن الأدبيات السياسية والتعليقات الإعلامية التي توظفها، لا بمعانيها القاموسية التأويلية المتعارف عليها ضمن البيئات السياسية ذات الصلة، الدولية او المحلية. وتتعدي تسميات المنجز الأساس للمهندس المعمار، والمتمثلة في البيت أو الدار، وتختلف مسميات وأسماء، وفق تطور احتياجات مستخدميها في الحقب والعصور المختلفة، وهي تخضع في ذلك كله لشتى التأثيرات المناخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعنوية. والبيت قد يحمل دلالة مقدسة أو ماجنة أو اجتماعية، ولا تختلف لفظة البيت في تشعب معانيها الجنسية والسياسية والطبقية والاجتماعية والعشائرية...

بدأ سراج في تشكيل مدونته الخاصة بمصطلح البيت، أكان في الاستخدام اليومي المعيشي، أم في الموروث الشعبي (الأمثال، الأغاني)، أم في المعاجم، أم في الذكر الحكيم (بيت الله الحرام) أو الديني النسبي أهل (البيت). وثمة مفردات مستلة من البيت تدل على المعنى السياسي والمقامي، في المقابل هناك مفردات سقطت أو تستخدم غالباً بدلالة تحقيرية مثل (كرخانة وماخور وتخشيبة وزريبة). ولغة البيت اشبه بلغة بابل، آتية من اللغات الأجنبية (التركية، الفرنسية، الفارسية، الانكليزية) أو من الفصاحة العربية أو من العامية المحلية. والمباني، تبعاً للحداثة والتراث والميدياء، تنتج لغتها. فالألفاظ التي كنا نستعملها لتوصيف المنزل الطيني او الحجري، ربما ماتت بموت تلك المنازل، وفي المقابل أنتجت المباني الخرسانية لغتها وعالمها (باركينغ، دوبلكس، تراس)...

تمتلك دراسة سراج اللسانية الاجتماعية، والمستندة الى المعطيات اللغوية والغائصة في بحر المفردات التقنية المعمارية، منحنيين اثنين: إبداعي وتحليلي. وكي تستوفي أغراضها فهي تعتمد عنصرين متكاملين. الأول زماني، والثاني وظيفي يدرس الظروف الاجتماعية القائمة لتقرير نوع العمارة الملائمة. هو عبارة عن أضمومة مفرداتية ودلالية متخصصة، تنطوي على معلومات مثبتة وموثقة عن معاني ودلالات الدور والبيوت والمنازل والشقق والحارات والمباني وسواها في تبدل أحوالها ووظائفها.

يقع كتاب سراج في منزلة بين منزلتين؛ فهو ليس مجرد قاموس جديد متخصص في مصطلح علم من العلوم، له خصائص تفرده عن سواه، ويتخذ موقعه في المكتبة العربية. ولا هو مؤلف لساني الطابع، لغوي المنحى، وإن غلبت على مواده التصنيفات اللغوية، وأفاد من المنهجيات اللسانية الحديثة في جمع المعطيات من مصادرها الشفهية من جهة، ومعالجة البنى اللغوية للمسميات ورصد مكونات تعاريفها ومعاينة تطور دلالاتها من جهة ثانية.

يستعرض في القسم الأول أصول تسميات البيوت ورصد أدوارها في الاجتماع الثقافي ويحلل المعطيات المجموعة ميدانياً أو من خلال المؤلفات والقواميس اللغوية والمتخصصة، ويتابع تطور دلالاتها، ويدرج ختاماً مدونة بمصطلحات السكنى والإقامة في اللسان العربي.

وينحو في القسم الثاني منحىً ثقافياً. إذ رفد المعطيات اللغوية/المعمارية بالرؤية الثقافية لمعنى العمران، وهي رؤية طورها منذ أن بدأ الاهتمام بـ"التزاوج الحاصل بين المسألتين الثقافية والإعمارية في مجال النهوض الاقتصادي للبنان بعد وضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ". كما توسع في دراسة مفهوم "البيوتات والبيوت السياسية" في لبنان، ناهيك بالدلالات المتنوعة لمفاهيم "ترميم أو ترتيب أو تصدع البيت"، المتداولة بوفرة راهناً، بدلالاتها المكتسبة، في أدبيات السياسيين اللبنانيين والعرب والأجانب، مثلما في الخطابات الإعلامية والإدارية والفنية وحتى تلك الأممية. فقد أظهرت الوقائع المدروسة أن بعض الاعلاميين نوّعوا علاقتهم بالقارئ المواظب، فاستعانوا لهذه الغاية بصور شديدة الخصوصية لاستعارات متخيّلة ذهنياً ومقبولة شعبياً، استقوها من خارج موضوعاتهم المعالجة، فأضفوا بذلك على نصوصهم السياسية، جرعات مأمولة من البلاغة.

وتبديداً للالتباس الذي يرافق تداول مصطلح السراي (الحكومي)، تذكيراً وتأنيثاً، في الوسائل الإعلامية، قدم المؤلف مساهمة بحثية نحو معالجة خلفيات التناوب في اضفاء سمتي التذكير والتأنيث على واحدة من المفردات المتصلة بالعمارة... إن الحكي عن السرايا، أو بالأحرى استخدام مفردة السراي في التداول اليومي، لا يخضع لمعيار جندري ولغوي معين، إذ تتردد هذه المفردة في حالتي التذكير والتأنيث... هذا المبنى متعاظم الأرجاء، ومتعدد الطبقات والوظائف، يعرف بامتلاكه اتساعاً ملحوظاً ورحابة معمارية وانفتاحاً في الباحات الداخلية. وهو في آن ينكفئ على نفسه، محتضنا حرمة الموقع وحميمية المكان. ومتى دلفتَ إليه ينتابك إحساس بفراغ داخلي ينضح بروح أمومية، باعتباره حاضناً للعديد من الإدارات والمصالح والهيئات. وكيفما أجلتَ النظر في أرجائه، استشعرت منحى الأنوثة من خلال الشبابيك.
ومتى قاربنا مسألة تذكير السراي أدركنا أنها تستشعر من بعد. فالشموخ المعماري الذي تعطيه سمة توسد التلة، وتموضع السراي، مذكَّر بامتياز، إن لجهة وظيفته المركزية المستقطبة او لجهة رمزيته الإدارية أو لجهة سطوته الدلالية. ان تذكير المكان أو تأنيثه مسألة تحتمل أكثر من وجهة نظر كما ينادي فقهاء اللغة.

كان يمكن إضافة فصل عن البيت في الرواية والشعر الحديثين. فمنذ سنوات، راجت قصائد المنزل، أو تلك التي تركز على الباب والشرفة والرصيف، عدا عن ان عشرات الروايات، اتخذت من العمارات أو البيوت ذريعة للقص والحكاية، وكان اختيار المباني إشارة إلى التحولات الاجتماعية واللغوية والعمرانية التي حصلت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها