الأربعاء 2018/09/26

آخر تحديث: 11:31 (بيروت)

رفعت سلام.. نهار الشعر الآتي

الأربعاء 2018/09/26
رفعت سلام.. نهار الشعر الآتي
increase حجم الخط decrease
يتجدد شعر الحداثة بتجدد قراءته، وتنجلي رموزه بارتياد عوالمه وتقنياته الجسورة، برؤى مقتحمة مغايرة تواكب النص الإبداعي وتوازيه وتتقاطع معه، وبنقد كاشف خلاق ينطلق من منصات بركانية تفجيرية، لا من أرض مستقرة وثوابت معرفية ومنهجيات مسبقة. 

يحمل شعراء السبعينيات في مصر، أكثر من أي جيل آخر، صفة المغامرين، في الأخيلة والأبنية واللغة، والمفاهيم الجمالية، ومدارات المجازات الملغزة التي يحسبها البعض لصالح دهشتهم التعبيرية التي نثروها في فضاء بكر. ويراها آخرون مقدمات لمتاهات شكلانية، استنفدت طاقة القصيدة لدى المقلدين في إبحار خارج الذائقة مثلما أنه خارج الذاكرة، فنأى الشعر عن الجمهور قبل أن تصالهحما "قصيدة النثر" بتمثلاتها الراهنة كلغة للحياة وكنز للتفاصيل.

بعدد أصابع اليد الواحدة يمكن تسمية الطليعيين النابهين من شعراء جيل السبعينيات في مصر، الذين امتدت تجاربهم إلى الألفية الثالثة، وظلت إلى يومنا هذا محتفظة بتماسكها وخصوبتها وقدرتها على التطور واستيعاب المسارات الشعرية الجديدة بالتحاور والهضم وليس بالانسلاخ والتبعية، وعلى رأسهم الشاعر رفعت سلام (67 عامًا)، أحد مؤسسي جماعة "إضاءة 77" الشعرية، وصاحب الدواوين الغزيرة التي افتتحها بـ"وردة الفوضى الجميلة" (1987)، واختتمها بـ"أرعى الشياه على المياه" (2018).

التعاطي مع اللغة بحساسية خاصة وتوترات تعكس ذبذبات الذات الهائمة في نسق كوني سريع الانهيار، هو أبرز ملمح يبدو للوهلة الأولى في عالم صاحب "الإشراقات" و"هكذا قُلتُ للهاوية" و"كأنها نهاية الأَرض". فالشاعر يخطو دائمًا على ورق آخر ولغة أخرى، بعكس اتجاه الريح، وشجرته "تنمو من كتابات وَحُمَّى"، وينادي الكائنات من موضعه المجهول: "هَذَا جَسَدِي، فَكُلُوا، هَذَا دَمِي، فَاشرَبُوا".

ولأن اللغة ذات الطبيعة الحركية تكاد تؤطر تجربة الشاعر الدينامي الذي لا يزال ينتظر ريح الصبح والنهار الآتي في الطرق، فإن الناقد محمد عبد المطلب اتخذها مفتاحًا لتقديم كتاب "النهار الآتي" الصادر حديثًا في القاهرة من إعداد وتقديم أحمد سراج، وهو عمل توثيقي موسوعي يُقارب دواوين رفعت سلام من خلال مقالات نقدية لباحثين وأكاديميين عرب تتناول أعماله الشعرية الكاملة.

بتعبير عبد المطلب، فإن "هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها شعرًا لا يقدم لغة محملة بالدلالة الجمالية بهدف التوصيل، وإنما هو شعر يقدم اللغة ذاتها بوصفها المستهدَف الأصيل". وتأتي تحولات الشكل في قصيدة رفعت سلام لتواكب انزياحات اللغة، حيث يوغل الشاعر في الحيل البصرية والتشعبية والدائرية، سعيًا إلى كسر الأحادية والإيحاء بتعدد الأصوات، كما في "حجر يطفو على الماء" على سبيل المثال.

قرابة ثلاثين قراءة تضمنها "النهار الآتي"، بين الدراسات العامة ودراسات الدواوين والشهادات، لأسماء من قبيل: محمود أمين العالم، محمد عبد المطلب، اعتدال عثمان، إدوار الخراط، رمضان بسطاويسي، محمد فكري الجزار، بهاء مزيد، محمد فريد أبوسعدة، مسعود شومان، وآخرين. فإلى أي مدى توغلت هذه الأوراق في استشفاف العوالم الخاصة والسرية لرفعت سلام؟ وهل اقتصرت الجهود على ملامسة تجربته كحالة فردية، أم اتخذتها عتبة لاستشراف معالم الحداثة، بصيغها الشعرية الفنية والإنسانية؟

حساسية رفعت سلام، مراوغة في المقام الأول، وتمرُّد على إمكانية الحصر بين دفتي تأويل قرائي بعينه: "هَكَذَا أجِيْئُكُمْ عَاريًا بِلا نُبوُّةٍ وَلا شهَادَةٍ ولا رِسَالةٍ تَدَّعِي قَدَاسَةً مَا كَمَا يَدَّعِي الشُّعرَاءُ عَادَةً أوْ تَدَّعُونَ. هَكَذَا أجِيْئُكُمْ رصَاصَةً أوْ خِيَانَةً أو فضِيْحَةً وَأسَمِّي نَفْسِي انْتِهَاكًا وَالوَطَنَ مُسْتَنْقَعًا وَالبَحْرَ قُبَّرَةً وَأنْتُمْ القَتَلةَ" (ديوان: إشراقات)، وهكذا يحق للشاعر أن يتجرد من نفسه ومن الصفات والخزعبلات والتواطؤات، ليقول بثقة وحزم: "ها أنا.. هاوية بلا قرار".

ما فعله "النهار الآتي" ليس تكوين صورة كلية لرفعت سلام كحالة لا تقبل التأطير أو كنموذج حداثي دال على رؤية جيل زمني أو جماعة شعرية، إنما أسفر الكتاب عن توليد سلسلة متعددة الحلقات من الصور الجزئية الملتقطة من زوايا عدة مختلفة، بحيث ربما يكمل بعضها البعض، أو يثبت بعضها ما ينفيه البعض، فهي محطات توقُّف كثيرة تتنازع قطارًا واحدًا يأبى إلا الاستمرار في مساره صوب المستحيل.

وعلى الرغم من أنه لا فصل تعسفياً بين الشعرية الخام، الموجودة بذاتها، والقوالب الشكلية "الإنائية" التي تتسع لذلك الرحيق الإبداعي المختوم، فإن كتاب "النهار الآتي" يعيد من دون قصدٍ إثارة تلك الثنائية المتلاشية، وذلك بسبب استهلاك أكثرية الدراسات طاقاتها في اللهاث خلف جسد القصيدة ومحتوياته الفيزيائية من بناء ولغة وخطاب وصور وما إلى ذلك، فيما ندرت محاولات تصيّد الجوهر الشعري المتوهج أو الروح التي لا يُؤتى النقاد من علمها إلا قليلًا.

عناوين ومجالات دراسات الكتاب كافية للإشارة إلى ذلك الفلك التحليلي الهيكلي الذي اختارته مدارًا لها، وكذلك الفلك الشرحي التأويلي، ومنها: آليات الخطاب الشعري، الدلالة العامة لشعر رفعت سلام، الإيماءات الاستعارية للذات، السينوغرافيا الشعرية، سيمياء الصخب البصري، تعدُّد الأصوات ومقاربة الواقع الإنساني، معالجة تفكيكية لديوان رفعت سلام، وغيرها.
يبدو الشاعر رفعت سلام وكأنما قد هيأ قلعته للغزاة القادمين، الذين يعرفهم وينتظرهم بشغف، فكانت تشكيلاته المخاتلة أحيانًا كطرق تضليل اللصوص في مقابر الفراعنة، كي لا يصلوا إلى حجرة الملك، وصندوق المومياء وعلبة الجواهر.

إن ما يدخره الشاعر هو ضمانه الوحيد لكي تبقى شعرية القصيدة بمنأى عن اصطياد غير واعٍ ينشغل بالدهاليز، مُهملًا الكنز المتاح لقارئ عادي، بشرط امتلاكه بوصلة هادية محلها القلب، وخريطة مُرشدة تنتمي رموزها إلى الحياة المباشرة، بخبراتها وحركاتها الرشيدة والعشوائية، حيث تبتسم "وردة الفوضى الجميلة" لطفل منكوش الشعر يعرف كيف ومتى يستنشقها.

ويبقى الأمر الأكثر إثارة للدهشة، أن مجموعة من دراسات "النهار الآتي" تعاملت مع شعرية رفعت سلام بوصفها نهارًا لم يأتِ بعد، وقد علقت هذه الدراسات التأويلية والشكلانية الهشة عجزها على شماعة "الغموض الشعري" أحيانًا، وعلى "ضعف الفاعلية الجمالية الدالة" في أحيان أخرى، واصفة هذا الشعر "الحداثي" بأنه يلزمه الإجهاد التحليلي والإعمال الذهني للوصول إلى جمالياته، وهذا غير متاح للذائقة الاعتيادية.

من هذه القراءات دراسة الناقد محمود أمين العالم، التي استطردت في إيجاد مبررات لهذا الانغلاق في تجربة سلام، منها أن "مصدر الخبرة الشعرية في هذا الشعر الحداثي تكاد تكون ثقافية قرائية، معرفية، أكثر مما هي خبرات إنسانية حية". ويتبين محمود العالم ذلك "في غلبة الاتجاه إلى الإحالات التناصية التراثية والتاريخية، وهيمنة الطابع الثقافي التجريدي في نسيج الشعر وصوره ودلالاته، على حساب الخبرة الإنسانية الحية".

في الجانب الآخر، لم تتوقف دراسات الأجيال الجديدة والشباب في "النهار الآتي" عند هذه الإشكالات الوهمية والتعسفية النابعة في الحقيقة من عدم توفر الأهلية الكافية للتعاطي مع شذرات الشعر ونسائمه التي لا تخطئها الحواس الفطرية السليمة: "ارتَدَيتُ أَبهَى الثِّيَابِ وَالشَّهَوَاتِ كَي أَلِيقَ بِكُم، وَضَعتُ زِينَتِي وَعِطرِي، شَقَقتُ الثَّوبَ عَن مَوَاضِعَ الفِتنَةِ، وَرَفَعتُ أَعلاَمِي عَلَى الأَسوَارِ المُبَاحَةِ" (ديوان: هكذا تكلم الكركدن).

إن هذه القراءات الشابة استطاعت تخطي الحواجز المحيطة بالتجربة، والتساؤلات الميتافيزيقية حول ما إذا كانت القصيدة الحداثية ترتدي أقنعة ثقافية متعالية لا تليق بالثورية والنزعة التقدمية أم أن المشكلة لدى المتلقي؟

وقد أفرز الاقتحام الحيوي لتجربة رفعت سلام، من داخلها، كشف ماهيات الوعي بالواقع في قصائده، وأبجديات الحقيقة العارية، وتماهي الكتابة والحلم، وغيرها من التمظهرات الفنية التي تبلور الشعرية كغاية بحد ذاتها، وكمدخل لتلمس الحياة واستكناه الوجود: "لَستُ عُصفُورَةً، أَو مَطَرَة/ لَستُ شَجَرَةً، أَو قُبَّـرَة/ أَنَا الحَجَرُ المَطرُوحُ فِي المُفتَرَق" (هكذا تكلم الكركدن).

هكذا، على سبيل المثال، وصل الناقد صلاح فاروق العايدي ببساطة إلى الإمكانات الطبيعية لقصيدة سلام، حيث لم تعد مجرد تجربة فنية، بل أصبحت "كونًا" كاملاً، يوازي التاريخ الإنساني كله، كما لم تعد "عالما" شعريًّا يخص الشاعر وحده، بقدر ما هي تاريخ ثقافي لحياة هذا الإنسان.

من هنا، فإن إعادة إنشاء القصيدة من العدم، قد تحمل في طياتها إفساحًا للمجال من أجل التطهُّر الكلي، لتكون المساحة خالية أمام الذات الشاعرة لكي ترى بعين البصيرة المجردة ما لا يراه الإنسان المُحمَّل بتاريخ من الوعي الزائف.

"النهار الآتي"، زخم نقدي حول تجربة رفعت سلام الثرية، وخطوة في طريق الإصدارات التوثيقية التي تتناول النماذج الإبداعية الطليعية والمؤثرة. ويبقى السؤال: هل الأفضل أن يكون للانتقاء الصارم دور في مثل هذه الأعمال الموسوعية؟ أم تقتضي الأمانة حشد كل ما هو متاح من الدراسات؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها