الجمعة 2018/09/21

آخر تحديث: 11:17 (بيروت)

"ورد مسموم" لأحمد صالح: واقعية بلا يأس ولا أمل

الجمعة 2018/09/21
increase حجم الخط decrease
"في السينما المصرية، أحياء الطبقة العاملة هي مناطق للجريمة، لكن في الحقيقة هي أماكن للإنتاج... لإنتاج الحياة".

في الندوة التي أعقبت العرض فيمله "ورد مسموم" (2018)، في لندن، يطرح المخرج المصري، أحمد فوزي صالح، تعليقه هذا، في إطار مقارنة عابرة بين "الواقعي" السينمائي، والواقع. ولا يدعي صالح لاحقاً أن "ورد مسموم"، يقدم صورة مطابقة للواقع، أو أكثر قرباً له من غيره، بل على العكس. فوراء كل محاولة لتمثيل الواقع، أساس إيديولوجي يلونها، ويحدد زواياها، ولذا بدا صالح أكثر اتساقاً مع نفسه، وهو يؤكد لجمهور اللقاء، مرة بعد أخرى، مرجعيته التي تحدد عمله، وبأنه ماركسي وصوفي أيضاً. 

يبدأ الفيلم، بمشهد لتدفق الماء في أحد شوارع القاهرة. تبدو اللقطة من أعلى، والتي تتبع خوض عربة "كارو" بحصانها، للجدول الصناعي، مشبعة بجماليات غير متوقعة. فمشهد مياه الصرف، الجارية في عرض الطريق، واندفاعها المفاجئ من أحد مواسير الصرف، على وقع خريرها، وبدلاً من أن يُوظَّف في إظهار القبح وفقر الخدمات، كما قد نتصور، فإنه على العكس يجلب معه شعوراً بالألفة ولذة الاسترخاء. ولا يبدو الأمر تمجيداً للبؤس، أو تجميلاً له، بقدر ما هو محاولة للنظر إلى منطقة "المدابغ"، من الداخل، أي برؤية الحي العمالي، كساحة للمألوف واليومي لسكانها، وساحة لتدفق الحياة ودوراتها، كما هي بالنسبة لأهلها. يلخص صالح، لاحقاً في نقاشه مع الجمهور، هذه الرؤية، بالقول إنها تنطلق من موقف من العالم "لا يحمل يأساً، ولا أملاً".

يذكرنا "ورد مسموم" بأن عدسة السينما برجوازية بالتعريف، وربما كولونيالية أيضاً. وكان رواد الواقعية الاشتراكية، واعين لهذا، أكثر من غيرهم، وأنتجوا بحسب الجماليات الستالينية، أعمالاً طغى عليها تمجيد الطبقة العاملة وبطولتها على أي شيء آخر. أما سينما الموجة الجديدة البريطانية، والتي ارتبط بها أكثر من غيرها مفهوم سينما الطبقة العاملة، فإن واحدة من أهم مصادر إلهامها كانت موجة الكتابة المعروفة باسم "الشباب الغاضبين". فتصوير الفوارق الطبقية، وقهرية علاقاتها، كانت في القلب من الإبداع الأدبي والسينمائي البريطاني في مطلع الستينات. أما في مصر، فإن الواقعية الجديدة الإيطالية، ربما كان لها التأثير الأكبر، ومن موقع برجوازي، اكتفت السينما المصرية، في معظمها، بواقعية "عمال الياقات البيضاء"، وموظفي قاع الطبقة الوسطى، أو بالنظر من أعلى، وبشفقة، للبؤس اليومي للريف والطبقات الشعبية.


وفي هذا، يعيد لنا "ورد مسموم" بعض القناعة بأن الاستئثار البرجوازي، بعدسة الكاميرا، يمكن زعزعته، ومن دون بطولية أو غضب أو شفقة. تراجع صنّاع الفيلم، وهم يقتبسون من رواية أحمد زغلول الشيطي، "وردة سامة لصقر"، عن قصة الحب ذات العلامات الطبقية، بين الفقير والغني، إذ لا حاجة لوضع محددات لصورة الطبقات الشعبية من خارجها. تبقى العلاقة الملتبسة بين "صقر" وأخته "تحية"، هي محور السردية. فتلميحات لانجذاب شبقي بين تحية وأخيها، تبدو مقصودة لتشويش جمهور يرى العالم من موقع "برجوازي"، ولتضليله عمداً، إلى طريق التفسير الجنسي للعلاقة. فحميمية "التضامن" بصورتها تلك، التي يصورها الفيلم، عصية على استيعاب العين البرجوازية، كما يقول مخرجه، في سياق رده على أحد أسئلة الجمهور.  

لكن الحكاية تلعب دوراً متواضعاً في صياغة الفيلم، فخلفية الحدث الدرامي هي موضوعه الرئيسي. يبدو الفيلم في معظمه، امتداداً لفيلم صالح الوثائقي السابق، "جلد حي"، والذي يسجل الحياة اليومية للأطفال العاملين في مدابغ الحي نفسه. يطرح "ورد مسموم" عمليات الإنتاج بوصفها طقساً له أبعاد روحية. فأبطال الفيلم، في روتينهم اليومي، يأخذون مواقعهم، ليس بوصفهم جزءاً من ماكينة للإنتاج الاقتصادي والمادي فحسب، بل في القلب من عملية إنتاج الحياة نفسها. لا ينجر صالح إلى فخ تمجيد العمل، فبعض أبطاله تتهاوى أجسادهم تحت تأثير بيئة العمل عالية التلوث وغير الآمنة.

تكشف مشاهد "العمل"، وصوت هدير الماكينات، الذي خُلق، في الفيلم، بالاعتماد على إيقاعات الإنشاد الصوفي، إلى تلك المطابقة المدهشة، في التكرار، والتدفق، والحركة في دوائر المعاناة والخلق، التي يتضمنها كل من العمل والطقس الصوفي. يحملنا الفيلم من مياه الصرف إلى الأبخرة السامة للمدابغ، في رحلات يومية، خلف أبطاله، كـ"السعي"، في حواري الحي الضيقة، بلا ضغينة، وبلا غضب، أو رغبة في إطلاق الأحكام، معنياً بالأساس، بسحب جمهوره خطوة خطوة إلى حالة من الوجد الصوفي. تلك المدفوعة باليأس من قسوة العالم، وفي الوقت نفسه بالأمل في طاقة الحب الإلهي الحاضرة فيه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها