الأحد 2018/09/02

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

أزمة محمد صلاح: الجماهيرية تفكك عقدة الخوف

الأحد 2018/09/02
أزمة محمد صلاح: الجماهيرية تفكك عقدة الخوف
معركة "صلاح - اتحاد الكرة"، انتهت سريعًا بانسحاب الطرف الثاني
increase حجم الخط decrease
إذا كانت "المصداقية" هي أندر الموارد حقًّا في عصرنا المعلوماتي الراهن، فهل تملك القوة الناعمة، في مساعيها الحثيثة إلى الإقناع والتأثير والسيطرة، ما هو أعظم وأخطر من ثقافة الفعل والقدرة على التغيير؟


منذ قرون، والأنظمة السلطوية على حالها ودأبها في زراعة عُقدة الخوف لدى الشعوب المقهورة، المستكينة بالإكراه. فهناك ماكينة "أنا أو الفوضى" التي تديرها أذرع السلطة لإشاعة البلبلة حال الخروج على "الاستقرار". وهناك وسائل إخضاع الأفراد والمؤسسات والمعارضين ومحاصرتهم وتشويههم. وهناك الأبواق الإعلامية والدينية الموجهة لتخوين وتكفير المنبوذين.

هي ثقافة كاملة للخوف، تبدو مضادة لثقافة التغيير التي تسعى السلطة إلى وأدها في مهدها، قبل أن يظهر لها رأس وتنمو لها أطراف. من ملامح هذه الثقافة الاستبدادية، كركيزة من ركائز تدعيم السلطة وفرض شرعيتها المطلقة، أن الأمن له ثمن غالٍ، هو الاستسلام للقهر وقبول الأمر الواقع. فالبديل قد يتطور إلى وضعية مفجعة من التقاتل والحروب الأهلية. وهكذا، قد يصير الحلم كابوسًا، وتتحول ثقافة التغيير إلى وجه من وجوه إلقاء الذات في التهلكة.

على أن القوة الناعمة، بروافدها السحرية المتجددة، لا تتوقف عن تفجير الأمل، وإزاحة الصخور التي تعترضها بتيارها البركاني، الذي يستمد وهجه من أسطورة اسمها "البطل المخلّص"، لا تكتمل على الأرض إلا بالتفاف الجماهير وتآزرها.

وتصل الدهشة إلى منتهاها، والإبهار إلى ذروته، بتحولات كرة القدم وتجلياتها الأخيرة، لتتطور من لعبة ترفيهية إلى ثقافة جمالية، وصناعة اقتصادية عملاقة، ونموذج من نماذج العولمة، لتنتسب إلى القوة الناعمة الحاضنة للأفكار والثقافات والفنون وسائر المعنويات الإنسانية، فضلًا عن كونها سلعة رائجة بامتياز. ومن ثم يصير المؤثرون في ميدان اللعبة، صنّاعًا للأحداث في العالم، بل ومن أكثر الشخصيات حضورًا وتأثيرًا.

في هذا الإطار، هل يمكن النظر إلى ما جرى من خلاف بين اللاعب محمد صلاح واتحاد الكرة المصري، بوصفه مجرد أزمة عابرة، كما يروج البعض، أم أن الأمر أعمق من ذلك؟ إذ تتلاقى عادة أسلحة قتل النجومية وآليات زراعة ثقافة الخوف، من كل حدب وصوب، من أجل محاربة كل متفوق صاحب استقلالية وتأثير، فزعًا من التفاف الجماهير حوله، وتحوله إلى رمز للبطولة الشعبية ومركز قوة يناهض الأركان الثابتة.

لو أن الأمر حدث رياضي طبيعي، لما سلك هذا الدرب من العصبية والتشنج، والهجوم والهجوم المضاد، وحروب تكسير العظام. لقد صار محمد صلاح، بشخصه لا بما ورد من وقائع تتعلق به، في مرمى نيران مثقفي الدولة وإعلامييها. وبدا، وهو يدافع عن نفسه بالتغريدات الصغيرة والفيديوهات كأنما هو في مواجهة سلطة مركزية هشة، تكاد تتهاوى أركانها أمام البطل الشعبي والجماهيرية والحشد، والوحش الإلكتروني الذي له أنياب مجرّبة في الثورات العربية، فبضغطة زر واحدة يمتلك اللاعب النجم زعزعة الساكن وإحداث الخلخلة والحراك.

تبدو القصة بالتأكيد أكبر من صراع بين لاعب واتحاد كرة. فهي تحركات إدارية مريبة إزاء تلك الرغبة المتنامية في التحرر من عُقدة الخوف، وهي من جهة أخرى رسالة تفيد بيقظة الجماهير وسيولتها وثوريتها في مواجهة سلطات متحجرة تخشى التغيير، والشعبية، وتقاوم تعلق القلوب بالنجوم.

ليس "المدعو محمد صلاح"، وفق صيغة خطاب اتحاد الكرة الذي أراد تحقير اللاعب، هو أول من قوبل بهذه التصرفات الرسمية المعادية بسبب شعبيته الجارفة. فقد تعرض قبله عمرو موسى ومحمد البرادعي وأحمد زويل وغيرهم، إلى سيل من الشائعات والاتهامات بهدف الانتقاص منهم وهز صورتهم أمام الرأي العام. وتردد بقوة أن عزل عمرو موسى من منصبه كوزير للخارجية في العام 2001، كان بسبب خوف الرئيس الأسبق مبارك من تنامي شعبيته الجارفة التي عبّر عنها المطرب شعبان عبد الرحيم "أنا بكره إسرائيل.. وشمعون ويا شارون، وبحب عمرو موسى.. بكلامه الموزون".

كان يمكن احتواء "مشكلة" محمد صلاح ببساطة، لو أن اتحاد الكرة التفت مبكرًا إلى مطالبه ورسائل وكيل أعماله رامي عباس، وتعامل معها بجدية، خصوصًا أن غالبيتها منطقية، من قبيل الحفاظ على حقوق اللاعب وعقوده الإعلانية، وحمايته من المتطفلين في الفندق من خلال حراسة خاصة، وتأمين رحلات طيران مريحة، وما إلى ذلك. لكن التجاهل المستمر جاء بهدف استفزاز اللاعب، ليرسل وكيله الخطاب محل الجدل إلى اتحاد الكرة، مهددًا بإقالة الاتحاد في حالة عدم الاستجابة، وهو التهديد الذي يخرج عن دائرة المنطق والصلاحية.

هكذا سنحت "الفرصة" للمتنمرين للانقضاض على صلاح، بهدف هدم صورة البطل الشعبي، صاحب التأثير، والقائد الذي بإمكانه حث الملايين على التغيير. وتحول هيكل اتحاد الكرة إلى رمز للسلطة التي يجب لعن كل من يحاول المساس بها، وأطلقت الأبواق الدعائية اتهاماتها الخائبة، التي من أطرفها أن لاعب ليفربول، وأفضل لاعب في الدوري الإنكليزي، يفتعل أزمة من أجل "الاشتهار" على حساب اتحاد الكرة المصري.. وكأنه بحاجة إلى ذلك لتحقيق شهرة يمتلكها أصلاً!

لم يفقه أصحاب الكهنوت أن محمد صلاح، قد بعث ثقافة التغيير بالفعل من ركودها، وأن الجماهيرية الواسعة التي يتحصن بها، أسهمت في قهر عُقدة الخوف لدى الكثيرين. وأمام خيبة الأمل التي فوجئ بها اتحاد الكرة ومناصروه من أبواق السلطة الإعلاميين والرياضيين، اضطر بعض مهاجمي صلاح إلى التراجع وإنكار الاتهامات والشتائم التي ألصقوها به بوصفه مغرورًا، ومتعاليًا، وخائنًا للوطنية، وداعيًا للتفرقة بين اللاعبين، وصاحب التجاوزات غير المسبوقة. كما تراجع اتحاد الكرة، مجبرًا، عن قراره بتحويل صلاح إلى التحقيق.

لقد انقلب السحر على الساحر في واقعة محمد صلاح، ووجدت السلطة التي طالما تولت زراعة ثقافة الخوف في قلوب الجماهير، نفسها في مهب الريح، مرتعدة من الخوف أمام ثقافة التغيير الوليدة، التي تمتلكها الجماهير، والأصابع الصغيرة القادرة على تحريك الحشود نحو إحقاق الحق، ودرء المفاسد التي تجاوزت كل الحدود في حالة اتحاد الكرة، وفق ما شرحه صلاح بالتفصيل في الفيديو الشهير.

معركة "صلاح - اتحاد الكرة"، التي انتهت سريعًا بانسحاب الطرف الثاني صاحب كل الأسلحة السلطوية لاستشعاره بالتهافت وضعف الحيلة، هي نقطة تحوّل في مسار الجماهير المتلاحمة، التي أيقنت أن لإرادتها الحرة واختياراتها النوعية الواعية الكلمة العليا في الميدان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها