الثلاثاء 2018/09/18

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

فاليسكا غريسباخ لـ"المدن": تشغلني ميلانكوليا الذكر الوحيد

الثلاثاء 2018/09/18
increase حجم الخط decrease
"مدرسة برلين" ليس إشارة إلى مكان بعينه أو موقع حضري في العاصمة الألمانية، لكنه بالأحرى المصطلح المشهور لدى الباحثين السينمائيين لوصف مجموعة من السينمائيين الألمان المعاصرين الذين يعملون بحساسية خاصة على الشكل السينمائي ضمن إطار الواقعية الجديدة منذ أوائل التسعينيات. أسماء مثل كريستيان بيزولد، وأنجيلا شانيليك، وكريستوف هوشهاوزلير، ومارين آدي، وأولريتش كولر، وفاليسكا غريسباخ، شكّلوا ما يشبه موجة سينمائية رفدت السينما الألمانية والعالمية بأنفاس جديدة وملامح جمالية تستفيد من إطار وتقنيات السرد الطبيعي.

في أفلامها، تستكشف المخرجة والكاتبة فاليسكا غريسباخ*، عبر اقتصاد سردي وأدوات طليعية في حدّها الأدنى، تبدو لشدة بساطتها اعتلالاً أو نقص مهارة، في نظر متفرج غير معتاد على سينما تنتقل بخفة ريشة طائر تحمل معها ألماً خفيفاً وحِسّاً واقعياً لا تخطئه عين. من تلك الناحية، ثمة تشابه لافت وغريب بين سينما غريسباخ وسينما واحد من "الأوتسايدرز" الآخرين في الجانب الآخر من العالم، الكوري هونغ سانغ سو. لكن ما يُحسب للسينمائية الألمانية وما يميّزها عن الكثيرين هو قدرتها على بعث الحياة في كل مشهد، لتجد أنك في كل لحظة من لحظات أفلامها، تقف في منتصف حياة ما، وفي كثير من اللحظات، يصبح الفيلم أكبر من حياة.

أكملت غريسباخ دراستها في أكاديمية الفيلم في فيينا، على يد مايكل هانيكي، من بين آخرين. أنجزت فيلم تخرجها بعنوان "نجمتي" (2001) أثناء تلقيها أحد الفصول الدراسية في برلين، حيث تعيش الآن. في "نجمتي"، تقوم غريسباغ بإدراة ممثليها من الهواة الصغار على أساس سيناريو تخطيطي، فتشهدنا على هؤلاء المراهقين في اقترابهم من الحب، وفي الأثناء تقدّم بورتريها رقيقاً لواحدة من أقدم الضواحي البرلينية. يقف "نجمتي" في منطقة ترانزيت واقعية طبيعية، حيث تظهر إشارات متكررة إلى سينما موريس بيالا، وبدايات ميلوش فورمان. وفي فيلمها التالي، "شوق" (2006)، تنقل أسئلة الحب والعلاقات الإنسانية من عالم الصغار إلى الكبار، لتتفحّص الكيفية التي نرتبط فيها "كممثلين لحياتنا الخاصة" بالقصص وغموض الحب والمفاهيم الرومانسية ودراما الحياة.

بعد مرور 11 عاماً، تقدم غريسباخ فيلمها الروائي الثالث، "ويسترن"، ومرة أخرى مع ممثلين غير محترفين في موقع بناء على الحدود البلغارية اليونانية. مجموعة من عمال البناء الألمان يراوح بهم الفيلم بين أفلام الويسترن والحاضر الأوروبي. الأرض الغريبة والمشهد المتقشف والطبيعة البكر يوقظون رغبة المغامرة بين الرجال. في الوقت نفسه، يواجهون أحكامهم المسبقة وتنميطاتهم وانعدام الثقة. بالنسبة لرجلين منهما، تصبح القرية المجاورة ساحة تنافس من أجل استحقاق اعتراف القرويين أو السيطرة عليهم. فيلم يُطبخ على نار هادئة، ليقدّم رحلة شائقة وملهمة تفتح الكثير من الأسئلة حول الذاتي والعام، وتساؤلات تمتد من تمثيلات الذكورة على الشاشة وحتى صعود اليمين المتطرف في أوروبا.

"المدن" التقت فاليسكا غريسباخ للحديث معها حول فيلمها، واللعب مع النوع السينمائي، والرجال الحقيقيين، والتوقعات الخاطئة.


- تدركين أنك ستعملين على مشاريعك لفترة طويلة قبل أن تبدأ فعلياً. كم من الوقت استغرقت هذه المرة وأين كانت نقطة انطلاق الرحلة؟

*لقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً هذه المرة، لكنني أخذت فعلياً وقتي لأن الحياة بين الأفلام تحدث بالفعل. لأنني أنجبت ابنتي، ولأنني عملت في مشروع آخر وتعلمت أيضاً، ولكن أيضا لأن "ويسترن" أخذ فترة تخطيط أطول. فكرت طويلاً وبقوة حول الموضوع والقصة حتى كتبت السيناريو. كانت نقطة الانطلاق هي افتتاني بأفلام الويسترن، الذي يعود إلى زمن بعيد عندما كنت طفلة صغيرة ومن غرفة تلفزيون أجدادي، حيث شاهدت تلك الأفلام مع والدي. حين كبرت، رغبت في الوصول إلى جوهر ذلك الافتتان، ومقاربة ميلانكولية هذا الذكر الوحيد، على طريقتي الخاصة.

- بعد مرور 11 عامًا على فيلمك الرومانسي الرقيق "شوق"، تعودين بفيلم عن عمال البناء في فيلمك الجديد "ويسترن". هل هناك رابط مباشر بين العملين؟

اعتقدت أن لدينا نموذجين ألمانيين هنا، وهما بطلا "شوق" و"ويسترن"، كلاهما يشتركان في الإيمان بأن الحياة مدينة لهما بمغامرة. يمكنك أن تجد رابطاً في تلك الفكرة. بالنسبة اليّ، السؤال هو، ما الذي يدور أيضاً في حياة هؤلاء الأبطال وحيوات المحيطين بهم يُمكُننا كمشاهدين من إقامة علاقة معهم؟

- مثل هذه الأطروحة يمكن لفكرة الصراع الدرامي تقديمها، وهي تلعب بالفعل دوراً كبيراً في "ويسترن".

* تساءلت لفترة طويلة، عما إذا كان لا بد لي من إنجاز المواجهة وكشف الأوراق بين الأطراف المتنازعة، على الأقل كهدف درامي. لكنني لاحظت أنني أكثر اهتماماً بما يتفاوض عليه الرجال أيضاً: مسألة كيف يراك الآخرون ورؤيتك لنفسك، والتساؤل حول المدى الذي يمكنك السماح به للاقتراب من شخص آخر. أيضاً، ما لا يباعد بين الرجلين، يقرّبهما أكثر. لكنني لاحظت مدى قوة فكرة الصراع والمواجهة، ومدى قوة الويسترن كنوع سينمائي، وكيف تصبح التوقعات كبيرة بصورة تلقائية.

- هل هذا هو صراع المخرج مع النوع السينمائي؟ وكيف يتطور النوع ليخلق مجازاته الجديدة؟

*في كل الأحوال، سيكون هناك العديد من المزالق. لقد أسرني النوع السينمائي منذ طفولتي. ليس الويسترن ما أقصده تحديداً، بل فكرة النوع بشكل عام. وجدت دائماً أنه من المثير الوقوف على ماهية المواضيع والقضايا التي يجري تناولها هنا. مجتمع يتشكّل ويكتب دستوره. ما هي قواعد اللعبة هناك؟ أي الشخصيات الأقوي وأيها يستحق التعاطف؟ هل البقاء للأصلح فعلاً؟

في أفلام الويسترن، تشغلني كل هذه الشخصيات الذكورية ذات النزعة اللااجتماعية (anti-social) التي قد ترغب في العودة إلى ديارها بعد أن ينتهي كل شيء. هذه الوجوه الملساء المغلقة، التي تخفي وراءها الكثير من العواطف. هذه الموضوعات باتصالها مع قضايا أخرى مستحدثة وراهنة، يمكن أن تخبرنا الكثير عن حال أوروبا اليوم. إلى أي مدى يشعر المرء في عالم اليوم بأهميته الذاتية، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على رؤيته للآخرين. إنها زينوفوبيا (رهاب الأجانب) كامنة لا تقتصر حدودها على ألمانيا فقط. لذلك، لم يكن النوع الويسترني شيئاً أودّ التخلّص منه، بل بالأخرى أردت التواصل معه.

- في بالحديث عن أفلام الويسترن، هل هناك أفلام معينة تنصحين بمشاهدتها؟

*"وينشستر 73" لأنتوني مان، "One-Eyed Jacks" لمارلون براندو، "غير مغفور" لإيستوود، "جوني غيتار" لنيكولاس راي، "حبيبتي كليمنتين" و"الباحثون" لجون فورد، "المقاتل" لهنري كينغ.

- هل وجدت في هذه الأفلام شيئاً يتجاوز نوعها؟ هل امتدت بينك وبينها سبل اتصال؟

*أنا متأكدة من أنه سيكون هناك أفلام أخرى في الطريق. في "وينشستر 73" أثار اهتمامي جيمس ستيوارت وكم هو ذلك "الرجل العادي"، ولكن في وقت ما يُسأل عما إذا كان يمكن حتى تخيُّل العودة إلى حياته القديمة. هذا يهمّني ويثير انتباهي في شخصية مينهارد في "ويسترن". المنطق الداخلي لأفلام الويسترن لافت ومثير للاهتمام، وهذه النظرة شغلتني بعد ذلك. ثم دخلت في مشروع الفيلم من خلال بحث تشاركي سار بالتوازي مع الكتابة. كان جيداً ومفيداً للغاية، لأنه سمح لي بتطوير قصة هؤلاء الألمان الذين يذهبون إلى بلغاريا بأجهزتهم الكبيرة ومعرفتهم، ليجدون هناك في انتظارهم فضول وعدم ثقة.

- يُلاحظ في الفيلم وجود أحكام مسبقة لدى كلا من الجانبين، القرويون البلغاريون وعمال البناء الألمانيين.

*هذا واضح، لأن كل شخصية لها تحمل تاريخاً ضمنياً، وقصة، وتأريخاً مختلفاً. في رحلاتي، أزعجني في البداية كمّ الاحترام الذي يظهر في التعامل معي كألمانية. قبل كل شيء، هناك مبالغة واضحة في التقدير، وهو أمر يتعلق بتاريخ البلغاريين وموقفهم من الألمان خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. يقول الناس "إن الألمان تغلّبوا على كل هذا وأصبحوا الآن من دول العالم الأول. علينا القيام بذلك أيضاً، نحن بحاجة إلى الحذاء الألماني للتغلب على القصور الذاتي لدينا". ومع ذلك، هذه كلها يمكن اعتبارها من قبيل قواعد الاتصال الأول. تعلمت أن أقيّم مثل هذه الجمل على هذا النحو.

- وهي أيضاً تدفع السرد إلى الأمام...

*نعم، لأنني أستطيع أن أسأل نفسي عما يدفع هذين الرجلين، مينهارد وفنسنت، في أوائل الخمسينات/منتصف الأربعينات، إلى فعل ما يفعلانه؟ ليس فقط من أجل المال، بل ما سيواجهانه. فهما لا يزالان في حاجة إلى مغامرة، وهما في تجربة بالفعل، لأنهما يحظيان بالكثير من الاحترام، ويستخدمان القرية كمرحلة لنزاعهما. من هو الشخص الذي يصل هنا؟ من الزعيم؟ من ربما يحصل على زوجة؟ إنه لقاء مثير بين نقيضين للوهلة الأولى، سرعان ما تدرك تشابههما الكبير. كلاهما يريد نفس الشيء، لكن لكل منهما طريقة مختلفة جداً في التعامل مع رغبته، واحد عدواني والأخرى لطيف.

- يبدو أن مسألة البداية الجديدة تعاودك في كل فيلم من أفلامك. في فيلمك الطويل الأول "نجمتي"، الذي يتناول حكاية الحب لمراهقين يستكشفون علاقتهم بالعالم وبأنفسهم، تختارين التعاون مع ممثلين صغار غير محترفين. ومرة أخرى في "شوق"، تعيدين اكتشاف الأسئلة نفسها مع شخصيات يمكن أن نعتبرها نسخة بالغة من شخصيات الفيلم الأول. في "ويسترن" يحدث أمر مشابه وإن بصورة مختلفة بعض الشيء. طريقتك تبدو معقدة للغاية ومحفّزة وآسرة في آن واحد.

*يمكنني التهرب من الإجابة أو الردّ بكلام من نوعية أن السينمائي يظل يصنع نفس الفيلم طول حياته. لكن بالفعل، مع "شوق" أدركت هذا الاتجاه الذي يمكن أن يبدو مفروضاً بالقوة. في ذلك الوقت، لم أشعر أنني أعيد اختراع شيء ما. أنت تحاول دائماً البقاء على اتصال مع ما لديك، وألا تنجرف وراء إغراءات سردية تقتطع من صدق ما تقوله أو ما تريد أن تعرضه. لكن بالطبع، من سيبحث وراءك سيستخلص شيئاً ما.

- ربما يكون انطباعي قوياً جداً لأنه في كل فيلم تتعاملين مع ممثلين هواة يجلبون بدورهم الكثير.

*في كل فيلم، تختلط الأوراق من جديد. أن تخلق اتصالاً بين الطبيعية والاصطناعية هي عملية مثيرة للاهتمام. الضوء والأشكال والأجساد والمسحة الوثائقية والمحتوى.. لا شيء مثالي، هناك لحظة من الاحتكاك بين الطبيعية والمبالغة والاصطناع. مع ممثلين محترفين، سيبدو الفيلم مختلفاً تماماً. هذه المجموعة من الرجال، وبعضهم يعمل بالفعل في البناء، يقولون كلاماً لا أستطيع كتابته. نثرٌ بليغ. فكرت في البداية أنه كان علي أن أقوم بتدريب نفسي وشحذ بديهتي. هم مبدعون للغاية، وكان هذا في صالح الفيلم.

- هل يمكننا اعتبار هؤلاء الرجال رعاة بقر، نشأوا في ألمانيا الشرقية، ويرتحلون الآن إلى الشرق (بلغاريا)؟

*يمكن للواحد أيضاً أن يسأل: من هو الهندي هنا؟ هل يكون هو مينهارد، الرجل الرقيق، الأنثوي؟ هل هم البلغاريون؟ الشيء الجيد هو أن تلك الطريقة لا توصل إلى استنتاج نهائي. يمكنك أيضاً قراءة ذلك بطريقة مسلية.

- ممثلوك في"ويسترن"، كما هو الحال دائماً معك، من الأشخاص العاديين. كيف تعثرين عليهم؟

*أدرك دائماً أن الأمر كله يبدأ من البروفات عندما أبدأ في المشي ورؤية الناس، حيث أحصل على خفقان القلب، أو أسمع صوتاً داخل رأسي يشجعني على التعرف على هذا الشخص. في بداية المشروع، أردت التحدث إلى الرجال والنساء عن لحظاتهم "الويسترنية" في الحياة اليومية. عن مبارزات ومواجهات خاضوها في حياتهم. ثم شاهدت، أو سمحت لنفسي بـ"لحظة البن أب" (pin-up) (ملصق يعرض شخصاً مشهوراً أو رمزاً جنسياً تم تصميمه ليتم عرضه على الحائط)، هناك يمكنك الوصول إلى شخصيات أفلام الويسترن بسرعة كبيرة، مع صور الأولاد على الجدران. بتلك الطريقة أيضاً وجدت أن بنية أجساد عمال البناء من الطراز القديم مفيدة للفيلم.

- سؤالي بالتحديد كان عن الممثل الرئيسي مينهارد نيومان.

*قبل ست سنوات عندما بدأت التفكير في المشروع، وجدت مينهارد نيومان في سوق للخيول بالقرب من برلين. فجأة كان هناك رجل يجلس هناك معتمراً قبعة رعاة البقر. لكن أكثر من كونه قبعة فقط، كان وجهه هو الذي برز لي، وكأنه خرج من فيلم. بالنسبة إلى الفيلم، كنت مهتمة بهذا التناقض بين ما يُنظر إليه على أنه فيلم روائي شبه وثائقي، ولكن أيضًا هذه اللحظات الاستثنائية، وكان هناك فجأة هذا السطح المثالي بالنسبة لي لعرض ذلك. ولكن الأمر استغرق بعض الوقت، وكذلك التعرف على بعضنا البعض. كانت عملية كاستينغ.

- أخيراً، في خضم حملة "مي تو"، يجري الكثير من النقاش حول ظروف العمل السينمائي ومواقع التصوير والحياة الخاصة، كيف تتعاملين مع مسؤليتك كمخرجة؟

*صناعة الأفلام تمتلك حميمية هائلة. يجب أن يشعر الجميع بالأمان، حتى يستطيعوا المحاولة والخطأ. لذلك يمكن أن تجدني أرفض العمل مع شخص قد يكون عظيماً في عمله، ولكنني لا أتفق معه شخصياً ولا يمكن أن يقوم بيننا انسجام. أنا أتحدث عن شيء مثل فقدان السيطرة الإيجابية.

أجد أنه من المثمر أن نعيد ونكرر مواجهة السرد التخيلي مع الواقع، كشريك سجالي للخيال. عندما كنت أصوّر فيلمي في بلغاريا، لم يغب عن بالي حقيقة أنني هنا في بلد أجنبي مع مجموعة كبيرة وممثلين غير محترفين. من ناحية، تريد كل شيء أن يكون مخططاً بشكل جيد، ومن جهة أخرى تزعجني السيطرة على كل شيء، أحاول أن أستعيد قليلاً من الفوضى المنتجة. في بعض الأحيان يكون هذا مغامر ومقلق، وفي كل الأحوال أنت تحتاج إلى حلفاء ومتعاونين لإنجاز المهمة بسلام.

*فاليسكا غريسباخ (1968) مخرجة سينمائية وكاتب سيناريو ألمانية. درست الفلسفة والأدب الألماني في برلين ثم أكملت دراسة الإخراج في أكاديمية الفيلم في فيينا. "ويسترن" هو فيلمها الثالث بعد "نجمتي" (2011) و" شوق" (2006). عُرض فيلمها الأخير في بيروت ضمن فعاليات النسخة الخامسة من "أسبوع الفيلم الألماني".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها