الثلاثاء 2018/09/18

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

"اقتلوا الفاجرة".. بدايات الرواية القومية التركية

الثلاثاء 2018/09/18
"اقتلوا الفاجرة".. بدايات الرواية القومية التركية
ستكون المعلمة الجديدة سبباً للبلاء
increase حجم الخط decrease
شابة في مقتبل العمر بتسريحة شعر قصيرة، ترتدي تنورة، تنزل من حنطور يقوده حصان. تحمل حقيبة كتلك التي يحملها الغرباء. في الشارع رجال يلبسون الطرابيش الحمراء. يراها رجل الدين فتاح أفندي، وصديقه المقرب. يقول الصديق: يبدو أنها المعلمة الجديدة في القرية. يقول فتاح أفندي: إذا كانت هذه هي المعلمة الجديدة فستكون سبباً للبلاء. يجري ذلك في بلدة صغيرة في الأقاصي. هي قرية كبيرة في الواقع. شوارعها ضيقة وبيوتها متواضعة.

القرية ليست في الصعيد المصري، والمعلمة ليست فاتن حمامة، والفيلم ليس مصرياً. إنه في الواقع فيلم تركي، والقرية في الأناضول. لقد عينت وزارة التعليم المعلمة من إسطنبول وأرسلتها إلى هذه القرية النائية كي تعلم أولادها.

"فورون قحبيه"، اضربوا الفاجرة، أو ارجموها، هو عنوان الفيلم المأخوذ من رواية بالعنوان نفسه للكاتبة التركية خالدة أديب أويدار. صدرت الرواية في العام 1926 بالحروف العربية، بعدما نُشرت متسلسلة في صحيفة "أكشام" العام 1923. صدرت للمرة الأولى بالحروف اللاتينية في العام 1934. 

وعمدت دار جان في إسطنبول إلى إصدار نسخة جديدة، بعدما قامت بتبديل الكثير من الكلمات العربية بالتركية.



وتدور أحداث الرواية أثناء الحرب الوطنية ضد اليونان. بطلة الرواية، عالية، معلمة جاءت إلى القرية من إسطنبول. هي التي كانت أقنعت المسؤولين في وزارة التعليم أن يرسلوها إلى هذه البقعة النائية من البلاد كي تساهم في القضاء على الجهل وتزرع في نفوس الطلاب حب العلم ولكن، أيضاً، حب الوطن. هي فتاة متنورة، تقدمية، ذات نزعة وطنية متقدة. هذا ما كانت عليه كاتبة الرواية في واقع الحال. عالية هي، إلى حد كبير، انعكاس لشخصية المؤلفة. في ذلك الوقت كانت تركيا هي الرجل المريض الذي ينوء تحت أحمال الفقر والجهل والتخلف. كانت البلاد على أعتاب مرحلة جديدة سوف تشهد ولادة وطن جديد من رحم الأمة المريضة المنهكة. لم تكن هذه الولادة سهلة، فقد كانت العقبات التي تحول دونها كثيرة. ليس الإحتلال الخارجي وحده، بل أيضاً القوى الرجعية المحلية  ممثلة برجال الدين المتعصبين الذين يرون أن البقاء تحت الإحتلال أفضل من الإتيان ببديل علماني "كافر".

تأخذ عالية موقعها إلى جانب التحريريين وتقوم بما يشبه الإنقلاب في المدرسة والقرية ككل. مجرد حضورها، بشخصيتها القوية، واختلاطها مع الرجال، وشجاعتها، يحدث صدمة لدى رجال الدين وأعوانهم من الإقطاع. إنها تناهض الدين والظلم الطبقي في آن واحد.

تقيم عالية في بيت رجل دين، من نوع آخر، يدعى عمر أفندي. إنه لطيف، معتدل، إنساني، ودود، دائم الإبتسام. هو وزوجته يعتبران عالية في مقام إبنتهما، التي كان المرض قد أنهى حياتها. كأن المؤلفة تريد القول أنها ليست ضد الدين بالمطلق بل ضد أولئك الذين يستغلونه ويشوهون صورته الأصيلة التي تتجلى في شخص عمر أفندي وزوجته.

فتاح أفندي، المتعصب، وجهه مثير للاشمئزاز، أسود اللحية، قذر، ذو عينان ضبابيتان، ونظرات ماكرة وخبيثة. عمر أفندي، المعتدل، ذو وجه نحيل. في المدرسة الجديدة تلاحظ عالية أن هناك تمييز في الصف. يتصرف أطفال العائلات الثرية كما لو كان لهم الحق في فعل ما يريدونه من دون حساب. هذا ما نشأوا عليه عاماً بعد عام، فيما أبناء الفقراء مذعورين، مقموعين، لا حول لهم ولا شأن. تعمد عالية إلى الإخلال بهذه المعادلة وتقلب الطاولة على أبناء الأغنياء. الكل سواسية من بعد اليوم. هذا الأمر يزعج كثيراً أوزون أفندي، الثري الذي يقف مع فتاح أفندي. يبدأ الإثنان في نسج الحيل والألاعيب ونشر الإشاعات عن عالية. ينشرون في الناس أنها فاجرة وتقيم علاقة مع قائد الثوار.

يحتدم القتال بين الثوار وجيش الإحتلال. يحتدم الصراع بين رجال الدين والمتنورين أيضاً.  يتمكن فتاح أفندي وأعوانه في تأليب الناس على المعلمة عالية. ينشر الذعر بينهم إذ يردد، أينما كان، أنها كافرة وزانية وتغوي الرجال. البلدة محافظة وثمة حساسية كبيرة في شؤون الدين والجنس.

في نهاية الرواية، وفي الوقت الذي يقترب فيه الثوار إلى مشارف القرية، بعدما كسروا شوكة المحتلين، يهب فتاح أفندي وأوزون ويصرخ في الناس في أن عالية أقامت علاقة مع توسون ويبدأ في التحريض عليها. يهجم الناس على المدرسة ويقبضون على عالية. يربطونها ويقتادونها إلى خارج القرية وهم ينهالون عليها ضرباً بالحجارة فيما فتاح أفندي يصرخ طوال الوقت: اقتلوا العاهرة.

يصل قائد الثوار متأخراً. لقد ماتت عالية، التي كان يحبها وكانت تحبه. ينتقم من فتاح أفندي وأوزن ويشنقهما.

لم تكن هذه أفضل روايات خالدة أديب أديوار. هي رواية فيها الكثير من الوعظ والميلودراما. وهي فوق ذلك تحمل في طياتها قدراً من السذاجة وتسطيح الأمور. كان هذا، في واقع الحال، شأن التجارب الروائية التي بدأت تزهر بعيداً من المنابت الأوروبية، التي نشأت الرواية ونضجت فيها كجنس أدبي. كما في إيران ومصر والشام، كذلك في تركيا، اعتبرت الرواية في ذلك الوقت ناقلة رسالة إجتماعية أو قومية أو دينية. وهي بهذا وضعت على سرير بروكرست الإيديولوجيا التي يحملها الكاتب.

وخالدة أديب، 1884-1964، هي واحدة من أكثر الشخصيات النسائية ثراءً في الساحة الأدبية والفكرية التركية، بعدما حملت أفكار المدنية والتطور وتحرر النساء والنهضة القومية. وإلى جانب الرواية، كتبت الشعر والقصة القصيرة والمسرح، وكانت صحافية مقتدرة وخطيبة مفوهة وأستاذة للأدب الإنكليزي. ناهضت أديب الملكية ووقفت إلى جانب مصطفى كمال أتاتورك، في مسيرته للتحرر القومي.

وهذا ما كانت تفعله خالدة أديب في رواياتها: أن تبث فيها أفكارها القومية وهواجسها المناهضة للتعصب الديني. وهي فعلت ذلك بقدر كبير من المباشرة وعبر تقنيات روائية جاهزة فيما كانت الحوارات بين شخصيات الرواية متخمة بالسطحية والدعاية الفجة. ويمكن ملاحظة كل ذلك في الأفلام التي أخذت متونها من تلك الروايات.

جرى تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي ثلاث مرات: عام 1949، إخراج لطفي عقاد ولعبت سزر سزين دور عالية. في العام 1964 من إخراج أورهان آكسوي، وبطولة هوليا كوج يغيت. عام 1973 من إخراج خالد رفيق وبطولة هالة سويغازي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها