الإثنين 2018/09/17

آخر تحديث: 10:57 (بيروت)

تصعيد الزفرات لرئيس الشعراء في "حديقة السعداء"

الإثنين 2018/09/17
increase حجم الخط decrease
احتلتْ واقعة كربلاء مكاناً كبيراً في الأدب العربي والأدب الفارسي على مر العصور، وتردّد صداها في الأدب التركي من خلال عدد كبير من المنظومات الشعرية، أشهرها "حديقة السعداء" التي وضعها الشاعر فضولي البغدادي باللغة الأذرية (الأذربيجانية) في القرن السادس عشر. انتشرت هذه المنظومة انتشارا عظيما، كما يُستدل من العدد الكبير من المخطوطات التي وصلتنا منها. ونجد في بعض من هذه المخطوطات منمنمات تُعتبر أقدم صور تشكيلية تمثّل النكبة الكربلائية.

وُلد فضولي البغدادي في نهاية القرن الخامس عشر، ويختلف البحاثة في تحديد مسقط رأسه، فالبعض يقول إنه رأى النور في الحلة، والبعض الآخر يقول في كربلاء، والأكيد أنه عاش حياته كلها في العراق، وأمضى فترة منها في بغداد، وقضى بالطاعون في كربلاء سنة 1556، ودُفن بحسب وصيته في باب الإمام الحسين. ذكره عباس العزاوي في "موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين"، وقال في تعريفه به: "من أشهر شعراء الترك، عراقي اسمه محمد بن سليمان البغدادي، وأصله من قبيلة البيات القديمة السكنى في العراق، اكتسب الصيت في بغداد، فنُسِب إليها، ويُلقَّب عند العثمانيين برئيس الشعراء. كان ولا يزال من فحول الشعر، مبدعا في نهجه الأدبي. ومكانته في الصف الأول، ويعدّ الترك أكابر أدبائهم المؤسسين سنان باشا وفضولي. وله نحو خاص في نظمه ونثره لا يكاد يضارعه فيه أحد. واليوم نرى الترك لا يقدّمون عليه أحدا".

استظلّ فضولي البغدادي خلال حياته بظلّ ثلاث دول، كما يؤكد الباحث عوني عمر لطفي أوغلو. في مطلع حياته، عاش الشاعر في ظل دولة "أق قوينلو" التركمانية، ونظم قصيدة بالفارسية لأمير من أمرائها يُدعى الأمير ألوند. ثم عاصر الدولة الصفوية، وكان من أول نصرائه الشاه إسماعيل الأول، مؤسس هذه الدولة وفاتح بغداد في 1508. بعد أكثر من ربع قرن، شهد فضولي انتقال السلطة إلى العثمانيين في زمن سليمان الأول الذي عيّن راتباً له، وكان له مراسلات مع السلطنة في شأنه، غير أن الأديب الكبير لم ينتقل إلى إسطنبول، واعتكف في كربلاء حيث أمضى السنوات الأخيرة من عمره.

عُرف فضولي البغدادي بتواضعه وزهده وانصرافه عن حبّ المقام، كما عُرف بثقافته الواسعة، إضافة إلى إمارته للشعر بالتركية والفارسية، كما يُعدّ من شعراء العرب، وهو القائل: "تارة قرضت الشعر بالعربية، وقد نالت قصائدي اهتمام بلغاء العرب، وكان يسيراً عليَّ لأن لغة البحث العلمي كانت عندي العربية. وتارة قرضت الشعر بالتركية، وقد امتعتُ ظرفاء الترك ببدائع الشعر التركي، ولم أكابد ضنكاً في ذلك لأن أشعاري التي نظمتُها بالتركية كانت متلائمة مع قابلية فطرية واستجابة لسليقتي. وتارة أخرى نضدتُ اللآلئ في سلك اللغة الفارسية، وقطفتُ من أغصان شجرتها ثمار القلب".

وضع فضولي عدداً كبيراً من المنظومات، منها منظومة "حديقة السعداء"، وفيها استعاد منظومة "روضة الشهداء" التي ألّفها الملّا حسين واعظ الكاشفي بالفارسية في زمنه قبل أكثر من عقدين. في تعريفه بهذه الرواية الشعرية، رأى العلّامة آغا بزرك الطغراني في موسوعته "الذريعة إلى تصانيف الشيعة"، انها ترجمة بالتركية لـ"روضة الشهداء"، واستشهد بقول الفضولي: "اقتديتُ بروضة الشهداء في الأصل وألحقتُ به الفوائد من الكتب فكان كتاباً مستقلاً". وقد جعل المؤلف هذا الكتاب في عشرة أبواب، وختمه بالحديث عن مصائب الأنبياء وسبي العترة الطاهرة. في المقابل، يذكر محمد مجيب المصري في كتابه "في الأدب الشعبي الإسلامي المقارن"، أن بعض أدباء الترك يميل "إلى القول بأن الفضولي كانت له صفة المقتبس أغلب عليه من صفة المترجم وأن النقل أفضل من الأصل"، وقد أبدع في منظومته، وهو "صاحب الفضل الأول في اخراج كتاب يتضمّن مقوّمات تعزية تركية، لم يكن لها من قبل وجود، إلى جانب ما كان معروفاً متداولاً بين الناس في الفارسية والعربية". وقد أشار الفضولي إلى هذه المسألة في مقدّمة منظومته حيث رأى "أن أشراف العرب وأكابر العجم يجتمعون في مجالسهم ليسمعوا ما يُلقى عليهم من أخبار شهداء آل البيت بالفارسية والعربية، أما أعزّة الترك، وهم الكثرة الكاثرة من أهل الدنيا، فعاجزون عن فهم ما يطوف بسمعهم من كلام في هذا الصدد، ويفوتهم منه خير كثير، ويخرجون من صفوف المستمعين كأنهم سطر زاد في الكتاب فليس له من موضع".

حزّ في نفس الشاعر "ألا يشترك جميع الناس في مأتم آل البيت"، ووضع منظومته ليخرج "لفصاح الترك ما يكفّهم عن سؤال العرب والعجم عن معنى ما يُلقى عليهم من كلام"، وكتب في مقدّمتها: "والمنة لله، فلفرقة الإسلام وزمرة أهل الإيمان سعادة تيسّرت بعادة تقرّرت، وهي إحياء ذكرى مأتم كربلاء في المحرّم من كل عام، ويمضون إلى أطراف وجوانب صحراء كربلاء، ويقيمون في تلك التربة الشريفة محافلهم ومجالسهم، ليجدّدوا ما وقع في كربلاء. وينكأوا جراحهم في قلوبهم من الحزن لأرزائهم وشدائد دهرهم". وقال في وصف كربلاء: "أرض كربلاء طاهرة وافرة البركات يتيسر فيها تحقيق الرغبات، لن يضيع يوم الحشر تسكاب العبرات وتصعيد الزفرات. والأمل لعيون بالدماء جاريات وقلوب محترقات. والقطرة من جمرة الدمع زهرة في بستان الجنان، والزفرة الصاعدة بالقلب كالدخان نخلة في روضة الرضوان".

عرفت "حديقة السعداء" نجاحاً عظيماً، ودأب الخطّاطون على نسخها منذ صدورها، ونجد مخطوطات منها مزيّنة بالمنمنمات. يحتفظ متحف جامعة هارفرد بنسخة تعود إلى العام 1575 تحوي أربع منمنمات أنجزت وفقاً للتقليد المتبع في "المدرسة الإيلخانية"، وهي المدرسة الفنية التي نشأت في ظل السلالة المغولية التي حكمت بلاد فارس والعراق وشرق الأناضول والقوقاز. تصوّر المنمنمة الأولى الإمام الحسن والإمام الحسين عند مصرع الإمام علي، وتصوّر الثانية مصرع الإمام الحسن مسموماً، وتصوّر الثالثة معركة كربلاء، أما الرابعة فتمثل أتباع أهل البيت مع الفرس الذي ركبه الإمام الحسين يوم عاشوراء، وقد سُمّي هذا الفرس بذي الجناحين لسرعته. ويمكن القول إن هذه المنمنمات تجسّد التعابير التشكيلية الأولى لموقعة كربلاء.

نقع على مخطوطين من محفوظات المكتبة الوطنية الفرنسية تحوي منمنمات تشهد على تطور هذه التعابير التشكيلية، مع نشوء المدرسة الفارسية الكبيرة التي طبعت فنّ الكتاب الإسلامي في القرن السادس عشر. يحوي المخطوط الأقدم تسع منمنمات، منها منمنمتان تصوران الحسين وسط معركة كربلاء، ومنمنمة تصور زين العابدين علي بن الحسين على المنبر في الشام ملقياً خطبته الشهيرة إثر السبي. ويحوي المخطوط الثاني أربع عشرة منمنمة، منها سبع تصور تباعاً مصرع الحسن، معركة الكوفة، معركة كربلاء في ثلاثة مشاهد، مصرع الحسين، وزين العابدين على المنبر.

على صعيد الأسلوب التشكيلي، تختلف هذه المنمنمات بشكل كبير عن تلك التي تزيّن مخطوط مكتبة هارفرد، وتتميّز بمتانة التأليف وحسن التصوير والتلوين.

يرافق هذه المنمنمات نثر فضولي البغدادي المرصّع بأبيات من الشعر، وتصوّر الحسين "ساكناً في قصرِ الهمِّ في كربلاء"، و"صابراً لكلّ مصيبة"، ثمّ "قتيلاً بطعنِ الغدرِ والظلمِ والجفاء" كما وصفه الشاعر. وتصوّر كذلك زين العابدين على المنبر في الشام، ملقياً الخطبة التي "أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب"، كما نقل الرواة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها