الثلاثاء 2018/09/11

آخر تحديث: 11:45 (بيروت)

"بيترلو" مايك لي: ديموقراطية بريطانيا المخضّبة بالدم

الثلاثاء 2018/09/11
"بيترلو" مايك لي: ديموقراطية بريطانيا المخضّبة بالدم
نعيش "بيترلو" بكلّ جوارحنا، رغم من كونها لحظة تاريخية بعيدة
increase حجم الخط decrease
من واترلو، أرض آخر معارك نابوليون التي مني فيها بالهزيمة العام 1815، ثم أرض مذبحة العام 1819 التي راح ضحيتها 17 شخصاً بالاضافة إلى مئات من الجرحى، ينبثق فيلم "بيترلو"(*) للمخرج البريطاني مايك لي، والذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان البندقية الجاري حالياً.

تتدرّج المذبحة لتصل إلى الذروة، كل تفصيل مرعب يتكشّف ببطءٍ ممنهجٍ على الشاشة الكبيرة، مايك لي لا يتردد في تصوير العنف، الجنون، الذعر والاعتداء. مع كل التفاتة من عدسته يؤكّد على مغزاه: الضحايا ليسو جنوداً، بل مدنيين عاديين. أربعون دقيقة مروّعة من عمر الفيلم الممتد ساعتين ونصف الساعة، نقضيها في أتون المجزرة، لكنّ كل دقيقة من الفيلم تروي ما خلف المجزرة، تفاصيل أدق، أكثر إثارة، صدمات صغيرة عن أسباب ونتيجة المعركة.

يبدأ مايك لي فيلمه بالظروف التي أدت الى المأساة، يبيّن أنها من مفاعيل معركة "واترلو"، كيف تُركت أرض هزيمة نابوليون بونابرت العظيم للبطالة ولأزمة معيشية خانقة ولدت غضباً ومظاهرات، تبعها عنفٌ من جنود الملك ومجزرة بحق المحتجين. "بيترلو" فيلم تاريخي "بسيط"، لكنه يرتكز على بحث معمق وينكب على تفاصيل تقدم بصرامة. عمل يصدح بإدانة للنظام السياسي، يحكي معاناة الشعب البريطاني في ذلك الوقت وتعايشه مع سلطة قضائية قاسية تصدر أحكاماً جائرة، ويخبر عن الفجوة الآخذة في الاتساع بين رأس المملكة وسكانها.

هيكلٌ كورالي يسيطر على الفيلم، هي زحمة شخصيات في المشاهد. خلال ساعتين ونيف، نمرّ على حياة برلمانيين، قضاة، ضباط وجنود الجيش، نشطاء اصلاحيين، جواسيس، صحافيين وعائلات. يأتي الفيلم في إطار روائي منظم وواضح زمنياً، يأخذ وقته ونحن نقدر ذلك، يأخذ وقته لتعريفنا إلى شخصيات "الخطباء" الذين أججوا الروح الثورية: هنري هنت (روري كينير)، القائد والمتحدث باسم الحركة الراديكالية التي تطالب بالإصلاحات وهو يؤدي دور،  الوسيط والمصلح بين الحكومة والشعب، لكنه في الوقت عينه ليبرالي ثري. نتعرّف أيضاً إلى نيللي (ماسكين بيكي)، العاملة القوية ووالدة الجندي الشاب جوزيف (ديفيد مورست) الذي عانى الصدمة إثر معركة "واترلو". شخصيات من قطبي الصراع نتعرّف اليها إذاً من خلال مشاهد الحوار الطويلة مع نمط جاف قليلاً، لتجنّب تقديم مادة وعظية أو درس تاريخي.

اعتمد لي نهجاً سردياً مستفيضاً. يوسع بيكار رؤيته عن قصد، لتشريح الحالة من خلال إكمال الفسيفساء تدريجياً، لنصل إلى الصورة الكاملة. مايك لي ليس مختلفاً في خضمّ السرد التاريخي، هو لا يتجاوز نفسه، هي السينما الواضحة التي عودنا عليها والتي يتلاعب فيها بكل تفصيلة وإيقاع.. الطريق إلى المذبحة مليء بلحظات صغيرة من الحياة الحقيقية للسينما الاجتماعية التي يشتهر بها المخرج. أمّا أبطال مايك لي، فصريحون، بأبيضهم وأسودهم، هؤلاء هم الناس الحقيقيون، هم الصورة الإجتماعية التي ركبها بكلّ دقّة، صابغاً إياها بخصائص المجتمع البريطاني، بالعادات اليومية لسكان واترلو وخصائصهم الأسرية. وهذا هو مايك لي المخلص لنهجة المعتاد: الواقعية الدقيقة في تقديم علاقات إنسانية واجتماعية واضحة وحقيقية والمنظار الاجتماعي بغض النظر عن الزمان الذي تحصل فيه قصصه.

نعيش "بيترلو" بكلّ جوارحنا، رغم كونها لحظة تاريخية بعيدة. انها طريقة هذا المخرج، المباشرة العاطفية والمليئة بالحوارات الحماسية. تغيب المفاجأت السردية. فنهاية الفيلم مُهِد لها تماماً، وهذه سينما مايك لي التي لا تفاجئ الكثيرين بل تمتاز بثباتٍ سينمائيٍ دائم.

لا شكّ أنّ ما رفع قيمة "بيترلو" أكثر، هو التصوير السينمائي من قبل ديك بوب، الذي سبق أن تعاون مع لي سينمائياً. لعب التصوير لعبته، بين الضوء الخافت في الداخل بأضواء الشموع في منازل القضاة مثلاً، فالانتقال الى الوضوح التام في المشاهد الخارجية عند الانتقال إلى المشاهد الجماهيرية في ساحات وشوارع مانشستر.

في "بيترلو" التصق مايك لي، بالمعالجة الاجتماعية الواقعية التي عوّدنا عليها، لكن في إطار غلب عليه العنف والدموية. "بيترلو" هو أكثر من مجرد ومضة عنف في التاريخ الانكليزي نقلت إلى السينما، هو نظرة الى تاريخ إنكلترا بعين مايك لي. ليس الفيلم افضل ما قدم المخرج البريطاني، لكنه بكلّ تأكيد ضمن الأعمال التي تميزه، به وعبره كشف جانباً مجهولاً منه كمخرج، وكشف النقاب عن آماله السينمائية واسعة المدى التي لا تضيق ولا تخطئ أبداً.

(*) في 16 آب/أغسطس 1819، في بريطانيا، وتحديداً في مانشستر في سانت بيتر فيلد، حصلت إحدى أكبر المذابح في التاريخ الانكليزي ضد عامة الشعب. يومها، هاجم الفرسان جمعاً من عشرات الآلاف، معظمهم من الطبقة العاملة، فضلاً عن ممثلي الصحافة والبلديات وأعضاء المنظمات التي تناضل من أجل حقوق عادلة. التجمع المسالم كان للمطالبة بإصلاحات سياسية تضمن التمثيل النيابي العادل. روايات الهجوم الدموي كانت مروعة وشغلت الصحافة لفترة من الزمن. 15 شخصاً قتلوا وأصيب المئات. ثارت ثائرة الرأي العام في أنحاء البلاد، فانطلقت شرارة التظاهرات، وكانت مجزرة واترلو نقطة تحول في عملية تقدم وتعزيز الديموقراطية في بريطانيا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها