الإثنين 2018/09/10

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

خراب البصرة الجديدة

الإثنين 2018/09/10
increase حجم الخط decrease
أُنشئت البصرة القديمة في عهد الفتوحات الكبرى، وهي "البصرة العظمى" بتعريف ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، ومعنى اسمها "في كلام العرب: الأرض الغليظة التي فيها حجارة تقلع وتقطع حوافر الدواب". وقد ذكر الشرقي بن القطامي في زمن الخليفة المنصور "أن المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها، نظروا إليها من بعيد، وأبصروا الحصى عليها، فقالوا إن هذه أرض بصرة، يعنون حصبة، فسميت بذلك". وقيل كذلك "البصرة تعريب بصراه، لأنها كانت ذات طرق كثيرة انشعبت منها إلى أماكن مختلفة". 

جعل الفاتحون من البصرة قاعدة لانطلاق الجنود نحو فتوحات جديدة. وكانت مساكنها في عهدها الأول، أكواخاً من القصب تحوّلت في زمن الأمويين إلى بيوت من الطين، ثم من الآجر. ثم بُني في وسطها جامع ومقرّ للحاكم، وأضحت مدينة مقسّمة خمسة أقسام تسكن كلّاً منها قبيلة من قبائل "أهل العالية". واندمج بهؤلاء الفاتحين، عدد من السكان الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام وباتوا من الموالي، ومعهم عمرت المدينة وازدهرت، ومنها خرجت طائفة كبيرة من المفكرين والأدباء الذين شاركوا في صناعة مجد الحضارة الإسلامية.

على مقربة من البصرة، وقعت المواجهة بين قوات علي بن أبي طالب، والصحابيَين طلحة والزبير، وشهدت عائشة هذه المعركة في هودج من حديد على ظهر جمل، فسمِّيت هذه الموقعة بـ"موقعة الجمل". تجاوزت البصرة هذه الفتنة، وعُرفت بنشاطها التجاري، وكانت فيها قناة تصلها ببغداد وتُعرف باسم نهر معقل، وقناة أخرى تلتقي دجلة قرب مدينة الإبلة وتُعرف بنهر الإبلة. على طول نهر الإبلة، امتدّت البصرة بأسواقها، وغدت محطّة تتوقّف فيها القوافل ومركزاً للتبادل التجاري، كما شهد الجغرافي شمس الدين المقدسي في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم".

تعرّضت البصرة في العصر العباسي لغزوات عديدة شُنّت عليها من الخارج، أشهرها "فتنة الزنج" العام 871. تحت عنوان "خراب البصرة"، ذكر شمس الدين الذهبي هذه الفتنة، وقال: "وفيها دخلت الزَّنج البصرة، وبذلوا السيف واستباحوا. وقتلوا بالأبلّة نَحوًا من ثلاثين ألفًا وأحرقوها فحاربهم سعيد الحاجب، واستخلص منهم كثيرًا ممّا أخذوه. ثمّ استظهروا عليه، وقتلوا من جنده مقتلةً عظيمة. ودخلوا البصرة، فيُقال إنهم قتلوا بها اثني عشر ألفًا، وخرّبوا الجامع، وهرب من سلم في البلدان، وخربت البصرة. وجرت بين الزنج وبين عساكر الخليفة عدة وقعات".

ونجد في "تاريخ اليعقوبي" وفي "تاريخ الطبري" رواية مفصّلة لهذه الواقعة التي شهدها ابن الرومي، وكتب في وصفها قصيدته المطوّلة "ذاد عن مقلتي لذيذ المنام"، وفيها أطلق لهفاته المتوالية على المدينة العظمى: "لهف نفسي عليكِ أيتها البصرة لهفاً كمثل لهب الضرام/ لهف نفسي عليك يا معدن الخيرات لهفاً يعضني إبهامي/ لهف نفسي عليك يا قبة الإسلام لهفاً يطول منه غرامي/ لهف نفسي عليك يا فرْضة البلدان لهفاً يبقى على الأعوام/ لهف نفسي لجمعك المتفاني لهف نفسي لعزَّك المستضام".

قامت البصرة من خرابها، وعمرت من جديد، وحين مرّ بها الرحالة الفارسي ناصر خسرو، العام 1052، وجدها مأهولة بشكل كثيف، غير انها فقدت مركزها مع تراجع حركة التجارة التي كانت تسلك خليج الفرات في الماضي القريب. مثل سائر المدن العراقية، خربت البصرة من جديد في زمن المغول، وظلت مهدمة جزئياً في القرن الرابع عشر، كما يجُمع الرحالة الذين مروا بها في تلك الفترة. شيئاً فشيئاً، انتقل التجمّع السكاني من "البصرة العظمى" إلى الموقع التي كانت تقوم عليه مدينة الأبلة القديمة، وفي هذا الموقع قامت البصرة الجديدة.

لم تعرف البصرة الجديدة، المجد الذي اشتهرت به البصرة القديمة، وظلّت مدينة إقليمية ثانوية في العهد العثماني الأول، ثم تحوّلت إلى إمارة محلية في مطلع القرن السابع عشر، واستقطبت التجار الأوروبيين الذين أقاموا فيها وكالات تجارية ساهمت في انعاشها. دخل البريطانيون العراق، مطلع القرن العشرين، وساهموا في بناء مرفأ البصرة الحديث الذي تحوّل بسرعة إلى المنفذ الأوّل لتجارة البلاد.

في العام 1936، زار المفكر المصري عبد الوهاب عزام، البصرة، وكتب في مجلة "الرسالة" مقالة جميلة استعاد فيها تاريخ المدينة وحاضرها. خرج الكاتب من الناصرية قاصداً البصرة، ومرّ في طريقه بمدينة الزبير التي "كانت في العصور الخالية قسماً من البصرة القديمة"، وسُميّت باسم الصحابي الزبير الذي دُفن بها، وفيها قبره، وقبر عتبة بن غزوان مؤسس البصرة في عهد عمر بن الخطاب، فقال في نفسه: "قبر العتبة يذكّرني بالفتح والتعمير، وضريح الزبير يذكّر بالخلاف والقتال بين المسلمين، وتلك أمة قد خلت. أسأل الله إصلاح النفوس وتأليف القلوب". ثم رأى قبر الحسن البصري، وقبر محمد بن يسرين من التابعين، وقال: "إن الذي يذكر الحسن يملأ نفسه الإجلال والإكبار لهذا الرجل، رجل الذكاء والعلم والفصاحة والورع والجرأة في الحق".

دخل عبد الوهاب عزام، البصرة، "وهي على ثمانية أميال إلى الشمال والشرق من البصرة القديمة التي تمّ خرابها في أوائل القرن الثامن الهجري"، وقال: "ولله ذِكَر تحيط بالداخل إلى البصرة. إنها ذِكَر الفتح والتعمير الإسلامي. إنها ذِكَر العلوم والآداب العربية. هنا ولد النحو وعلوم اللغة. هنا أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وسيبويه والأصمعي ثم الحريري، وهنا بشار وأبو نواس، وهنا أئمة المعتزلة إبراهيم النظام وأبو الهذيل العلاف، وهنا نادرة الزمان أبو عثمان الجاحظ، هنا إخوان الصفاء الذين دوّنوا خلاصة الفلسفة الإسلامية، وهنا المربد حيث كان يجتمع الشعراء والفصحاء فيستمع الناس ويقضون لمتكلم على آخر، هنا أنشد جرير والفرزدق وغيرهما".

وكتب عزام في وصف المدينة الجديدة: "البصرة اليوم مدينة عامرة كبيرة، واسعة التجارة، قد شمل التنظيم الحديث قسماً كبيراً منها، وقسمها الحديث يُسمّى العشار يقع على شط العرب، وتُشرف على هذا النهر العظيم قصور أغنياء البصرة تتباين فيها الغنى والبذخ والترف، لها مجالس على النهر وسلاليم ترسو عليها الزوارق. وعلى بضعة أميال من المدينة تقع ميناء البصرة الحديثة تدخل إليها البواخر الكبيرة، ولها مستقبل تجاري وحربي عظيم. والجهة التي بها الميناء تُسمى المعقل ويسميها الأوروبيون مركيل، وأحسبها مسماة باسم معقل بن يسار". ثمّ أضاف: "البصرة مدينة البندقية العربية فهي واقعة على شط العرب العظيم تخرج منه أنهار كثيرة تخترق المدينة، فتجد الأنهار في شوارعها الفسيحة تطل عليها الدور والبساتين".

دُهش الزائر بنخيل البصرة، واستعاد قول الأصمعي: "نظرنا فإذا ما على وجه الأرض من ذهب وفضة لا يبلغ ثمن نخل البصرة". واستطرد: "وهذا الخصب العظيم والعمران الكثيف على مقربة من البادية. فمن شاء تحضَّر ونعِم بألوان الحضارة، ومن شاء تبدّى واستمتع بحرية البداوة وبالصيد وغيره". وامتدح عناية الحكومة بالمدينة، وقال: "أصلحت الحكومة الطرق والأنهار والمستنقعات، وتوسلت بوسائل طبية كثيرة، حتى قَلَّت الحمى هناك جداً، ويُرجى أن تزول". وختم مقالته بالقول: "في البصرة مدارس أولية وابتدائية كثيرة ومدرسة متوسطة وأخرى ثانوية. والتعليم فيها يزداد ويزدهر سريعاً. وعسى أن يكون لها بعد قليل ما كان لها من مجد وصيت يوم كانت مهد العلوم العربية والإسلامية. ويعد للبصرة من موقعها وأرضها ومائها وعناية الحكومة العراقية بها، ما يضمن لها مستقبلاً زاهراً. وإنّا لنرجو أن تعيد سيرتها، ولتعمل لخير العربية والإسلام ما عملت في ماضيها إن شاء الله".

كان ذلك في العام 1936، قبل اكتشاف حقل الزبير النفطي في 1948. بدأ تصدير النفط نحو شركة "الفاو" في 1951، وأدى هذا التصدير إلى ازدهار عظيم توقّف مع اشتعال الحرب بين العراق وإيران، وما تبعه من حروب. وها هي البصرة التي وصفها عبد الله عزام بـ"مدينة البندقية العربية" تعيش اليوم خراباً يعيد إلى الذاكرة خرابها القديم ولهفات ابن الرومي عليها.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها