الثلاثاء 2018/08/07

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

"الخروج من مصر" لإيهاب حسن: ولادة ثانية..أم ولادة زائفة؟

الثلاثاء 2018/08/07
"الخروج من مصر" لإيهاب حسن: ولادة ثانية..أم ولادة زائفة؟
يضع أسرته بكل تناقضاتها، تحت المجهر، وينظر إليها بعين موضوعية محايدة، بلا اعتبارات اجتماعية
increase حجم الخط decrease
يقول موري ليفن إن الإنسان الاغترابي يغلب عليه شعور دائم بأنه غير قادر على تحقيق رسالته الصحيحة في مجتمعه، وهو المفهوم القريب لتعريف غوين نيتلر للاغتراب الذي يعتبره حالة نفسية تلازم الإنسان، تشعره بأنه غريب عن مجتمعه، أو تحول علاقاته إلى علاقات غير ودّية مع مجتمعه، بمفهوم وثقافة ذلك المجتمع.

في كتاب إيهاب حسن، الصادر مؤخراً عن دار العين بالقاهرة بعنوان "الخروج من مصر: مشاهد ومجادلات من سيرة ذاتية" وبترجمة السيد إمام، يغلف سطورَ الكتاب الشعورُ المبكر بالاغتراب والانفصال عن المجتمع المحيط وعدم الالتزام بمعاييره، بدءاً من طفولة حسن، حتى لحظة مغادرته العام 1946 إلى منفاه الذاتي في أميركا على متن السفينة "ليبرتي".
الكتاب صدر للمرة الأولى العام 1986، من جامعة جنوب إلينوي، ولم يكن مُستغرباً أن يستخدم الناقد والباحث الأميركي من أصول مصرية، إيهاب حسن، حياته الخاصة والشخصية، كموضوع للكتاب. لكن، على عكس الكثير من كتب السيرة الذاتية المليئة بالصيحات النائحة والحنين إلى الطفولة أو الوطن أو أرض الميلاد، يبدو كتاب حسن صوتاً منفرداً للحن شارد عن معزوفة الشوفينية والانتماء والوطنية وسائر المعاني التي يرسخها العقل الجمعي. لذا، يمكن اعتبارها سيرة ذاتية ما بعد حداثية بامتياز، إنسانية كوزموبوليتانية، تفكك مأساة الانسان الحديث بشكل عام، ورحلته الوجودية المستمرة في البحث عن ذاته، من خلال ولادة إيهاب الثانية عند وصوله الى أميركا. ويتساءل حسن: "هل هي ولادة ثانية، أم ولادة زائفة؟"، وكأنه من خلال كتابة سيرته الذاتية يحاول استعادة ذاكرته وذكرياته التي تخلى عنها بالكامل بإرادته عندما قرر مغادرة مصر بلا رجعة.

البدايات والنهايات 
ولو تتبعنا المقولة الشهيرة "كل كتاب يبحث عن قارئه"، نجد أن سيرة حسن، ومشاعره وحكايته، تشبه سيرة ومشاعر وغضب الكثير من المصريين، وهو يقول إن هذا العمل ليس سيرة ذاتية خيالية، كأنه يؤكد لأي قارئ متشكك، أن هذه حياته الشخصية التي ينثرها على الملأ، حتى لو عولجت المشاهد والأحداث ببعض الحرية الدرامية، تبقى في النهاية حقائق قائمة على الموثوقية والثقة المتبادلة بين الكاتب والقارئ.

يتعامل حسن بشكل ربما يكون صِدامياً، مع الذكريات والعلاقات الاجتماعية والعائلية، ومع فكرة الجذور التي يعترف بشكل صريح إنها لا تخصه ولا يفكر فيها. ويتساءل عن جدوى الجذور الفرعونية، بكل ما تحمله من متناقضات، وسفاح القربى، والآلهة الحيوانية، بالنسبة إلى فلاح يعاني المرض ويناضل في ظل تاريخ أقسى من الشمس.. ليهدم حسن كل الثوابت الفكرية والاجتماعية، المحفورة في عقول المصريين منذ زمن بعيد، من طريق التساؤلات التي يطرحها في سيرته ويتركها بلا إجابة. فيضع القارئ في مواجهة مع الخطوط الحُمر التي خطها الحكام، والكهنة والدين والسلطة، بكل أشكالها، على مر الحقبات التاريخية المختلفة في مصر.

يقول حسن "إن أبو الهول ذاته، يجثم على بعد فراسخ قليلة، حيث تحلق الغربان المصرية، في غوره الرملي في الجيزة، بوجهه المجدور، وأنفه المجدوع، وعينيه الضاريتين اللتين تحدقان في الفراغ. ومع ذلك لم يثر المخاوف بداخلي، ولم يحرك ذكريات الأسلاف، وخلفه انتصب الهرم الأكبر، الأعجوبة السابعة من أعاجيب العالم السبع، الإرادة المتعالية، في الفضاء الصحراوي. عندما نظرت إليه بعيني صبي، لم يحمل أي وعد بالنسبة لي عدا أنني يمكن أن أتسلقه ذات يوم والوصول إلى قمته المدببة، ومن ثم أؤكد نهاية مراهقتي".



مغادرة حسن لمصر ودخوله الى أميركا، تلك المشاهد المختصرة، والتي تبدأ وتنتهي على التوالي في الكتاب لتشكل إطاراً لتلك السيرة الذاتية الإنسانية شديدة الجدل، ومن خلال محتوى السيرة يشرح حسن ويفسر أسباب خروجه من مصر، التي لم يشعر أبداً بتعلق خاص بها، ولم يشعر بأهمية أي حقائق إجتماعية في حياته. ويذكر أن الأحداث المتوالية في حياته، جعلته يخطط بشكل ممنهج ودقيق لهروبه الكبير، بعدما اكتشف أن الواقع المصري قاتم وكئيب وغير محتمل. لوقت قصير حاول البحث عن ملاذ له في الدين، أو في الانضمام للكلية الحربية، لكن كل هذا لم يفلح في كسر القيود المجتمعية، ولا في تحطيم عزلته الداخليه كطفل وحيد لأسرة أرستقراطية، وعائلة مجنونة تحمل كل المتناقضات بداخلها، ليرسخ بداخله يقين ثابت، بأن مصر أرض ينعدم فيها الأمل في التقدم والنمو والتطور، وكأنه يحمل نظرة استشرافيه بعيدة لمستقبل مصر في السنوات التالية لمغادرته لها.

يستعيد حسن ذكرياته كطفل، والتي تسيطر عليها أجواء العزلة والانفصال عن الواقع التي فرضتها عليه أسرته الأرستقراطية، حيث لم يشعر في مراهقته، وبداية شبابه بالارتباط العاطفي، لا بالدولة ولا بالعائلة، ولا بالعادات، ولا بالدين الذي كان حضوره ثانوياً في عائلة حسن بشكل كامل، ولم يمثل أكثر من مجرد تعصب عرقي واجتماعي. ويذكر أنه كان طفلاً متميزاً دراسياً. ورغم تفوقه وحصوله على المركز الثاني في اللغات الأجنبية، إلا أنه رسب في اللغة العربية، حتى أن مدير المدرسة تعجب في ذلك الوقت وسأله: "لماذا يا بني؟ هل أنت رومي؟"

في سيرته الذاتية، يضع حسن، أسرته بكل تناقضاتها، تحت المجهر، وينظر إليها بعين موضوعية محايدة، بلا اعتبارات اجتماعية. لنجد أنها عائلة تبدو نموذجية، تملك المال والسلطة والوجاهة الاجتماعية، والقدرة على السفر والتنقل. لكنها عائلة تحمل جنوناً مستتراً، وعلاقات معقدة خلف المظهر الخارجي البراق. يقول حسن: "لا يوجد طفل يعرف على وجه الحقيقة أين يعيش والداه حياتيهما العميقتين، حياتيهما المحجوبتين عن الطفل، مثل الجانب المظلم من القمر". وكأنه يؤكد للقارئ أن المدوّن في تلك السيرة، ليس سوى القشرة الخارجية، التي كانت ظاهرة له وللجميع، بينما الحقيقة يمكن أن تكون مئات الحقائق المتناقضة التي لن يعرفها أحد.

من أضاع حياته.. يجدها
يتساءل حسن عن سبب اختياره لميونخ لكتابة سيرته الذاتية، عوضاً عن كل الأماكن المتاحة أمامه، ويحيل ذلك إلى أن ألمانيا لم تكن لها يوماً مستعمرات في أراضي العرب. ويستعيد المبدأ الضمني لعقدة الكولونيالية، التي تكتفي بتمجيد الاختلافات، التي تصب في صالح الذات وتستخف بغيرها من الاختلافات أو تتجاهلها. ويرى حسن هذا التمجيد الذاتي، كنوع من جنون العظمة التاريخي، الذي قرر منذ زمن طويل ألا يمنحه مكاناً في نفسه.
تخلى حسن عن كل شيء، بلا أي أثر لرثاء الذات، حتى أصبح ليس لديه ما يخسره، وفي تلك اللحظة تحديداً "وجدتُ أنني فزت بكل شيء، كل شيء". 

تحمل مذكرات حسن نزعة وجودية، مع بُعد فلسفي ميتافيزيقي، ولغة نثرية رقيقة، تقترب من الشعر في كثير من المواضع، خصوصاً تلك المناطق التي على تماس مع أفكاره عن نفسه، عندما يترك عقله للتداعي الحر، وفي تنظيراته الفلسفية حول الجمال والرغبة، والحياة والوجود. وكأنه، من خلال إعادة صياغة أفكاره، يعيد صياغة نفسه والعالم من حوله، في كيان منفصل عنه، ومواز له، يمكنه مراقبته والتعرف عليه من جديد. ويتساءل: هل يمكنه، وقد بلغ الخامسة والخمسين، في مدينة أجنبية، أن يكرر التجربة في مدينة ميلوكي، ويتركها ولا يعود إليها مطلقاً، مثلما فعل مع القاهرة؟

لقد نحّى حسن جانباً، كل الحب والعواطف والعائلة والانتماء والوطن. وعندما يحاول، مجرد محاولة، تخيل ما الذي كان يمكن أن يكون عليه شكل حياته في القاهرة، يقول إنه شيء لا يمكن احتماله. باب حديد أُحكم إغلاقه إلى الأبد. وربما تكون تلك السيرة هي مسوغه الخاص لمنفاه الذاتي في نهاية الأمر.


(*) ولد إيهاب حسن في 17 أكتوبر 1925، وغادر إلى أميركا العام 1946 بعد حصوله على منحة لدراسة الهندسة الكهربائية، تخصص بعدها في الدراسات الأدبية والإنسانية. ومن خلال 60 محاضرة و15 كتاباً، صاغ حسن مصطلح ما بعد الحداثة في الأدب بمفهومه الحالي. حيث أن منتصف الستينيات من القرن الماضي شهد تحولاً دراماتيكياً في طريقة تحدث الناس عن الأدب، ولم يكن هناك مفهوم محدد لذلك التطور. وضع حسن فروقاً بين مفهوم الحداثة في الأدب، وبين ما يمثله كُتّاب من أمثال سكوت فيتزجيرالد وإرنست هيمنغواي، ومفهوم ما بعد الحداثة الذي يتميز بتقنيات سرد مختلفة وأكثر اتساعاً يمثله كُتّاب من أمثال الأميركية توني موريسون، وصمويل بيكيت، وخورخي لويس بورخيس. مازال المصطلح، كما صاغه حسن، مستعملاً حتى الآن، بالإضافة إلى الرسم البياني والبحث الخاص به الذي نُشر العام 1971 في جامعة ويسكونسن الإنكليزية، والذي يستخدم  كمرجع يعود إليه الباحثون، عند الصراع على كيفية تصنيف الحداثة وما بعد الحداثة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها