الأحد 2018/08/05

آخر تحديث: 08:41 (بيروت)

"كريس السويسري".. جروح مفتوحة من الحرب

الأحد 2018/08/05
increase حجم الخط decrease
كرواتيا، 7 كانون الثاني / يناير 1992. في هذا اليوم، كان قد مرّ سبعة أشهر على إعلان كرواتيا، من جانب واحد، استقلالها عن يوغوسلافيا. هذا الانفصال أدّى إلى حرب أهلية مع صربيا. على بُعد بضعة كيلومترات من الحدود الصربية، عُثر على جثة الصحافي السويسري كريستيان فورتنبرغ مرتدياً زي قوات من المرتزقة الأجانب. آنيا كوفميل، ابنة عم ذلك الشاب الذي خسر حياته في وحشية الحرب، أُعجبت كثيراً به في صغرها. عندما تكبر وتصير في مثل عمره تقريباً، تقرر كوفميل أن تفعل ما كان يفعله ابن عمها: أن تحقّق وتستقصي لمعرفة ما حدث له، وفهم حقيقة تورُّط كريس في صراع تتلاعب به مصالح غير معترف بها في كثير من الأحيان.

هل كان مقامراً؟ مراسلاً حربياً وسيماً؟ هل كان على حق؟ هل كان يمينياً؟ أو يسارياً؟ لماذا عُثر على جثته في زي قوات المرتزقة على الحدود الصربية لكرواتيا؟ ماذا كان يعرف عن مُحرِّكي الحرب من خلف الستار؟ وأين مخطوطة الكتاب الذي عمل على إنجازه هناك؟ الكثير من الأسئلة. الكثير من الشكوك، تطفو في رأس السينمائية السويسرية آنيا كوفميل، وفي رأس مشاهدي فيلم "كريس السويسري"*، الذي يوثّق عملية بحث المؤلفة والمخرجة للعثور على إجابات تخصّ السرّ المؤلم في حياة أسرتها، وأيضاً التحقيق في كشف واحدة من أكثر الصفحات دراماتيكية في التاريخ الحديث، والتي ربما لم نصل إلى جميع أوجهها بعد.
منذ ما يقرب من عشر سنوات، قاربت صانعة أفلام الرسوم المتحركة آنيا كوفميل الموت الغامض لابن عمها المقرّب كريس في حرب البلقان، في فيلم قصير حمل اسمه. الآن، بعد ست سنوات من العمل والبحث، خصصت فيلماً طويلاً تستخدم فيه مزيجاً مغامراً من المواد والأنواع الفيلمية: من الرسوم المتحركة إلى التسجيلات الأرشيفية، والأفلام الوثائقية إلى الريبورتاج، لتوثيق بحثها في فيلم يبدو وصفه بـ "أنيميشن وثائقي" مخلاً للغاية.

على غرار "كريس"، فيلم الرسوم المتحركة القصير الذي أنجزته المخرجة سابقاً، تبدأ النسخة الطويلة من ذكرى تستعيد طفولة المخرجة: ضربات فرشاة على الشاشة بالأبيض الثلجي الداكن، ترسم بضعة خطوط سوداء رقيقة تتوسّع وتتحول إلى حقل ذرة هائل. حلم. يجب أن تكون هناك أرض، ليحضر مجاز الأم الطبيعة الوطن المألوف، حيث يمتد البحر كسهل منبسط ويضيع الناس أحياناً وسط الزحام. قبل أن تذهب إلى النوم بقليل، يصل الصغيرة آنيا خبر وفاة ابن عمها كريس البالغ من العمر 26 سنة، لتحلم بنفس الكابوس مرة تلو أخرى: ترى نفسها وسط غابة قاتمة من سيقان الذرة، ترسم لوحة كي تعطيها الى كريس، ولكنها تخطئ في الرسم.

على حافة الحقل الكثيف، ينبثق أيقونة طفولتها من عدمٍ ضبابي مُغطى بالثلج، ويختفي فيه، تتبعه أشكال سريالية، تطير فوق الأرض مثل أسراب نحل منذرة أو غيوم متشققة من الخفافيش. تنفذ الفتاة بجلدها، وتبحث دون جدوى عن طريق للهروب، حتى تتقطع بها السبل في قاعة مظلمة تمزّقها دوامة سوداء في الأعماق...
"كريس السويسري" يبدأ كإشادة بابن العم "الكبير" (حين قُتل كان يكبر المخرجة بستة عشر عاماً): كريستيان فورتينبرغ كان شاباً رائعاً، كتب للصحافة المحلية وسمعه الناس على الراديو يتلو تقارير إخبارية حيّة من الحرب الأهلية الفوضوية في يوغسلافيا التسعينات. لكن علامات الاستفهام الكثيرة التي تحيط بشخصه، وأشهره الأخيرة هناك تحديداً، تؤدي إلى استكشاف دقيق ومتنامٍ لطبيعة كريس، ودوره في الحرب، وسقوطه في النهاية في براثن قوى الصراع الخفية.

تبدأ آنيا كوفميل بحثها من الدائرة الأقرب، مع الوالدين والأخ، ثم توسّعها إلى زملائه الصحافيين، وترسو في النهاية مع فرقة المرتزقة الدولية، التي انضم إليها كريس في أواخر أيامه، وأبرزهم البوليفي إدواردو فلوريس والفنزويلي الأشهر كارلوس، المسجون حالياً.
هل قلب كريس الصفحة؟ أم أنه كان على استعداد للمخاطرة بحياته للإبلاغ عن الجوهر الأعمق للحرب؟ هل تلوّثت يديه بدماء ضحايا الحرب؟ بينما تحاول المخرجة معرفة المزيد عن رفاقه المرتزقة، تتقابل معهم، برباطة جأش بادية، للحديث عن أفعالهم في ذلك الوقت، وفي الأثناء، تقودهم إلى الحديث عن نظرتهم لحياتهم المنتظمة، في حضن المجتمع، بعد انتهاء الحرب. في المقابلات مع الجناة، تعود فظائع تلك الحرب إلى الحياة مرة أخرى، على نحو يذكّرنا بما فعله جوشوا أوبنهايمر في فيلمه "فعل القتل"، الذي تشير إليه آنيا كوفميل كمرجع مهم.

في امتداد الفيلم، تمكنت المخرجة من تحرير نفسها من قيود الإعجاب المبدئي ببطل طفولتها، والخروج من الأسر الضيق لحكاية عائلية مألوفة عن الفقد والخسارة، وانطلاقاً من الموت الغامض لنموذجها، تتغلغل عميقاً في اضطرابات وأهوال حرب البلقان. وفي مقابل وعيها وإدراكها بعدم مقدرتها على إيجاد إجابة لجميع أسئلتها، تشير إلى التشابكات التي كانت، بالإضافة إلى التوترات العرقية والشهوات الفردية للسلطة، مسؤولة أيضاً عن الحرب. يندمج هجين ذلك كله في وعاء مثير فنياً، حيث تُستخدم الرسوم المتحركة المونوكرومية (بالأبيض والأسود) مراراً وتكراراً لتفسير وتوضيح الروائي والتوثيقي والحلمي والممسرح من السرد.

وهكذا، فإن الذكريات الشخصية ومباحثها وامتداداتها لا تجد فقط روابط وثيقة تلضمها بالمشهد الداخلي لحرب عرقية مدمرة في فيلم يصرّ على العودة إلى مظالم الماضي، التي لم يُكفَر عن بعضها بعد؛ ولكن أيضاً بالتعصب الشبابي وجنونه، الذي يتفجّر في أي لحظة، ولا يزال.


(*) عُرض مؤخراً في بيروت ضمن فعاليات "أسبوع النقاد في بيروت"
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها