السبت 2018/08/04

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

تحية الفوتوغرافيا لأنطونيوني: في "الصحراء الحمراء" أفراد وعالَم متغيِّر

السبت 2018/08/04
increase حجم الخط decrease
لأول أفلام الإيطالي ميكال انجلو أنطونيوني الملونة صدى لا تزال تردداته تُسمع حتى اليوم في الوسط الفوتوغرافي الإيطالي المعاصر. إنه "الصحراء الحمراء"، تؤكد ماريا أنطونيلا بيليزاري المتخصصة بتاريخ الفوتوغرافيا.

أحدث الفيلم في العام 1964 انقلاباً جذرياً على المقاربة الوثائقية. كان تجريبياً من ناحية اللون والصوت وحركة الكاميرا البطيئة وهدمها للبنى السينمائية التقليدية. لقطات مرعبة لأراض شاسعة، قاحلة، احتلتها مصانع الصلب بمداخنها الشاهقة، وشواطئ يصنّع قربها الكبريت ويشحن في بواخر عملاقة. صور شكّلت الخط السردي لبيئة عند الرمق الأخير. تحدثت صور "الصحراء الحمراء" عن تحول ألوان العالم وإصطباغه بالأحمر، عن شاعرية ظهور مشهد طبيعي حداثي، حسب أنطونيوني. صور اعترفت بعالم تقاسم فضاءات البوب- آرت، وافتتحت ما بعد مينيمالية الفنون المتواضعة. أوضح أنطونيوني لزميله غودار: "ما يهم اليوم هي الأشياء والمادة!".

الفيلم سؤال عن علاقة الفرد بحاضره، نقطة تناولها رولان بارت، في خطابه "عزيزي أنطونيوني" أثناء تكريم مخرجه. لاحظ بارت حساسية أنطونيوني تجاه الحداثة، يقظته وحكمته وضعفه أمام الحاضر، وكلها مصدر الإغواء في كل أعماله. صُعق بارت بشخصياته المراوغة لكن المرتبطة بتلك الأماكن المتصحرة، لا هويات ثابتة لها، ومنفصلة عن واقعها.
تحدث بارت أيضاً عن الشك الوجودي في كل أفلامه: المجافاة في "الصحراء الحمراء"، الخداع في "بلو آب"-1966، و"المسافر"-1975. نظرة أنطونيوني الحادّة لم تطلق أحكاماً. كان تصوره خيالياً سعى فقط للتعرف على العالم المعاصر ووصفه. كان بارت واثقاً من أن بعض أبطال أنطونيوني مصورون وصحافيون، وهذا أمر بالغ الأهمية. ويضيف بارت: "أفلامه استكشاف لعلاقة الفرد، وإمكانية فهم عالم متغيّر والإرتباط به". قام "الصحراء الحمراء" على تأزم الشخصيات العاجزة عن الإندماج، وعلى مشاهد طبيعة جسّدت عجزها وغربتها وشهواتها.

اليوم، أمام ما يهدد الواقع البيئي العالمي والمشاكل السياسية المتفاقمة، ما هي إمكانية مقاربة الفوتوغرافيا المعاصرة قياساً على هذا الفيلم؟

"الصحراء الحمراء اليوم: تأثرات فوتوغرافية بفيلم أنطونيوني".. مشروع فوتوغرافي ومعرض، أطلقته ثلاث مؤسسات ثقافية: "مجموعة التصوير الفوتوغرافي"- ألمانيا، "حدود الفوتوغرافيا المعاصرة"-إيطاليا، و"معهد الفنون الغرافيكية"-لايبزيغ. قدّم هذا النشاط نظرات جيل شاب، لم يزل متأثراً بـ"الصحراء الحمراء". هدف المشروع دراسة لغة أنطونيوني ومفرداته البصرية.

ركّز المعرض على أسلوب أنطونيوني، وجماليته الساعية آنذاك لتفكيك الواقعية الفوتوغرافية.  بالنسبة لهؤلاء المصورين، ولثقافة التصوير الفوتوغرافي الإيطالي، شكّلت شاعرية العادي التافه، منطلقاً لإستكشاف المكان في زمن "ما بعد صناعي". من هنا انحياز المؤسسات الثلاث المنظّمة إلى ما يسمى اليوم في فن التصوير "الطوبوغرافيا الحديثة"، أو "فوتوغرافيا اللون الجديد" الأميركية، كما تشكّلت في السبعينيات، والجمالية البصرية العامية. أحد منطلقات هذا النشاط صور الإيطالي لويجي غيري، الذي يعدّ محور المشهد الجديد في الفوتوغرافيا الإيطالية، وكتاباته الفلسفية التي تتردد فيها أصداء أنطونيوني.

حاول غيري التخلّص من المشهد الطبيعي المفقود: "ربما تنتمي هذه الأماكن إلى وجودنا أكثر من إنتمائها إلى زمن الحداثة، أو الصحاري أو الأراضي المقفرة. ومن المحتمل أنها تنتظر مفردات بصرية جديدة". أشار غيري إلى الفيلم كنموذج لإبصار "اللحظة الحاضرة، لنتعلّم كيفية إعادة تكوين هويتنا". جعل غيري من أسلوبه أخلاقية للصورة تصالح الفرد مع بيئته، وتحوّل الهامشي إلى ما يشبه السحري. تماشى نهجه مع أنطونيوني في استكشافه للشخصية وللخلفية، للون وللزمن.

نسج المعرض حواراً بين أجيال من الفوتوغرافيين. من الرواد: فرنكو فاكاري، غيدو غويدي، وليم غويرييري، لويس بالتز. وبحث المصورون الشباب عن مفرداتهم الجديدة بعين أنطونيوني.  

صوّر أندريا برتولديو تحولات الشوارع المهجورة بين الفجر والشروق، أعادنا إلى ما أسماه غيري "محو رؤية الكاميرا، أو عتبة المرئي المبهم".

تفاعلت أعمال أليساندرا دراغوني مع الأرشفة التاريخية، ساءلت الألبومات الفوتوغرافية والصحف. بنت نوعاً من تصنيفات الأشياء والأخبار. تعاملت مع مادية الصورة، وكيف تولد من رحمها الأنواع والكليشيهات.

ظهرت روابط جمالية مع غويدي لدى فابريزيو ألبرتيني ومارسيلو غالفاني في تصويرهم الفضاءات الخالية. برهنا قدرة في النظر إلى الفراغ. للبيوت وللأبواب أبعاد نفسانية تذكّر بنظرة جوليانا (بطلة "الصحراء الحمراء") القلقة إلى الأماكن الداخلية والخارجية في تلك الصحراء. في صورهما تفاصيل نقية وأخرى ضبابية يدركها المشاهد مثل كاميرا. 
برؤية مرضية للأمكنة الداخلية تذكّر بديكور الفيلم، وبالغموض البارد لغرف الفندق، استعاد ماريو أندرياني عبر عزله للأشياء الملموسة والمساحات المرئية أمكنة مشابهة. وعيه للمكان المنسجم مع الأشياء التي تشغله، يستعيد أمكنة وليم غويرييري العمومية الخالية، الموحية بغياب الإنسان.
وجوه أليغرا مارتن سينمائية هشة، غامضة، عاجزة عن التكيف مع بيئاتها. مثل أبطال أنطونيوني. لمّح فرنشيسكو نيري، مصوّر الضواحي، إلى الأميركي واكر إيفانز. وجوه ليست موضع تصنيف مكاني أو زماني، إنما دراسة في الآني الزائل.

"الصحراء الحمراء" اليوم، فيلم يحتفظ بقدرة على إعادة التفكير بالصور في تنقلها بين الأزمنة، يقارب نظرات المصورين، ومنهم أنطونيوني، في قياسها لمدى ضعفهم وهشاشة حاضرهم.
المعرض تمرين مُقْنِع ودراسة جمالية، يترك سؤالاً عن "الآن": إذا كانت قوة الفيلم من مواجهته لحاضره، فهل عبّر المصورون اليوم عن وعي تساؤلاتهم وتعلقهم بواقعهم أو غربتهم عنه، كما عبّر أنطونيوني عن "حداثة" زمنه؟   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها