تضع المَشاهد الختامية للفيلم مؤتمر مدريد، جنباً إلى جنب مع المفاوضات السرية في أوسلو التي قادتها كوادر "منظمة التحرير" في الخارج. في الأول وجدت المرأة مكاناً لها في وفد فلسطيني الداخل للمفاوضات، وفي أوسلو لا تمثيل للنساء. عاد الرجال من المنافي، بعد اتفاقية أوسلو، وضعت السلطة الفلسطينية شرطاً إدارياً يلزم الفلسطينيات بضامن من الذكور لإصدار جوازات السفر لهن. تنتهي أوسلو باحتلال مقنّع، ومأسسة للأبوية، وخسارة لكل المكاسب الممكنة التي كان من الممكن أن يكفلها ما طرح في مؤتمر مدريد. يقدم "نائلة والانتفاضة" نسيجاً متماسكاً، وطبقة فوق أخرى من السرديات، راسماً صورة مركبة لنضال داخل نضال. النساء المناضلات ضد الاحتلال، هن نساء، وهن فلسطينيات، معاً. وفي داخل هذا النضال، النساء يناضلن أيضاً ضد نظام أبوي يضعهن على خط المواجهة دائماً، ويخاطر بهن بحسب الحاجة، وينساهن عند الجلوس للتفاوض، وتوزيع المكاسب.
لكن أي رواية للتاريخ، لا تخلو من الأيديولوجيا، بل وربما كل رواية تاريخية هي إيديولوجية في صورة سرد. فجوليا باشا التي درست العلوم السياسية في جامعة كولومبيا الأميركية، لطالما قدمت نفسها بوصفها ناشطة في مجال النضال السلمي. فكلمتان لها في مؤتمر "تيد" الشهير، كان عنوانهما كالتالي: "إمنحوا انتباهكم للاعنف" (2011)، و"كيف تخوض النساء الصراعات من دون عنف؟" (2016). وفي أول أفلامها عن فلسطين، بعنوان "نقطة المواجهة" (2006)، تتبع باشا تحولات أبطال فيلمها من سكان المستوطنات اليهود، وكيف يتحول بعضهم، محاولة أن ترسم صورة للصراع من الجانبين، وأنسنة أطرافه، بغية إيجاد أرضية مشتركة للتعايش والتفاهم.
لكن باشا لا تكتفي بطرح مفاهيمها "اللاعنفية" في أفلامها. بل تلعب قليلاً بالحقائق والإيماءات، معطية صوراً ناقصة للحدث التاريخي، عن عمد، ما يناسب قناعاتها. ففي "نائلة والانتفاضة" يفرد الفيلم مساحة لمسيرة نسوية مشتركة للإسرائيليات والفلسطينيات من القدس الغربية إلى القدس الشرقية، وتنتقل منها إلى مؤتمر مدريد. يوحي ذلك الترتيب، بأن المفاوضات كانت نتيجة، ولو غير مباشرة، للنضال السلمي والتضامن النسوي بين الطرفين. ومن دون شك، لعب التضامن النسوي دوراً لا يمكن إنكاره، لكن الانتفاضة تضمنت في الحقيقة نضالاً مسلحاً وعنيفاً، سقط جراءه من الجانب الإسرائيلي حوالى 160 قتيلاً، وأكثر من 3000 جريح. بل قامت الفصائل الفلسطينية بتصفية حوالى 880 فلسطينياً، بتهمة التعاون مع المحتل.
تتجاهل باشا كل هذا، لصالح صورة مثالية عن النضال السلمي، وتصوُّر مبتذل للنساء، بوصفهم مناضلات سلميات بالضرورة، أو الطبيعة. تدين باشا، النضال المسلح، بشكل ضمني، وتتجاهل المناضلات الفلسطينيات ممن شاركن في حمل السلاح بالكامل، وتتناسى أن النساء يشكلن خمسين في المئة من الآلة العسكرية الإسرائيلية، وأنهن شريكات النصف في جرائم الاحتلال.
وفي ما يخص المشهد الفلسطيني الداخلي، تتعمد باشا، طرح أنصاف الحقائق فقط، والصمت عن الآخر. فالفيلم يكتفي بالإشارة إلى الغبن الذي وقع على القيادات النسوية للانتفاضة من سلطة أوسلو، ويحتفي باستمرار نضالهن الحزبي أو بعملهن في منظمات المجتمع المدني. وحين تتعرض خاتمة الفيلم إلى مصائر تلك القيادات النسائية، مثل المناضلة زهيرة كمال أو ربيحة ذياب، لا تذكر على الإطلاق أنهما تولّتا حقيبة شؤون المرأة في وزارات السلطة الفلسطينية، وأصبحتا جزءاً من أوسلو بشكل أو بآخر. تخفي باشا تلك الحقيقة، ببساطة، لأنها لا تناسب سرديتها.
يظل فيلم باشا، عملاً متقناً إلى حد بعيد، ويقدم اسماً وصوتاً وصورة للانتفاضة التي أضحى جزء من تاريخها في طي النسيان. وصحيح أن سرديتها التوثيقية تبقى ناقصة، عمداً، وبدوافع إيديولوجية، لكن ككل رواية ممكنة للتاريخ.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها