الأربعاء 2018/08/29

آخر تحديث: 12:25 (بيروت)

"مشوار حياة".. رسائل الفيلسوف محمد خان

الأربعاء 2018/08/29
increase حجم الخط decrease
ربما لو أراد محمد خان تدوين سيرته لم تكن لتظهر بهذا الصدق الذي ظهرت عليه في رسائله لسعيد شيمي.


الكنز الذي أُفرج عنه مؤخراً يضم عشرات الرسائل التي أرسلها خان لصديق عمره في فترة شبابه، يمكن اعتبارها عن جدارة السيرة الأصدق لمحمد خان، فصاحبها لم يكن يفكر في نشرها، ولم يكن يعرف أصلاً أن المرسل إليه يحتفظ بها حتى قبل رحيله بشهور قليلة.

"خطابات محمد خان إلى سعيد شيمي" التي صدر الجزء الأول منها في كتاب تحت عنوان "مشوار حياة"، متضمناً رسائل خان لسعيد في الفترة ما بين 1959 وحتى 1966، تكشف وجوهاً جديدة للمخرج الكبير، كيف تكون لديه الشغف بالسينما عبر السنوات، وشكلت الأفلام عقله منذ سنوات عمره الأولى، وكيف عبّر عن لحظات الضعف والحيرة وخيبة الأمل.

تفاصيل الاكتشاف يرويها الناقد محمود عبد الشكور، في تقديمه للكتاب، ويقول إنه فوجئ ذات صباح بصور لملفات ضخمة على صفحة خان الفايسبوكية وبتعليق يعلن فيه الأخير اكتشاف احتفاظ المصور السينمائي سعيد شيمي بكل الرسائل التي أرسلها له بعدما غادر القاهرة إلى لندن ثم بيروت. طلب خان من عبد الشكور الاضطلاع بمهمة فرز الرسائل وإخراجها في كتاب، لكن المشروع تعطل حتى فوجئ الجميع بالرحيل المفاجئ لمحمد خان. بعدها تحمس شيمي، صاحب الرسائل، وأخرج الكنز للناس.

صداقة خان وشيمي بدأت عائلية، بين والد سعيد الدكتور أحمد سعيد شيمي، وحسن خان، تاجر الشاي ورئيس الجالية الباكستانية في مصر. صداقة ربما كان أساسها عشق السينما أيضاً، واستمرت وتعمقت بين الأبناء، حتى لحظة الفراق الصعبة العام 1959، حين قرر والد محمد السفر إلى المملكة المتحدة بعدما عصفت الأيام بعمله في تجاره الشاي. لكن الفراق لم يقطع الصداقة، بل امتدت عبر الرسائل وتحولت إلى نوع من أنواع التدريب اليومي على التدوين والتعبير عن المشاعر والأفكار، وإن كنا للأسف لا نرى على امتداد الكتاب، سوى وجه واحد من وجوه، هذه الصداقة حيث فُقدت رسائل شيمي إلى خان، لكن بين كل فصل وآخر يعلق شيمي على فحوى الرسائل ليضيء بعض المناطق، ويفسر الأحداث الغامضة التي ترد في الرسائل.

محظوظ شيمي بصداقة فيلسوف. فلا تخلو رسالة من رسائل خان، من نصيحة خالصة، في السينما، والحب، والصداقة، والحياة بوجه عام، محملة بأفكار فلسفية كوجه من وجوه خان المتعددة "نصيحتي لك كأخ هي القراءة، وحين أقول القراءة لا أعنى القصص والمجلات، بل الكتب عن الفلسفة أو تشريح الشخصيات.. كتب عن العقول.. عن الحياة.. صدقني إن نصيحتي مخلصة، فحاولها".

الرسائل تكشف أيضاً حجم وطبيعة الأفكار التي كانت تدور في عقل خان، وهو لم يتجاوز بعد العشرين من عمره، وكيف كانت السينما تجرى في دمائه: "هناك كاتب سينمائي توفي من زمن كبير، لكني أعتبره من أكبر الكتّاب في العالم، وقال جملة جميلة جداً عن الأفلام، وهي: الهدف هو الحياة نفسها والثمن هو الحياة نفسها.. وهذه حقيقة. فوالله أنا حبي للفن السينمائي ليس للمال فقط، فهناك شيء بيني وبين الأفلام.. إنها ليست هواية، بل حب".

ورغم الضغوط الكبيرة التي تعرض لها محمد خان، إلا أنها لم تضعف تحركاته نحو هدفه الأساسي وهو تعلم الإخراج، ولم تكن تحركاته عشوائية أبداً في هذه الناحية بالتحديد. في رسائله الأولى بعد السفر إلى لندن، يتحدث بوضوح عن خطط مستقبله، يقول إنه يخطط للالتحاق بمدرسة الفن في لندن، ليدرس الإخراج لمدة 3 سنوات، ثم يعمل كمساعد مخرج رقم 3 في أحد الاستوديوهات: "صدقني يا عزيزي إن كفاحي هذا الذي سأبدأه العام المقبل، سيستمر لمدة سبع أو عشر سنوات، إلى أن أصل إلى ما أريده. طريق طويل وزمن طويل، لكن أملي كبير لعلي أنجح في ما أطلب".

بداية من هذه الرسالة، بتاريخ 21/8/1960 تتغير طبيعة كتابة محمد خان. يتجاوز الكتابة العادية عن الأحوال، إلى الشواغل الحقيقية والأحلام، يكتب عن طموحه الكبير وما يخطط له، رغم أن الواقع ربما يكون صعباً ومعطِّلاً، بشكل يصبح معه الإخراج والعمل في السينما بشكل عام، حلماً بعيد المنال، ورغم ذلك لا يكف خان أبدا عن الحديث عنه والتخطيط له.


بعد عامين في لندن، كان خان قد عمل في وظيفتين، وشاهد 1300 فيلم، وأتعبه الحنين، حتى أصبح شيء عادي وبسيط، كحديث عابر عن عصير القصب، أو أكثر بساطة كأكمام القميص، باعثاً على الحنين والألم: "طبعاً حضرتك دلوقت لابسلي القميص الصيفي ومشمر كمامك وعاملي طرازان. أنا وحشتني القمصان الصيفي وتشمير الكمام".

يقول في رسائله الأولى أيضاً، محدثا شيمي ونفسه: "المستقبل قاس لا يرحم، وأنا أقف أمامه أخاف أن أتقدم وأخاف أن أتراجع- الحياة يا أخي اختلفت أمامي، فلست أنا الشاب المرح السعيد الذي كنت تعرفه.. أبدا.. دائماً حزين وكئيب ومشغول، وليس هناك أحد ليفهمني أو يحاول أن يفهمني، فكل ما أفعله هو أن أحاول أن أفهم نفسي، وفي سبيل هذه المحاولة أضحي بسعادتي وبوقتي".

في خطابات الفترة الأولى، تتكرر تيمة الحنين نفسها مع محاولة للبحث عن إجابات للأسئلة الكبيرة التي تدور في ذهن كل منهما. يقول في أحد خطابات 61 بعدما غادر القاهرة: "الجو هنا في أشد البرودة، والقاهرة أصبحت كحلم في عقلي بشمسها الساخنة، لكن صدقني يا أخي إنني لا أندم على حضوري إلى انكلترا، لأسباب لست أدرى إذا كنت ستفهمها. سبب رضائي عن الحياة هنا هو البحث عن معنى الحياة، فالحياة ليست أكلاً وشرباً ونساء ونوماً.. كلا.. الحياة أعمق من هذه الأشياء.. من السهل أن نأكل أو ننام مع امرأة، لكن من الصعب أن نتمتع بالحياة ونكون صادقين مع أنفسنا بأن ما نحن فيه هي السعادة. ربما السعادة الكاملة غير مخلوقة، فهي لا توجد ولن توجد".


ويقول في الخطاب نفسه: "لو أردت أن أنام مع فتاة، فأخرج وأرقص واصطاد واحدة، وفى الصباح التالي أودعها كأن لا شيء حدث.. ما أريد أن أعبّر لك عنه هو أن هذه الأشياء تافهة، أصبحت لي بغير أهمية، فما أريده هو البحث عن فلسفة للحياة".

فلسفة خان التي عبّر عنها أكثر من مرة في الرسائل، كانت تتضمن إيماناً حقيقياً بالمعاناة كجزء أصيل للتعلم والوصول إلى الأحلام. خلال تلك السنوات، تعلم خان الكثير، من الصعوبات التي واجهها في حياته: "صدقني الحياة هي كفاح مستمر ربما لا نحس به، لكنه موجود كل دقيقة وكل ثانية".

كان يؤمن أيضاً بأن الكفاح هو قدر الفنان الحقيقي وأنه –الفنان- لا تكتب له السعادة أبداً مع ذلك: "السعادة ليس للفنان أن يذوقها.. هدفه أن يعطيها للملايين.. يا أخي الفنان الصادق هو أبأس شخص في الدنيا. لماذا؟ لأنه ذاق المر والحلو، ثم وجد نفسه باحثاً عن طريقة ليسيطر على كلاهما، وصدقني لن يجد هذه الطريقة أبداً".

في تعليقه على خطابات تلك الفترة، يفسر سعيد شيمي حالة الحزن تلك، فيقول إن رجوع محمد خان إلى لندن في هذا التوقيت ارتبط بخسارة والده الكبيرة في تجارة الشاي بعد عملية نصب تعرض لها، واضطر للعودة بالأسرة كلها إلى لندن. وهناك، عمل في وظائف لا تليق بسنّه ولا بمركزه المرموق الذي حققه في مصر، كتاجر استيراد ناجح ورئيس للجالية الباكستانية في البلاد. ولهذا، كان محمد يسعى للعمل في أي وظيفة حتى لا تتدهور حالتهم الاقتصادية، وحتى يتكفل بمصاريفه، خصوصاً بعد تدهور صحة والده بشكل سريع، كما مرضت والدته وأجريت لها عملية جراحية.

في خطاب بتاريخ 1/9/1962 يكتب خان ما يشبه النبوءة التي تحققت بالفعل بعد سنوات طويلة من تاريخ هذا الخطاب، فيقول: "يا ليتني أخرج فيلماً مصرياً في يوم من الأيام، وربما أنت تكون المصور.. "، وهو ما حدث فعلاً في أول أفلام محمد خان "ضربة شمس". كان يؤمن بأن فرصته الأكبر ستكون في مصر، كانت أرض الأحلام بالنسبة إليه، أفضل أرض للتعبير السينمائي والمحاولات الجديدة: "هناك دائماً أفكار كثيرة في انتظار الجريء والمحاول".

كان يؤمن أيضاً بأهمية ما يكتبه، كأمل أخير لحفر اسمه وتخليد وجوده في حال تأخر حلم الإخراج: "الحقيقة ستظل في كل ما أكتبه حلوة ومُرة.. ربما ما أكتبه لن يقرأه أي شخص في هذه الدنيا، ولو قرأ ربما بعد موتي، ولكن لن أكف عن الكتابة بأي ثمن". وكأنها نبوءة أخرى، لذا لم يكن خان يتعامل مع الرسائل باستهانة أبداً، كان ربما يدرك أنه يدون سيرته بشكل ما: "إنني أفخر بأنني أستطيع أن أكتب.. لا أفخر على الناس أو على نفسي بل أفخر بتلك الهدية الدائمة التي أهداها الله لي.. أكتب كما أشعر.. أعبّر كما أرى.. هذه الهدية أغلى من روحي.. أجد نفسي يا أخي أتفلسف بدون قوانين الفلسفة.. أتكلم بدون قوانين الكلام وأكتب بدون قوانين الكتابة.. أجد نفسي أكتب بتفكيري فقط.. لا يهمني كيف تكون الجملة أو الهجاء بل يهمني ما تحمله الجملة ومقدار الشعور الذي بها".

كان خان يرسل مقالات عديدة لنشرها في صحف ومجلات القاهرة، وكان شيمي مكلفاً بحفظها وإرسالها له بشكل منتظم، كانت وسيلته الوحيدة وقتها للتعبير عما يجول في عقله من أفكار: "بدونها لست أدرى كيف أعيش". وهي وسيلته الوحيدة أيضا للبقاء والخلود: "أخاف أن أموت بدون الذكرى.. بدون ترك قيمة لحياتي على هذه الدنيا".

خطط خان كثيراً للعودة إلى مصر لتحقيق حلمه في العمل بالسينما، ونجح فعلاً في العودة، لكن بتطبيق خطة قاسية للغاية، تحملها في سبيل السعي وراء شغفه الكبير: "أعمل يومياً من الساعة التاسعة صباحا إلى الخامسة والنصف في أحد المحلات الكبرى، كبائع، ثم انتقل بعد ذلك مباشرة إلى عمل آخر كغرسون في أحد المطاعم حتى الثانية عشرة ليلاً، ليست هناك إجازة بالنسبة اليّ".


جمع خان المبلغ المطلوب ونجح في العودة فعلاً. لكن ظروف عائلته أجبرته على العودة مجدداً إلى لندن، من دون أن يحقق أي شيء في المجال الذي أحبَّه. هناك، واجه ظروفاً أقسى، واضطر للعمل في عدة أعمال قاسية ليساعد نفسه وعائلته.

في رسائل العودة الثانية، شكك خان كثيراً في إمكانية تحقيق أحلامه التي تبتعد يوماً بعد آخر: "لقد بدأت أيأس. لم تكن من عاداتي الجلوس في حجرتي لأيام كاملة لا أخرج منها إلا للأكل وانتظار البوسطجي". لكنه في الوقت نفسه لم يتوقف أبداً عن مشاهدة الأفلام ومتابعة كل تطور في تلك الصناعة، وموافاة صديقه بتقرير واف عما شاهده من أفلام وعن أي تطور ملحوظ قد يفيده. زوّده بعشرات المجلات والملصقات والمقالات التي تكشف عن ثقافة موسوعية وشغف لا حدود له: "لا أخرج إلا لمشاهدة فيلم ما، وأعود لأقرأ وأفكر.. أحلم.. أعيش في الحياة التي لا أريدها.. أخرج الأفلام في عقلي".

مجدداً، يطبق خان الخطة نفسها، ليعود إلى مصر بعدما حصل على وعد من صلاح أبو سيف بالعمل معه في الشركة العامة للإنتاج السينمائي: "سأحاول العمل مباشرة كشيال.. نعم شيال.. في أحد المخازن والأجرة 11 جنيه أسبوعياً.. يعنى حاحوش على الأقل 7 جنيه.. في شهر 28 جنيه، في شهرين 56 جنيه، في ثلاث أشهر 84 جنيه.. كما ترى، المدة تطول، لكن خلال هذه المدة الطويلة ربنا يفرجها. صدقني إن عودتي هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ مستقبلي، إذا مكثت هنا في انكلترا التي بدأت أكرهها كراهية عمياء.. فسأصبح إما كاتباً أو شيالاً أو حماراً طول عمري".


هذه المرة تعطلت أيضاً أحلام خان، وواجهته الصعوبات نفسها التي كانت في الرحلة الأولى، فاستقل باخرة إلى بيروت، سعي آخر تجاه أحلامه التي لا تتوقف أبداً، حيث عمل كمساعد مخرج في الأعوام من 1964 إلى 1966، وشارك في أفلام عديدة، منها: "الليالي الحلوة" مع المخرج جمال فارس، و"الرهينة" إخراج يوسف معلوف، و"إنتربول في بيروت" إخراج كوستانوف، و"مغامرات فلفله" إخراج فاروق عجرمة. لكنه سئم أيضاً نوعية الأفلام التي كان يعمل فيها، ووصفها في ما بعد بأنها كانت فارغة من أي أحلام "ومرصصة بالتفاهات" تحت ادعاء أنها سينما التسالي. فعاد أدراجه إلى لندن ليواجه سنوات اليأس، عقب نكسة 67، وأصبحت طموحاته الفنية مهددة بالفناء، إلى أن عاد مرة أخرى ليحقق حلمه أخيراً ويخرج أول أفلامه "ضربة شمس"، لتبدأ بعدها رحلته الكبيرة التي أثمرت عن حوالى 25 فيلماً وأصبحت من علامات السينما المصرية منها: "الرغبة، الثأر، موعد على العشاء، الحريف، خرج ولم يعد، عودة مواطن، زوجة رجل مهم، أحلام هند وكاميليا، مستر كراتيه، يوم حار جداً، أيام السادات، كليفتى، بنات وسط البلد، في شقة مصر الجديدة، فتاة المصنع، قبل زحمة الصيف".


(*) سعيد شيمي أحد أهم مديري التصوير السينمائي في العالم العربي. ولد العام 1943 في حي عابدين في القاهرة. عشق السينما والتصوير منذ طفولته، فصوّر أول أفلامه على شريط 8 مللم، وهو في العشرين من عمره. تخرج في المعهد العالي للسينما، واشترك كمتطوع في تصوير أحداث حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر. وهو أول من صور سينمائيًا تحت الماء في العالم العربي.
صوّر سعيد شيمي حوالى 75 فيلمًا تسجيليًّا وقصيرًا، و108 أفلام روائية طويلة، من أهمها "ضربة شمس" و"سواق الأتوبيس" و"الحريف" و"جحيم تحت الماء" و"العار" و"البريء" و"الحب فوق هضبة الهرم"، كما أصدر أكثر من عشرين كتابًا في مجال التصوير السينمائي.

(**) كتاب "خطابات محمد خان إلى سعيد شيمي" صدر الجزء الأول منه بعنوان "مشوار حياة" عن دار الكرمة. وتقيم الدار حفلة توقيع للكتاب بحضور سعيد شيمي، السبت الأول من أيلول/سبتمبر المقبل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها